باراباس #2

خواطر برصاء

ازداد رنين أجراس الأبرص اقترابا . عرفت الأجراس ، لقد اعتاد أن يصعد الى هنا حين يسدل الليل أستاره، على الرغم من ان هذا ممنوع ، اذ يتعين على المرضى بالبرص ان يظلوا في العزل القائم في بطن الوادى ، لكنه يغامر ويخرج فى الليل . وكأنه يبحث عن زمالة البشر ، ولقد قال مرة، ان هذا هو السبب . ولمحته وهو يتلمس طريقه بين النائمين على ضوء نجوم الليل .

مملكة الموتى … ترى ما حقيقتها ؟ قالوا ، انه يجول الآن في مملكة الموتى …ما شكلها ؟ لا ، ليست لديها أية فكرة …اخذ الرجل العجوز الأعمى يئن في نومه . وعلى مسافة منه اخذ الفتى الهزيل يلهث ، الفتى الذى يمكن سماع صوته دائما . وعلى مقربة منها رقدت المراة القادمة من الجليل ، المراة التى تتشنج ذراعها لأن روحا تسكنها . رقد حولها كثيرون ممن اعتقدوا أنهم سيشفون يفضل مياه النبع . آذلك كان هناك مساكين يائسون يتعيشون على كومات النفايات . اما فى الغد فلن يبقى هنا من يتعذب ، كانوا يتلوون فى نومهم لكنها لم تعد تقلق عليهم .ألا يحتمل أن يهبط ملاك ويتنفس في الماء فينقيه ؟ ألا يحتمل ان يشفوا حقا حينما يغطسون في هذا الماء ؟ بل قد يشفى المرضى بالبرص أيضا ؟ ولكن هل سيسمح للبرص ايضا بالنزول الى النبع ؟ هل سيسمح لهم حقا ؟ لا أحد يعرف حقيقة الوضع بالتأكيد … لا ، الواقع أن ما يعرفه المرء محدود جدا …

ريما لن يطرأ على النبع أى تغيير ، بل ريما لن يهتم به أحد . ربما طاف الملائكة بوادى جى هينوم [1]كله وبالارض كلها ، مكتسحين بأجنحتهم المرض والحزن والبلوى !

وفكرت فى رقدتها : ربما حدث هذا . ثم فكرت في اللحظات التى التقت فيه به وتحدثت معه . فكرت فى مدى عطفه عليها . لم يعطف عليها أحد بهذا القدر قط ! كان من الممكن ان تطلب منه أن يشفى عاهتها ، لكنها لم ترد ذلك . لكنها لم ترد أن تسأله .  انه كان يساعد من يحتاجون الى المساعدة حقا ، كان يقوم بالمهام الجسام . لذا لن تشغله بمشكلتها التافهة .لكن ، ما أغرب ما قاله لها حينما ركعت على التراب ، عند قارعة الطريق ، عندما استدار وعاد أدراجه متجها اليها !سألها : هل تتوقعين انت أيضا ، أن آتى لك بالمعجزات ؟

–  لا ، يامولاى ، لا أتوقع . وانما كنت أرقبك وأنت تمر .

واذا به يرمقها بهذه النظرة الرقيقة ، الحزينة فى الوقت نفسه . وهو قد ربت على خدها ولمس فمها دون أن يحدث له أى شئ . وبعدها قال : ستشهدين لى .

ما أغرب هذا . ماذا يعنى ؟ تشهد له ؟ هى تشهد له ؟ غير معقول .أنى لها ذلك ؟

واذا كان من الصعب على الجميع أن يعرفوا ما جال بخاطرها، لكنه عرف هو على الفور كل ما حدثت نفسها به . لكن ، ليس فى هذا ما يستوجب الدهشة ، فهو المسيح .

