مقـدمـة:
انتبه الشيطان فى بداية القرن الرابع، إلى أمر في غاية الخطورة، فقد فوجيء بانه تسبب فى (تصدير) مئات الالاف من الشهداء، إلى السماء، وذلك كنتيجة للأضطهاد الذى أثاره على الكنيسة، عبر ثلاث قرون!، وهى النتيجة التى جاءت عكسية، لما كان يأمله من الاضطهاد، وهو إجهاض المسيحية، والقضاء عليها فى مهدها .
ومن ثم فقد قام بإيقاف الإضطهاد!!، حين صدر مرسوم التسامح الدينى من قبل الملك قسطنطين فى سنة 313م، ومن هنا بدأت الكنيسة فى المعاناة من الشقاقات التى دبت بين أبناء الكنيسة الواحدة، فظهرت البدع والهرطقات وأطل آريوس وغيره برؤوسهم من الجحور! .
كانت الكنيسة أقوى ما كانت، عندما كانت دماء الشهداء ترويها، فقد كان كل رجل أو إمرأة تقبل على الاستشهاد، يترك رسالة هامة ذات طابع إسخاطى (أخروى) للمجتمع الذى كان الششهيد يحيا فيه .
وتكرر نفس ما حدث فى القرن الرابع، ولكن فى روسيا وفى بدايات هذا القرن العشرين، حين أثار الشيوعيون على المسيحين إضطهاداً عنيفاً، فأفرخت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، عدداً هائلاً من الشهداء، لكل منهم قصة إستشهاد، غاية فى التأثير والقوة من ناحية، والغرابة والعجب من ناحية أخرى، فقد كانوا يسخرون من الموت ويستهزءون بمضطهديهم، حتى الأطفال، أعطاهم الروح القدس ، الشجاعة والقوة لإستعذاب الألم وتحدىالموت .
هذه قصة إستشهاد رائعة، لأم راهبة، تشرفت بنوال بركة الإستشهاد فى إحدى معسكرات الإعتقال بفرنسا فى عام 1945م .
نشأتها:
ولدت أليزابيث (هذا هو إسمها قبل الرهبنة) فى ديسمبر 1891م، من اسرة تمتلك مساحات كبيرة من الحقول والمزارع، فى وقت كان فيه عامة الشعب يرزحون تحت ثقل الفقر، ويعانون من البؤس والشقاء، محرومين من ضروريات الحياة، فقد كان أولئك الفلاحين يعملون فى مزارع الأغنياء، وكان الأخيرون يعاملونهم معاملة فيها كثير من الإزدراء والتحقير، فيهبونهم أقل الطعام واللباس فى حين أسكنوهم فى أكواخ حقيرة، إضافة إلى إرهاقهم بما لا طاقة لهم به فى العمل، وعنج أقل خطأ كان ينتظرهم عقاب قاسى .
فى ظل هذه الظروف السيئة من قهر وجوع وبرد لقى عشرات الألوف الموت فى كل عام ، بينما الأغنياء يحيون بطريقة مبالغ فيها(1) ، أثارت حقد عامة الشعب، فأحسوا بالقهر والقسر، مما دفع الكثير منهم إلى التفكير الدائب فى الثورة، للإحاطة بالقيصر وحاشيته، فى حين عمل البوليس السرى من جهته على مطاردتهم وقتل المئات منهم ونفى عشراتالألوف إلى سيبريا
وأما اليزابيث، والتى كانت قد تربت تربية مسيحية فى الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، وبالرغم من ثراء عائلتها، فقد كانت متعاطفة مع الفقراء الذين حولها، وحاولت أن يكون لها دور بناء وإيجابى، بما يتناسب مع طبيعتها وإمكانياتها، مثل العطف عليهم، بأن تهبهم بعضاً من طعامها وملابسها، وكانت برقتها تشيع الأمل والرجاء فيمن حولها .
