قبض عليهن الشيوعيون وزجوا بهن في إحدى معسكرات التعذيب , حيث كان يتحتم عليهن الاشتراك في أعمال شاقة لا تتناسب مع إمكانياتهن وطبيعتهن .. وقد استطعن أن يشهدن للمسيح هناك ولم يرضخن ، رغم ما تعرضن له من آلام وضيق .
ففي صيف سنة 1929 م أحضر إلى سلوفاكيا ، ثلاثون من الراهبات ، ينتمي أغلبهن إلى دير شاموردينو ، ولم يسمح المسئولون في المعسكر ، بأن ينزلن في سجن النساء ، ولكنهم وضعوهن في سجن منفرد .
ولما راح الحراس يطابقون بياناتهن على ما هو مدرج بقائمة الاعتقال التي جئن بها ، رفضت الراهبات الإدلاء بالبيانات الخاصة بهن، مثل بيانات عائلاتهن و أعمارهم وأماكن سكناهم ، وبعد صراع مع الحراس وتهديد وضرب ، تم عزل كل منهن في مكان منفرد ، حيث تعرضن للجوع والعطش .
ولكن الراهبات لم يتأثرن ، إنما على العكس من ذلك كن على قدر كافٍ من الشجاعة ، إذ رفضن العمل بالسخرة (أعمال التسخير) .
وبعد أيام وصل أحد الأطباء (هو الدكتور زيزيلنكو Dr. Zhizhlenko طبيب سجن تاجانكا Taganka في موسكو ، قبل الرهبنة سراً ، بل أصبح فيما بعد أسقفاً باسم مكسيم) إلى المعسكر قادماً من سجن تاجانكا حيث يعمل هناك ، يصحبه طبيب آخر (هو طبيب آمن بالمسيح سراً وكان يعمل في المعسكر) يعمل في نفس معسكر سلوفاكيا ، حيث أمرهما القادة هناك بتوقيع الكشف الطبي على الراهبات ، لمعرفة مدى قدرتهن على العمل بالسخرة.
وقد قدم الطبيبان تقريراً يفيد بأنه لا قدرة للراهبات على العمل في مثل تلك الأعمال الصعبة، وهكذا وجدت الجهات الإدارية نفسها – ولأول مرة – في حرج شديد ، لأن التصرف المعتاد مع أولئك الذين يرفضون العمل بالسخرة هو التعرض للتعذيب ، ربما حتى الموت ، إذ كان المتمردون يرسلون للنفي إلى جزيرة أنزرسك ، التي لم يعد منها أحد حياً أبداً !
ومما يثير العجب أن أولئك الراهبات لم يرسلن إلى هناك ، وعندما وجّه الطبيبان المذكوران هذا السؤال إلى مدير القطاع الطبي في المعسكر أمرهم الالتزام بالصمت (يبدو أنه كان مسيحياً في السر ، وهو الذي أوحى إلى الطبيبين بإعفاء الراهبات من العمل بالسخرة) .
حين دخل الطبيبان إلى المعسكر حيث توجد الراهبات ، شد انتباههما الرصانة غير العادية للراهبات و سلامهن وتماسكهن ، وهن في ملابسهن الرهبانية البالية والمرقعة والنظيفة ! ، كان هناك حوالي ثلاثين منهن ، ويمكن تقدير عمر كل منهن بحوالي الثلاثين ، كانت وجوههن ملائكية ، فرح في الحزن ، حتى حزنهن كان حزناً مجيداً !! ، أما اتضاعهن فقد كان يشف جمالاً روحياً يستثير الشعور بالندم العميق (على أسرهن) والإجلال لهن .
يقول الدكتور المكلف بالمسئولية الطبية عنهن في المعسكر :
أن الطبيب المكلف و المنتدب من قبل القطاع الطبي في المعسكر والذي كان يرافقهن طلب أن يخرج لكي لا يسبب لهن أي مضايقة ، وبقيت أنا وحدي معهن .
– يوم سعيد يا ماتوشكي Matushki قلت هذا وانحنيت أمامهن .
