بعد أن قضى ساعات هائما شاردا، تقدم بخطوات بطيئة الى أبيه ثم قال فى توسل:
– بابا !
قال أبوه وهو لا يزال يدفن رأسه فى الجريدة :
– نعم حبيبى!
فشد الطفل الذى لم يتجاوز السادسة – الجريدة من يد أبيه وألقاها جانبا , فأخذه أبوه بين ذراعيه وطبع قبلة حانية على جبهته ثم كرر قائلا:
– نعم حبيبى!
– أريد أن أكون راهبا.
أجاب الاب بغير أكتراث:
– عندما تكبر يمكنك ذلك.
– انا كبير.
– عندما تكبر أكثر، وتصبح طبيبا أو مهندسا، يمكنك عندئذ أن تكون راهبا.
– أكبر هناك.
– كل الرهبان كبروا هنا أولا، ثم ذهبوا الى الدير.
ضرب قدمه فى الارض فى عناد قائلا:
– (ماليش دعوة)
وشعر الأب بإبنه جاداً في رغبته فقال :
- ألا تحب أن تكون مهندساً ؟
- أحب أن أكون راهباً.
- هل رأيت الأب تكلا ونحن في الدير اليوم ؟
هز رأسه إلى أسفل بالإيجاب.
- كان طبيباً.
- ولكنه يصنع الخبز في الدير..أعطى كلينا أنا ومايكل خبزتين.
- في الدير لا يقبلون الصغار.
- لماذا ؟
تمتمت الأم الجالسة عن بعد، في سرور وراحت تتابع باهتمام صامتة ، وإستطرد الأب قائلاً:
- في الدير سوف يقصون لك شعرك.
- سوف أغطي رأسي .. كلهم مغطون رؤوسهم.
- وفي الدير لن تستطيع أن تلبس البنطلونات الشورت، والقمصان الملونة ، والأحذية الكوتشي التي تحبها.
- سألبس مثلما يلبسون.
- ماما لن تكون معك.
وثبتت الأم وجهها على طفلها لترى رد فعله وتسمع جوابه .. إنه وحيدها وفلذة كبدها .. واختار رداً عفوياً ولكنه دبلوماسياً فقال:
- ستأتي لزيارتي معك.
- وأصدقاءك الذين يطلبونك كثيراً في التليفون وتقابلهم في المدرسة والكنيسة لن يكونوا معك.
- سأصادق الرهبان.
- لا شوكولاته هناك ولا جاتوه .. فول ، عدس ، خبز يابس.
فهز كتفيه في غير مبالاة واستطرد الأب :
- كما أنه لا يوجد هناك لحوم ..
فأجاب بأسى :
- ولا دجاج ؟!
وفرح الأب الذي كان قد تصبب عرقاً .. وظن أنه قد وجد العقبة الكؤود لإرغامه على الهزيمة وإنهاء الحديث فقال:
- طبعاً لا دجاج هناك .. ولا أرانب وأنت تحب الدجاج (قالها في إغراء) أليس كذلك ؟ وجاءت إجابة الطفل كالصفعة فقال :
- لا أحب الدجاج .أحب أن أكون راهباً.
وعاد الأب ليواصل الكفاح ..
- هل يضربك المدرس في المدرسة ؟
فهز رأسه نفياً.
- هل يخطف منك أحد ساندويتشاتك ؟
- لا.
- هل نُضايقك انا وأمك ؟
وقبل أن يجيب نادت عليه الأم فلم يستجب ، أغرته بأنها تحفظ له هدية اشترتها له ، فضرب الأرض بقدمه ، ثم وهو يهمّ بالبكاء :
- أريد أن أكون راهباً.
وهمس الأب ناحية الأم :
- من يدري !
ثم استطرد ناحية طفله قائلاً :
- سوف أخذك مرة أخرى إلى الدير ونستأذن الأب الكبير هناك.
فرد في سرعة وعيناه تلمعان ببريق النصر :
- وافق ، قلت له ووافق ..
- ولكنه لم يقل لي.
- قال سنسميك أبانوب .. وأعطاني صورة .. أنا أحب أبانوب.
وقامت الأم في هدوء وأخذته لتذهب به إلى حجرته، ولكن جسده الصغير تقلّص بين ذراعيها، وبحركة عصبية تخلّص منها، وقفز ثانية إلى جوار أبيه وفي مواجهتها، ولما لم يجد الأب مناص من المواصلة استطرد مكملاً :
- ألا تخاف من الجلوس وحدك في الدير؟
ضرب بقبضته الصغيرة على ركبة والده وهو يقول في عناد .
- لا.
- حسنا، ماذا تحب أن نحضر لك عندما نأتي أنا وأمك لزيارتك ؟
فرفع عينيه نحو سقف الحجرة .. وفكر قليلاً ومازال أصبعه على شفته السفلى ثم قال :
- لا شيء.
واستدارت الأم الناحية الأخرى لتمسح قطرات من الدمع طفرت من عينيها .. ثم وكأنما لم تعد تحتمل المزيد قالت له :
- هل تأتي معي غداً ؟ إني ذاهبة إلى هناك .
فتهلل وجهه الصغير فزاد بذلك ملائكية، ووجدت بذلك السبيل لحمله إلى فراشه قائلة:
- إذاً عليك أن تستريح الأن لنبكر في الصباح .
وما لبث أن غط في نوم عميق ، وأحلام الطفولة السعيدة تضفي على وجهه سيماء البراءة .
وفي الغدّ كان يتشاجر شجاره الطفولي المعتاد مع أمه حول ما سيحمله معه من سندويتشات إلى المدرسة!
واليوم .. هو طبيب متزوج وله ثلاثة أطفال ويعمل في بلد إفريقي أظن أنها الكاميرون!