إن مجرد الرغبة فى عمل المحبة، امر يسر قلب الله، حتى القليل الذى نقدمه، يستسمنه الله ، شريطة أن يكون قد م بفرح. وقدم من الأعواز، لا من البقايا .
تلقت أليزابيث تعليمها الأساسي في منزلها، شانها في ذلك شأن الأغنياء في زمانها، الذين كانوا يجلبون المدرسين إلى منازلهم لتعليمهم، وفى سن الثامنة عشر إتجهت إلى جامعة القديس بيتر سبرج Petersburg، حيث تقابلت هناك مع بعض الطلبة الذين يخططون للثورة.
الثورة الإشتراكية :
ربما تكون أليزابيث قد ساورها الفكر فى الإنضمام إليهم، غير أنها فكرت بطريقة عملية، تناسب طبيعتها فقد اتجهت إلى تعليم الأميين من الفقراء وذلك فى فصول مسائية، حيث لجأ إليها الفقراء والفلاحون ىنذاك فى بعض المصانع خارج المدينة .
كذلك فقد قامت أليزابيث بنظم بعض القصائد الشعرية، تطمئن بها الفقراء والمتألمين من شعبها، وقد أتاح لها تعرفها ببعض كتاب وشعراء عصرها، بتنمية هذه الموهبة فصدر لها كتابان.
فى سنة 1917 م قام الفلاحون والعمال الروسيون ، بقيادة لينين وتروسكاي lenin and trotsky ، بالإنقلاب الذي أطاح بالقيصر وحُكم القياصرة في البلاد، ومن ثم بدأت الثورة الإشتراكية الشهيرة، وفي البداية شعر الناس كرد فعل أولّي للثورة – بالحرية، ولكن قليلاً قليلاً اكتشف الجميع أن الوضع مازال كما كان من قبل، من حيث الفقر والعري والقحط والقهر، مما دل علي وجود خطأ ما! فقد استُبدل الحكام المستبدون بآخرين أكثر استبداداً، ومن ثم.
1-كان القيصر مثلاً ، فى شم النسيم يهدى أولاده البيض المصنوع من الذهب والمرصع بالأحجار الكريمة ، والمحشو باللعب الفضية الصغيرة ، وكانت الأسرة المالكة تسكن فى أعظم خمس قصور فى روسيا ، حيث يحتوى كل قصر منها على أكثر من ألف غرفة .
فقد مات الآلاف من الجوع، وقبض علي عشرات الألوف، وكان مصيرهم القتل والنفي.
هذه هي الظروف التي ولدت فيها الأم ماريا (أليزابيث) وعاشت فيها سني شبابها، ويبدوأنها أحست أكثر بتفاهة العالم وأنه لا شيء ثابت فيه ولا أحد، ولكن الحقيقة الواحدة الوحيدة الثابتة وغير القابلة للتغيّر أو التطور، هي الله (الحق = الحقيقة) ولذلك فقد آثرت أن تربط مصيرها به لتضمن أبديتها وسعادتها.
رهبنتها :
تركت أليزابيث روسيا, واتجهت إلي باريس حيث تعرفت في الكنيسة هناك، إلي بعض الفتيات اللائي عزفن عن الزواج وآثرن البتولية، ومن ثم فقد قامت أليزابيث بالاشتراك معهن، في تأسيس جماعة رهبانية صغيرة أسمينها “Religious order” (الرهبنة الأخوية) حيث عشن حياة بسيطة، وعملن علي كسب قوتهم من العمل اليدوي، علي أن يقضين بقية الوقت في الصلاة والتأمل، وأن يقمن بمساعدة الآخرين، وذلك بقدر ما تسمح به طبيعتهن وإمكانياتهن، وبحسب التقليد السائد فقد أستبدل اسمها إلي الراهبة ماريا “Mother Maria” كان ذلك في سنة 1932م (1) .