وفي هدوء أجبنني بإنحناء أكثر حتى الوسط .
– أنا طبيب ، أرسلت لأفحصكن .
( أصوات كثيرة قاطعتني) .
– نحن بخير ولسنا في حاجة لكي تفحصنا.
– أنا مؤمن ، مسيحي أرثوذكسي ، وأنا هنا في المعسكر كسجين بسبب انتمائي للكنيسة.
( فقلن معاً ) :
– المجد لله .
ثم أردفت قائلاً : أنني أفهم سبب إضرابكن عن العمل ، وأنني سوف أصنفكن ضمن فئة غير القادرين على العمل ، وإلا فإن إدارة المعسكر سوف ترسلكن إلى عمل أصعب ، ولكنهن أفهمنني أنهن لن يعملن ، سواء أكان العمل سهلاً أم صعباً ، فسألتهن في دهشة :
– لماذا ؟
– لأننا لا نريد أن نعمل لنظام ضد المسيح.
فسألتهن – وأنا مضطرب – عن السبب في ذلك، ثم أفهمتهن أنه في سولوفكي هنا، كثير من الأساقفة و الكهنة وكل منهم يعمل على قدر قوته ، وعلى سبيل المثال فإن أسقف (فياتكا Vyatka) يعمل كعامل مكتبة في مصنع للحبال ، وفي قسم الفضلات يقوم كثير من الكهنة بالعمل في نسج الشباك، وفي أيام الجمع كانوا يعملون 24 ساعة ينتهوا من حصتهم ، حتى يتسنى لهم الاستفادة بليلة السبت و يوم الأحد في الصلاة والتسبيح ، ولكن الراهبات مع ذلك ردَدْن بأنهن لن يعملن لنظام ضد المسيح، فهدأت من روعهن قائلاً أنني وبدون فحص سوف أصنفهن ضمن غير القادرات على العمل البدني الشاق ، فقلن:
سامحنا .. لا .. نحن في غير احتياج إلى مثل هذا التقرير ، فإننا سوف نقول للمسئولين أن التقرير غير سليم و أننا قادرات على العمل ولكننا لا نريد ، لأن هذا العمل هو لنطام ضد المسيح وأننا لن نعمل ولو إضطررنا إلى تقبّل الموت .
إنهم لن يقتلوكن ولكنهم سوف يعذبونكن حتى الموت (قلت هذا في همس وبوجع قلب ، لأن الخطر فوق الرؤوس) .
فقالت واحدة من الراهبات الله سوف يساعدنا على تحمل العذاب أيضاً. وعند ذلك طفرت الدموع من عيني وإنحنيت أمامهن في هدوء، بل إني أردت أن أنحني لهن إلى الأرض وأقبل أقدامهن.
في خلال أسبوع من ذلك الوقت ، دخل المسئول عن القسم الصحي ، إلى مكتب الأطباء ، وأثناء حديثه معنا ألمح إلينا أنهم قد تعبوا مع هؤلاء الراهبات ، وإنهم اتفقوا معهن أخيراً على العمل في الحياكة والترقيع ، للسجن الرئيسي ، ولكن تحت شروط (وضعتها الراهبات) أن يكن مع بعضهن البعض، وأن يسمح لهن بالترتيل أثناء العمل ( وقد وافق قائد المعسكر بالفعل على طلبهن).
وقد عشن في عزلة عن الجميع حسب رغبتهن ، حتى عنا نحن الأطباء ، الذين لهم حرية التنقل وعمل صداقات كثيرة بحكم عملنا الإنساني ، فقد ظللنا فترة طويلة لا نعرف عنهن شيئاً ولم يحتجن أي معونة طبية منا.
غير أنه قد تيسر لنا معرفة الفصل الأخير من مأساتهن !! ففي إحدى القوافل من الأسرى الآتين إلي سلوفكي، جاء كاهن ، أصبح الأب الروحي لبعضهن ، وبالرغم من صعوبة الاتصال بين الكاهن و الراهبات ، طبقاً لظروف وقوانين المعسكر ، إلا أن الراهبات إستطعن بطريقة ما الاتصال به لطلب الإرشاد والمعونة .
