هل سمعتم عن “إيهاب ب “؟
إذاً فأنتم كذلك لا تعرفون الراهب افلوجيوس .
لا بأس فى ذلك فقد عزمت على أن أروى لكم ما حدث مع إيهاب هذا. فبينما هو يخطط ويحاور و يناور ، كان الرب يعمل بصورة خفية ، من أجل تأمين مستقبله ، وتحقيق مشيئته فيه .
ايهاب طالب بطب قصر العينى و”ايناس” كانت فى نفس الكلية بل فى نفس القسم وتعلقت نفس إيهاب بها، و أحبها من كل قلبه ، وكثيراً ما منى نفسه بأن تشاركه حياته مستقبلاً ، وفى ذلك البيت يستضيفا المسيح ويصنعا له عرشاً جميلاً فى قلبيهما قبل منزلهما ، ليبارك ذلك البيت ويصبح له فيه النصيب الاكبر، يملأ حياتهما ويقدس أفكارهما ، ويتقبل منهما أولادهما هدية مرضية ، ويصلا معاً عن طريق الجسد الواحد إلى الفكر الواحد والقلب الواحد لتحقيق الهدف الواحد ، ألا وهو محبتها للمسيح . وبات يحلم بذلك ويتعجل الوقت لتحقيق هذه الأمنية .
فى الوقت ذاته ، كانت (إيناس) تتردد على أحد أديرة الراهبات بمصر القديمة ، وتقضى بعض أجازاتها كخلوة روحية فيه ، تجلس مع الأمهات تحكى لهن عن العثرات فى الكلية ، وتشتكى من بعض الفتيات المستهترات ، وعن غياب المسيح من الأسرة الجامعية ، والعالم الشرير ومخافة الله التى قلّت فى القلوب .
وباتت تمنى نفسها بحياة تخلو مما لا تتمناه ، وكيف ستحبس ذاتها فى القلاية الصغيرة والبسيطة، وكيف ستكون تلك القلاية أجمل وأوسع من شقة فاخرة يغريها
بها شاب يتقدم للإرتباط بها ..
وسوف تسهر فى القلاية كل ليلة حتى موعد التسبحة ، وسوف يكون خروجها نادرا … تقرأ وتصلى وتتأمل وتدرس، حيث ستكون الفرصة متاحة ، لاسيما وأن ظروف الدراسة وكذلك ظروف سكن العائلة لا يمكنها من الإختلاء كثيراً بنفسها مع الله.
وكانت تقول لنفسها بين الحين والحين: متى يأتى ذلك اليوم الذى تنتهى فيه (سنة الامتياز) لكى أنطلق إلى الدير أمكث فيه ولا أتركه وأنعم فيه بالدفء الروحى ، وأنهل من نبع الحكمة والفضيلة، وأترك العالم لأولئك الذين يستطيعون العيش فيه.
ولم يستطيع إيهاب أن يفاتح إيناس فى رغبته ، قبل نتيجة البكالوريوس، حتى إذا ظهرت ونجح كليهما، تشجع وصار برغبته فى الارتباط بها… وظهرت فرحتها بذلك ولم يقدر خجلها على إخفائها، ولكنها قالت كمن أعدت الإجابة مسبقاً: (أرجو أن تناقش هذا الأمر مع أب إعترافى) ثم دلته عليه فى إحدى كنائس شبرا. وهناك صارحه أب اعترافها بانها تفكر منذ سنوات فى الرهبنة. وأنها تتردد على الدير منذ فترة بعيدة أيضاً ، وأنه يبارك هذا القرار لاسيما وأن الامهات هناك يشعرون بارتياح تجاه رغبتها هذه.
وصدم ، وعاد إلى بيته وأغلق على نفسه باب حجرته . وصلى باكياً إذا لك يكن يعرف ماذا يصنع، لاسيما وانه قد علق أمان كثيرة على هذا الامر، وهو أيضاً وان كان يرغب بقوة فى الفوز بها، إلا أنه فى ذات الوقت لا يريد الوقوف امام رغبتها المقدسة لئلا يلام ولئلا يدان كذلك.
وصلى كثيراً .. وتأثر .. واستراح إلى فكرة أخرى، ألا وهى أن يذهب إلى والدها ليتكلم معه ويسمع رأيه فى هذا الأمر . وهناك وجده حزيناً . حائراً .. مكدود الفكر، لكونه لم يستطع ان يثنى ابنته عن عزمها ، لقد حاول معها بشتى الطرق ، وبإغراءات كثيرة .
و عرف كذلك إن كثيرين قبله تقدموا لها ، ولكنها اعتذرت بحجة عدم تناسب الوقت إلى ان صارحت أسرتها بعزمها على الالتحاق بالدير .
ومع ذلك فقد فرح والدها عندما أحس ان “إيهاب” يعرض مساعدته فى هذا الشان.
وأعاد الكرة وحاول معها … ولكنها كانت مسبية بفكر الرهبنة الذى اختمر فى ذهنها ..
وكانت تتكلم عن الدير والحياة النسكية بطريقة (محمومة) اكثر ما لو كانت تتكلم عن شاب سوف تتزوجه .