ومنذ ذلك الحين، وقد انحصر اهتمامها في محبة الفقراء، فكات تتردد علي أماكن سكناهم في باريس فعملت علي عيادة مرضاهم، وإعانة المحتاجين، بقدر ما تسمح به ذات يدها، من ثم صارت الشخصية الخادمة الباذلة في صمت وحب وفرح، الفلاحين الفقراء عبروا عن ذلك كثيراً بقولهم (أننا أبداً لن ننساها).
أما عن حياتها الشخصية، فقد اكتفت بالثياب السوداء الرثة، وحول رأسها إرتدت الشال البسيط حسب عادتهن، وكانت تلبس حذاء من النوع الرجالي، المتهرئ، ولكنها كانت سعيدة بحياتها، يمتلئ قلبها بالشكر والرضي.
ولم يكن لديها الكثير لتقدمه للفقراء، ولكنها أعطتهم محبتها ولطفها وكلماتها الرقيقة المشجعة، وعندما تيسرت لها بعض الأموال القليلة من بعض الغيورين، قامت علي الفور بإنشاء مستشفي صغير لتعول فيه المرضي والأيتام، يساعدها في ذلك بعض الأمهات الأخريات، وبالرغم من التعب والمجهود المضني الذي كانت تبذله، كانت سعيدة بأن ترسم البهجة علي وجوه الآخرين، هي عبرت عن ذلك
بقولها (فرحتي وقمة سعادتي هي راحة وسعادة الآخرين)(2).
حب بلا حدود :
عندما سقطت فرنسا في يد النازيين بعد نشوب الحرب العالمية الثانية سنة 1940م، تعرض اليهود الذين فيها للإضطهاد العنيف، وتهدّدهم خطر الفناء الشامل، ومن ثم رأت الأم ماريا في ذلك فرصة لمساعدتهم بشتي الطرق المتاحة. فإن المحبة المسيحية لا تعرف حدوداً ولا تفرق بين شخص وآخر، فالمحتاج والمريض هو إنسان وحسب، بغض النظر عن جنسيته ومعتقده، إنه رمز البشرية المعذبة المحتاجة.
(1) بالطبع لم تلحق أليزابيث بأحد أديرة الكاثوليك ولكنها عاشت مع بعض الفتيات الأرثوذكسيات حياة رهبانية داخل إطار خاص بهن.
(2) هناك نوعان من الرهبنة، إحداها الرهبنة العابدة، والتي يلتزم فيها الراهب قلايته حيث يتحدد دوره تجاه العالم، في الصلاة لأجله، والثانية الرهبنة الخادمة وهي التي يضطلع فيها الراهب بالقيام ببعض الأعمال التطوعية مثل التدريس وخدمة المرضي ورعاية المحتاجين، ويغلب هذا الاتجاه علي معظم رهبنات الغرب.
فالله يعطي الكل بسخاء، فإنه يشرق شمسه علي الأشرار والصالحين ويمطر علي الأبرار والظالمين (مت 5: 45)، حتي أولئك الذين ينكرون وجوده، فعطية الله قائمة علي أساس تحننه لا علي أساس تحننه لا علي أساس احتياج الإنسان أو إستحقاقه أو طلبه !!!.