كان تساؤلاتهن منحصرة في الآتي ( ها قد أتين إلى المعسكر لنعاني ، وها نحن نعمل في هدوء ونرتل معاً ونصلي ونشعر بالمتعة والفرح ، ولكن ترى هل أصبنا في قبول العمل لغير حساب المسيح ؟ أم يجب علينا أن نعتزل مثل هذا العمل أيضاً ؟ ) .
أما الأب الروحي ، فقد أوحى إليهن بأنه من اللائق الامتناع عن العمل، وهكذا فقد تركن العمل بشجاعة وهدوء، ولما بحثت إدارة المعسكر عن السبب في هذا التغيير الطارئ ، توصلت إلى حقيقة ما حدث ، ومن ثم فقد أطلقوا النار على الكاهن فمات شهيداً للمسيح، وعندئذ صرّحت الراهبات بأنه ما من أحد الآن يستطيع أن يعفينا من قرار الإمتناع عن العمل .
أما إدارة المعسكر والتي مارست في الحقيقة الكثير من الصبر وضبط النفس تجاه هؤلاء الراهبات ، فقد قامت بعزلهن الواحدة عن الأخري، و عبثاً حاول البعض تتبع أخبارهن فقد اختفينا دون اثر. ولكن بعد سنوات استطعنا ان نستقي بعض المعلومات عن نهاية حياتهم عن طريق سجين أمريكي في معسكر آخر حيث ألقي لنا بعض الضوء علي أخبار بعضهن.
اللالىء الثلاثة:
( معجزة راهبات شاموردينو )
روى السجين الامريكى- وكان الحديث قد تحول بين الجلوس الى أمور الدين – فقال سمعت عن حديث عجيب يقولون عنه معجزة ! دثت لتوها فى فركوتا, رواها لى بعض الجنود بلهفة وعجب شديدين، أثبتا بلا شك أنه حتى الستار الحديدى لم يقدر أن يبعد الله عن البلاد وعن عقول وقلوب الشعب.
ففى شهر نوفمبر من عام 1950 م أى بعد وصولنا الى المعسكر بأيام, وصلت ثلاث راهبات محكوم عليهم بالأشغال الشاقة, جدير بالذكر ان الاف السجينات اللائى فى فركوتا , لم يعملن فى المناجم ولكن كن يعملن الاعمال البسيطة , وأما الراهبات فقد أسند اليهم العمل فى ورشة تصنيع الطوب المستخدم فى أعمال الانشاءات فى كل القطب الشمالى التابع لروسيا.
ولكن الراهبات الثلاث رفضن العمل, وقلن للمشرف على المصنع أنهن يعتبرن العمل للنظام الشيوعى عمل للشيطان, فى حين أنهن خادمات للمسيح ولذلك فلن يعملن, برغم أى تهديد أو عقاب فبعد أن تم تجريدهن من زى الرهبنة، أصبح سلاحهن هو الايمان وحده، وأصبحن مستعدات لمواجهة أى شئ للمحافظة على نذرهن.
كان العقاب أن يأكلن كسرة خبز وحساءا فاسدا, وقد أستمر هذا العقاب لعدة أيام , ومع أستمرارهن فى رفض العمل , كان بنتظرهن عقاب أشد , فقد أشتد غضب القائد, بسبب طول عنادهن , حيث خشى من تأثير ذلك على بقية السجينات وعليه فقد أمر بأن توضع كل منهن فى سترة من الخيش , وعلى أن تقيد أيديهن الى الخلف وكذلك أقدامهن , ثم قام الحراس بشد اليدين الى القدمين بقسوة , حتى أصبت أرجلهن مرفوعة للخلف و أكتافهن مرفوعة ومشدودة للخلف أيضا , فى وضع مؤلم للغاية.