مرت بها شتى الخواطر قى خلال رقدتها هذه . و النظرة التى ارتسمت فى عينيه وهو يحدثها ، رائحة يده وهى تمس فمها .. وكانت النجوم منعكسة فى عينيها المفتوحتين عن آخرهما ، واستغربت حين وجدت أنها كلما أمعنت النظر في السماء زاد عدد النجوم وزاد … منذ ان كفت عن الحياة داخل بيت وهى ترى كثيرا من النجوم .. ترى ما كنه هذه النجوم ؟ لا تدرى ! انها من صنع الله

واستغربت حين وجدت أنها كلما أمعنت النظر في السماء زاد عدد النجوم وزاد

بالطبع ، لكن ما كنهها ؟ لا تدرى ! فى العراء ، فى الصحراء ، نجوم كثيرة جدا … وفي الجبال .. فى الجبال عند الجلجثة … أما هذه الليلة فلا ، هذه الليلة لا ..

ثم فكرت في البيت الرابض بين شجرتى الأرز .. أمها تقف على عتبة الباب تشيعها ببصرها وهي تهبط التل واللعنة تطاردها .. اوه ! نعم ، كان عليهم أن يطردوها بالطبع ، وكان عليها ان تحيا مثلما تحيا الحيوانات فى اوكارها ! ..

وتذكرت كيف كانت الحقول خضراء فى ذلك الربيع ، وأمها تقف تشيعها ببصرها ، تقف داخل المدخل المظلم حتي لا يلمحها الرجل الذى اطلق اللعنة ..

لكن ، لا يهم هذا الآن ، لم يعد أى شئ يهم الأن .

ونهض الرجل الأعمى من رقدته وجلس يصيخ السمع ، لقد استيقظ وسمع أجراس الأبرص .

وصاح وهو يلوح يقبضته له ، في الظلام ، ابتعد ! ابتعد ! ماذا تفعل هنا ؟

وخف صوت الأجراس فى الظلمة ورقد الرجل العجوز من جديد وهو يتمتم ، ويده على عينيه الخاويتين .

هل يعيش الأطفال الموتى فى مملكة الموتى أيضا ؟ نعم ، لكن من المحقق أن هذا لا ينطبق على الأطفال الذين يموتون قبل أن يخرجوا من الرحم ، لا يمكن ان يحدث هذا ، أليس كذلك ؟ لا يمكن أن يتعذبوا هناك ، لا يمكن ان يحدث هذا ، أليس كذلك ؟ لكنها ليست واثقة … ليست واثقة ، من أى شئ .. اللعنه على جنينك …

لكن ، وفجر العصر الجديد يبزغ – الا يحتمل أن تنتهى اللعنات من تلقاء نفسها؟ ريما يحدث هذا .. لكن لا يمكن أن يقيم المرء برأى ..

–  اللعنة … على … جنينك ..

وارتعشت ، وكأنما مسها برد و لقد تاقت كثيرا للصباح ! الا يمكن أن يصبح بسرعة الآن ؟ لقد طالت رقدتها هنا ، ألا يوشك الليل أن ينتهى ؟ بلي لم تعد النجوم التى تعلوها بالصورة التى كانت عليها ، كذلك غاب الهلال وراء التلال منذ فترة طويلة . كما تغير الحرس لآخر مرة – لقد رأت الشعلات عالية فوق أسوار المدينة ثلاث مرات حتى الآن . نعم ، لا بد ان الليل قد انتنهى . آخر

الليل . والآن ، تصعد نجمة الصباح فوق جبل الزيتون ! عرفت النجمة على الفور ، كانت ضخمة جدا وصافية جدا ، اضخم بكثير من الأخريات . لم يسبق لها قط أن رأتها تلمع على هذا النحو . وأطبقت يديها على صدرها الهزيل. ظلت تتطلع الى النجمة لفترة ، بعينيها المتوقدتين .ثم نهضت بسرعة وغابت في الظلام .

===

[1] كلمة جي تعني الارض بالعبرية واليونانية، فيكون جي هنوم هو نفسه وادي هنوم المذكور في العهد القديم وهو كان موضع النفايات وكان مرتعا للنيران والديدان طوال الوقت ومنه اخذت كلمة “جهنم” موضع العذاب حيث النار لا تطفأ الدود لا يموت.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s