اضطهاد اليهود :
اعتقد هتلر ومعه القادة النازيين Hetler and Nazins، أن الشعب الألماني هو شعب متميز وسيد لكل الشعوب، فقالوا أنهم مخلوقون لحكم العالم لآلاف السنين، وأنهم سيدمرون أولاً كل من يقف في طريقهم ثم يحكمون مثل الآلهة، ومن ثم اعتبروا أن بقية الناس من الأجناس الأخري، يجب أن يكونوا عبيداً لهم، بل اعتبروهم جماعة من الفئران، ويتضمن هذا كل المعوقين جسدياً وذهنياً، والمجانين ذوي الأمراض المستعصية، وأكثر من كل هؤلاء وأولئك اليهود، كأنهم أعداء العالم، فبنوا لهم المعتقلات في كل أنحاء أوربا، وطاردوهم في كل مكان وزجوا بهم في السجون وحظائر المواشي دون طعام أو ماء، وفي النهاية كانوا يساقون إلي الموت بطرق وحشية، رغبة منهم في إفناء اليهود من العالم، أطلقوا علي هذه السياسة (الحل النهائي لمشكلة اليهود). إن بشاعة المعتقلات كانت أشبه بالأساطير، من فرط ما كان يجري فيها من ممارسات يأباها الدين والعقل، فقد مات ملايين من الأطفال والنساء المسجونين، بسبب الجوع والبرد والتعذيب البشع عن طريق الجلد أو التعرض للتمزق بين أنياب الكلاب البوليسية المتوحشة والمدربة علي القتل، آخرون ماتوا شنقاً وآخرون ماتوا رمياً بالرصاص، وبالغاز السام في عنابر الموت فالنهاية واحدة لكل الجثث وهي الحرق في أفران كبيرة مجهزة لذلك. حوالي ستة ملايين ماتوا في تلك الأفران، وملايين آخرين من جنسيات أخري، قتلوا لمجرد الاشتباه في ذلك ! أو لمخالفتهم لأوامر الفوهرر هتلر. القبض علي الأم ماريا : هذه هي الظروف التي دفعت الأم ماريا، بأن تغامر بمساعدة اليهود المساكين، فحين أعلنت السلطات النازية مطاردة اليهود في باريس، قررت أن تجعل من المستشفي الصغير الذي أنشأته، ملجأ لأولئك المطاردين، وحاولت أن تجعل هذا العمل في غاية السرية، ولكن عدو الخير أهاج عليهم المضطهدين، ففي ظل التضييق الشديد للسلطات النازية، والنشاط غير العادي للمخابرات الألمانية، فيما يسمي بفريق الجستابو المخيف The dreaded Gestapo، تعرضت للخطر. فإنكشف أمر المخبأ (المستشفي) الذي إلتجأ إليه أعداد غفيرة من اليهود البائسين، فتم القبض علي كل من فيه وعلي رأسهم الأم ماريا، حيث أرسلت فوراً إلي معسكر الإعتقال المسمي رافنز براك- Ravens bruck، وذلك دون محاكمة، وبالتالي فقد حرمت من الحق الشرعي في التعبير عن الرأي والدفاع عن النفس (1)، وكان ذلك المعسكر من أسوأ المتعقلات الموجودة في ذلك الوقت.
الدولة التي يهان فيها الحق، مآلها إلي الفشل والتخلف (المترجم).
الحياة في معسكر رافنز براك Ravensbruck .
الإحساس العام الذي ينتاب كل من يدخل هذا المعسكر، هو الموت الرابض في أركانه وأروقته، ويتربص بنزلائه، بحيث يبقى المرء – بحد أقصي شهرين أو ثلاثة فقط- علي قيد الحياة في المعسكر. كان المعسكر محاطاً بسياج مزدوج من السلك الشائك، تقوم علي حراسته كلاب بوليسية وحشية مدربة علي القتل، وبين مئة متر وأخري أقيم برج للحراسة والمراقبة، محاط بمدافع ورشاشات، لكي يصبح حتي مجرد التفكير في الهرب أمر مستبعد بل مستحيل.
أما طعام النزلاء فقد كان قليل من الشوربة (المائعة) مع كسرة صغيرة من الخبز (في الغالب كانت عفنة) وفي مقابل ذلك كان يُلزم المعتقلين بالعمل لساعات طويلة فى المناجم المظلمة, منذ الصباح الباكر و حتى مغيب الشمس, و مع استمرار هذا المجهود لعدة اسابيع, كان اكثرهم يسقطون موتى بسبب الإعياء الشديد. والبعض الآخر كان يعمل فى قطع الأشجار من الغابات, ليمدوا حراسهم بوقود التدفئة!!