ومرت شهور الامتياز شهر بعد آخر وقررت ان تولى ظهرها للعالم ميممة شطر الدير، واختارت صباح احد الأيام لتجعله آخر يوم لها فى العالم ،وانطلقت لتختفى عن صخب العالم وضجيجه فى الدير . وتأثر إيهاب جدا ، وبات يفكر فيما حدث كلما خلا إلى نفسه ، وحاول تعليل ذهابها إلى الدير (لتموت) هناك كما عبرت له إحدى الآمهات ذات مرة ، وعاد ليسأل نفسه :
ولماذا تنسلخ من العالم وهى مازالت غضة، كوردة منفتحة على العالم؟ ولماذا تحرم ذاتها لذات كثيرة وخيرات متعددة؟ …
ترى ماذا فى الدير وفى الرهبنة أجمل من الزواج ومباهج العالم؟ اما كان يمكنها الجمع بين الزواج والمسيح؟
وهدّه التفكير .. وانقطع أياماً عن الطعام والحديث مع الأخرين .. ثم هداه تفكيره إلى انه سيحاول مقابلتها فى الدير والتحدث معها ..
ليس ليثنيها عن عزمها ، وإنما ليستوضح الأمر منها.
وهناك لم يستطع مقابلتها ، بل نصحته الأم الرئيسية بعدم تكرار المحاولة ، كذلك تحدثت معه عن خلاص نفسه واهتمامه بمستقبله الأبدى ، وعدم التشويش على أفكار (إيناس) بل عليه ان يصلى لأجلها إن كان يحبها محبة حقيقية ويطلب لها من الرب ثباتها فى الرهبنة .
ولم يفكر فى الاقتران بسواها .. بل ذهب الى احد الاديرة وراح يسأل كل من يقابله من كهنة ورهبان عن رأيه فى هذا الأمر .. وتحدث مع الأباء هناك عن متاعبه وعثرته فيما حدث واستراح قليلاً، ووضحت امامه بعض النقاط الغامضة ، وهنىْ بالليلة التى باتها هناك، وعاد مرة أخرى بعد شهرين إلى وادى النطرون. وجعل تردده يزداد … فأصبح يرتاد الدير مرة كل أسبوع ، وشعر بمحبة الأباء وحنوهم، وأحبهم هو بدوره، كذلك شغف ببستان الرهبان وسير الآباء .
وفى شهر مارس وخلال الصوم الكبير استطاع الحصول على أجازة مدتها ثمانية ايام ، قضاها بالدير وعدّها أجمل ثمانية أيام فى حياته، وأحس الأباء بأنه شاب مبارك ، وإناء مقدس للعمل النسكى ، كذلك أحس هو (بجنين رهبانى) يتحرك فى أحشائه ، ونما هذا الجنين، وغذاه هو بالخلوات والقراءات ، وصلى كثيراً لاجله وأخذ مشورة آباء كثيرين مختبرين .
وكف عن متابعة أخبار (إيناس) ، بل لم يأبه كثيراً عند سماعه بخبر إرتحال أسرتها إلى مسكن آخر بأبى قرقاص ، وإنما صلى ذات مرة لأجلها ليحفظها الرب ويخلص نفسها ويعدها للملكوت .
وغشى فكر الرهبنة حياته، وتحددت به كل آماله القريبة كقنطرة يعبر بها إلى الميناء الأبدى .
وزهد فى كل شىء..
وأخيراً قرر مع القائمين على الدير ومع أب اعترافى ، الالتحاق بالدير ، وأقبل على حياته الجديدة بفرح وشهية دائمة ، وكان كلما تذكر قصته مع (إيناس) ضحك من نفسه وشكر الله الذى كان يقوده فى درب الخلاص والمجد ، بل وشكر ذهابها إلى الدير واعتبره احد أسباب رهبنته .. وأخيراً نسى امرها كلية.
وفى السنة الثانية لرهبنته ، وبينما كان أمام (الفرن) يصنع الخبز ، قيل له هوذا بعض أقاربك يسألون عنك، فلما إنتهى من إتمام عمله مضى الى دار الضيافة ليلمح عن بعد، رجل وزوجته ومعهما طفلتهما الصغيرة ، اتدرى من كانوا أولئك الضيوف؟
لقد فوجىء هناك بإيناس وزوجها اللبنانى (غسان زاهد) وطفلتهما مارجريتا البالغة من العمر ثلاث سنوات !!!
وروت له ماحدث معها في شجاعة وبساطة فقد تركت الدير في السنة الثانية لالتحاقها به إذ اكتشفت مع الأمهات هناك ان الرهبنة ليست طريقها وانها لم تصارح اب اعترافها بـكل شيء وانها كانت مسبيّة بفكر الرهبنة .
ورأت أنه من غير الحكمة ان تضيع وقتها في الدير من دون ثمار بل الأفضل لها ان تحيا حياة طبيعية في العالم وتثمر أكثر مما لو عاشت في الدير متغصبة وسافرت مع زوجها إلى لبنان…
ومرت سنة واحدة على هذه الزيارة .
وعندما عادت لتزوره مرة أخرى مع زوجها وابنتها عندما كانوا في زيارة للقاهرة اعتذر الاب افلوجيوس عن مقابلتهم لأن ذلك اليوم كان من الايام التي لا يخرج فيها من قلايته .
ورأت هي بالتالي أنه من اللائق ألا تزعجه بالزيارة فيما بعد واكتفت بأن تركت له بطاقة تحمل اسمها ومن الخلف كتبت له ترجوه ألا يكف عن الصلاة لأجلها ولأجل مشاكلها الأسرية … ولكي تحفظهم الرب ويقبل حياتهم ذبيحة حب مرضية أمامه .
وفي القلاية قرأ الأب افلوجيوس البطاقة ثم مزقها في هدوء وقام ليصلي عنهم وعن الآخرين .