تألمت الراهبات جدا، ولكن فى صمت مدهش لم يخرج منهن أية كلمة تذمر أو احتجاج، كان القائد قد زاد غيظة إبان هذا الاحتمال الصامت، فعمل على زيادة الآمهنّ, فقد أمر أن يصب الماء عليهن حتى أنكمش الخيش فأزداد الالم جدا حتى أغمى عليهن فنمن فى هدوء, بعد ذلك تم حل القيود , فلما تنبهن تم تقييدهن ثانية وفى هذة المرة أغمى عليهن , وكان ذلك بركة من الله حتى لا يشعرن بالالم وقد ظللن لمدة ساعتين هكذا حتى كادت الدورة الدموية أن تتوقف عند أطرافهم من شدة القيود ولما كدن يسلمن الروح , تم حل قيودهن.
ولكن النظام الشيوعى اراد عبيدا للعمل , لا هياكل عظمية فقد تم نقلهن كل هذه المسافة الى فركوتا ليبحثن عن الفحم فى المناجم, لا ليقتلن هناك. فى حالة واحدة كان يتم التخلص من السجينات , ذلك عندما يقل انتاجهن , ومن هنا فقد أراد القائد أن يعذبهن حتى يعملن وأخيرا قرر القائد قتلهن إن أصررن على عدم العمل , فقد أسند لهن عمل ما فى العراء , ولكن الراهبات رفضن ذلك أيضا , ومن ثم فقد أخذهن الى نتوء على جبل جليدى , حيث تركن هناك مقيدات فى الجو القطبى القارص طوال اليوم.
وعند غروب الشمس شوهدن راكعات , فذهب الحراس متوقعين أن يجدوهن متجمدات ولكن يا لدهشتهم اذ وجدوهن سالمات يصلين راكعات.
بعد ذلك أمر القائد أن يؤخذ منهم القفازات والقبعات , على أن يتركن لمدة يوم أخر فى العراء , وقد قضت الراهبات ذلك اليوم أيضا راكعات يصلين فى هدوء ودفء مع أن السجينات اللائى يعملن فى المعسكر يشتكين من شدة البرد , وقد توقع الحراس تجمد الراهبات , لكنهم أندهشوا عندما أكتشفوا أنهن سالمات تماما وتكرر ذلك لمدة يومين فى درجات حرارة تحت الصفر بكثير , وفى اليوم الثالث أخذوا منهن الوشاحات ومع ذلك عدن سالمات أيضا.
عندئذ تأكد الجميع أن الله قد صنع معجزة مع الراهبات الثلاثة , فقد ذاع صيتهن فى جميع المعسكرات وكان لا حديث للناس سوى الراهبات الثلاثة , حتى الحراس المتشددين من معسكرات أخرى كانوا يأتون الى المنطقى الواقع بها مصنع الطوب لكى يشاهدوا الراهبات ويتباركوا منهن بالقرب من جبل الثلج.
من هنا بدأت بقية السجينات , فى الصلاة ورشم علامة الصليب قبل البدء فى العمل أقتداء بالراهبات الثلاث , وقد أدرك القائد بعد ذلك ومعة بقية الحراس أن هناك قوة ليست أرضية تحمى الراهبات وتحافظ عليهن، لذلك تم رفع العقوبات عنهن , وتركوهن للصلاة والعبادة فقط , وكان يحضرن لأنفسهم الطعام وكذلك الملابس , ومع أنهن كن سجينات كانت لهن رية العبادة ولا أحد فى الاتحاد السوفييتى فى ذلك الوقت , وعندما تركت فركوتا بعدها بأربع سنوات ( يقول الطبيب الذى روى المعجزة ) كانت الراهبات ما زلن فى المعسكر , دون أن يعملن ليوم واحد فى مصنع الطوب , وقد بذلن الكثير من الجهد فى تثبيت الايمان فى قلوب وعقول الالاف من المساجين والحراس.
يقول الطبيب لنفسه, بعد ذلك بسنوات , عندما كانت تتاح لى الفرصة للتحدث مع الشيوعيين الاكثر تشددا عن أمور الدين , كلهم بدون إستثناء ذكروا معجزة الراهبات الثلاثة.