غير أن أصعب الأعمال و أبشعها هى حفر خنادق كبيرة فى الجبال بعمق واتساع كبيرين, حتى إذا إنتهوا من حفرها, يتم تكديسها بآلاف من المعتقلين الآخرين, دون تفريق فى ذلك بين أطفال رضع فى أحضان أمهاتهم أو شيوخ, حيث يجبرونهم على القفز داخل الخندق, ليقوم فريق آخر من المعتقلين المساكين بردم الخندق عليهم ليموتوا أحياء(1) وكان إختيار المحكوم عليهم يتم بطريقة عشوائية.
وهكذا كان الحال بالنسبة للذين حكم هليهم بالموت خنقاً بالغاز السام، ففي الصباح ينادى الحراس على بعض الأسماء، ويوهمونهم بانهم ماضون إلى الحمام للإغتسال (حيث يظن المعتقلون البؤساء أنه نوع من الترفيه أو التخفيف بسبب حرمانهم من الإستحمام لشهور طويلة) ولكنهم كانوا يروعون عندما يكتشفون بأن تلك الحمامات، ما هى إلا غرف إعدام بالغاز السام، فعندما تمتلئ الحجرة (العنبر) عن آخرها، يتم إغلاقها بإحكام ومن ثم يطلقون فيها ذلك الغاز الرهيب فيلقون حتفهم فى دقائق معدودات. وبعد ذلك تحرق الجثث في افران كبيرة، وبسبب إستمرار إحراق الجثث كانت هناك غمامة كثيفة سوداء تغطي سماء المعسكر.
هذا هو المكان الذى أرسلت إليه الأم ماريا.
شهادتها للمسيح داخل معسكر الإعتقال:
عملت الأم ماريا مع المعتقلين, وعانت معهم وحاولت التخفيف عنهم, ولتعطيهم مثالاً صادقاً فى الصبر على الضيقات فى شكر, محاولة بث روح الرجاء فيهم, وجذب انظارهم إلى الأبدية.
كانت لديها القدرة على أن تحيا فى فرح, وتشيع جواً من البهجة عى المعتقل, حتى الحراس العتاة الذين خلت قلوبهم من أى شفقة, أحبتهم وصادقتهم, كما أحبت اليهود و صادقتهم حتى قادتها محبتها لهم إلى ذلك
المكان الموحش فى إنظار الموت, ومن ناحيتهم فإن الحراس أنفسهم أحبوها وأجلوها رغم
(1) فى أغلب الأحوال كان المتعلقون الذين يقومون بردم الخندق يؤمرون بحفر غيره ومن ثم يلقون ذات المصير، مما كان يشكل عبئاً نفسياً لا طاقة لأحد بإحتماله،المترجم.
وحشيتهم, بقدر استطاعتهم كانوا يحاولون مساعدتها, فقد كانوا يعطونها نصيباً أوفر من الطعام, بالرغم من مخالفة ذلك للوائح وقتئذ, وهي بدورها كانت تقاسم المعتقلين في ذلك الطعام, كذلك فقد عاونها الحراس إلى حدود ما, فى الإختلاء للصلاة بمفردها.
وعن محبتها للحراس تقول الأم ماريا (يسوع المسيح أحبنى بلا حدود فمات من أجلى, أفما يليق بي أن أعيش له).
أما الحراس أنفسهم فقد عبروا عن تأثرهم بها فى قول أحدهم (كانت معروفة لنا بالأم الراهبة الروسية الرائعة, ولم نكن نريد لها أن تموت, إن موتها كان خطأ منا, نحن آسفون عليه).
مرت سنوات والأم ماريا, تزداد روحها ابتهاجاً, فى حين يعجز جسدها الهزيل ويذبل أكثر, حتى صارت أشبه بهيكل عظمى تستره ملابس بالية, ويوخزه الكثير من القروح, في الوقت الذي كانت أسنانها آخذة في التساقط, إذا لم يكن لها حذاء يقيها من البرد, فقد لفت قدميها قى قطعتين من الخيش.
أحد المعتقلون الذين نجوا من الموت, يقول عنها (كانت قديسة, الجلوس معها كان عبارة عن جلوس مع الرب يسوع, هذا ما يجب على كل مسيحى أن يعمله).
هناك ثلاثة دوافع رئيسية, توفرت فى كل شخص مقدم على الاستشهاد, وبدون أحدها, لم يكن أحد ليستطيع الإقدام بفرح وشجاعة وسلام على الموت فى شتى صوره وما يرافقه من آلام رهيبة تفوق الوصف والاحتمال في اكثر الأحوال:
1- ألا يكون مغلوباً من شهوة ما.
2-ألا يكون مرتبطاً بأحد ما أو شئ ما (أكثر من الله أو بدلاً من الله).
3-أن تكون عينه مفتوحة على الأبدية (مترقباً لها).
وهذا يفسر لنا فى بساطة كيف أقدمت الأم ماريا على الإستشهاد على النحو الذى سنورده.
فقد حدث ذات صباح, وبينما كان بعض النسوة والفتيات يتهيأن ذلك الحمام الرهيب, حمام الموت, الذى كان يبدو من الخارج مثل الحمامات العامة, حتى لا يشعر المساقون إلى حتفهم فيه, بالحظ فتحدث منهم بلبلة ويتعطل عمل الحراس!
في ذلك الصباح سرت إشاعة سريعة بين المعتقلات بأن هناك خطر ما ينتظرهن..فى ذلك الحمام المزعوم, ومن ثم فقد أخذت صبية صغيرة فى الصراخ والتشنج, ثم البكاء الهيستيرى, مما كان يهدد بإشاعة جو من الفوضى وإفزاع بقية السجينات اللائى كن فى العادة يدخلن فى هدوء إلى حمام الموت, حيث يفاجئن فقط هناك بشبح الموت عقب إغلاق الأبواب وبدء تسرب الغاز السام.
ولكن إثنين من الحراس إنقضا كالوحوش الكاسرة نحوها, إلا أن الأم ماريا, كانت أسرع حين قامت بإحتضان الصبية وبدأت فى تهدئتها وملاطفتها.
غير أن العمل على تهدئة السجينة (لا سيما إذا كانت حديثة السن) مقبلة على عقوبة إضافية, أو إعدام, لهو أمر غاية فى الصعبة, وإن كانت مثل هذه المحاولات تحدث دائماً, ولكن المفاجأة الرائعة وغير المتوقعة, هى تلك التى أعلنتها الأم ماريا للصبية: (لا تخافى..أنا سآتى إلى الداخل معك..), قالتها بصوت يشبه خرير المياه الكثيرة, مجسدة بها حب الفادى للبشر مستعدة بها لبذل حياتها..
استشهادها:
وبالفعل, فقد دخلت معها إلى ذلك الحمام, وهناك إحتضنتها بقوة, وعندما أغلق الحراس الأبواب بإحكام من الخارج وبدأ الغاز السام فى التسرب كانتا قد صارتا جسداً واحداً, واستشهدتا معاً والحراس الذين أغلقوا الأبواب شهدوا كيف كان يكسو وجهها بهجة وسعادة غامرة وهى فى مواجهة الموت.
البعض قالوا أنها ماتت بدلاً من تلك الفتاة, وهو أمر كان مسموحاً به فى أغلب المعسكرات النازية, ولا سيما إذا كان المطلوب هو التخلص من عدد معين من المعتقلين, بغض النظر عن الشخصيات(2), ولكن سواء كانت ماتت عنها, أو ماتت معها, فالأمر سيان, فالمهم أن حياتها لم تكن ثمينة عندها وأنها قدمت حياتها وقابلت الموت بفرح وشجاعة.
ولم تمضى سوى أيام وانتهت الحرب العالمية بهزيمة النازى بعد أن قبلت السماء ذبيحة الراهبة.. وحياتها..
2- مثلما حدث مع الأب ألكسندر الذى مات بدلاً من شخص آخر (فى غضون الأضطهاد النازى), وكان ذلك الشخص ما يزال حياً إلى وقت قريب (المترجم).
تعقيب: لماذا صرت راهبة؟ | افضل مقاطع فيديو