لتمضية الوقت فتحت حقيبتي واخرجت اوراق القصة ثم ارتديت نظارتي الطبية. كان مختار يجلس واضعا ساقا فوق الاخرى ويحتسي مشروبا ساخنا في انتظار موعد اقلاع الطائرة. تأملته من بعيد- كم هو رائع. انا معجب به جدا. كما كنت اتخيله تماما. الخادم الملتزم المحترم. ملابسه منسقة مهندمة، ملامحه مملوءة بالجدية والوقار.
استعددت وقررت ان اعبئ قلبه بمشاعر دافئة ولكن قبل ان اكتب اي حرف خاص ب “مختار” لمعت في ذهني فكرة رائعة، لماذا لا اجعل هناك مسافر اخر مع مختار وليكن شاب مثله، ولكنه مختلف عنه تماما في كل شئ . مستهتر، منحرف ، قليل الذهاب الى الكنيسة، سئ السلوك. ولكنه متجه معه الى نفس الوجهة وهناك على ارض غربتهم اكتب الاحداث التي تمر في حياتهما، فالاشياء لا تظهر الا بتضادها، فبوججود الظلمة يتضح النور. وحياة مختار الملتزمة الناجحة ستتضح بالحياة الفاشلة المنحرفة لـ .. توقفت وفكرت للحظات متريثا لاختيار اسم لهذا الشاب الاخر. مرت طوابير طويلة في عقلي لاشخاص غير ملتزمين وفاشلين اعرفهم جيدا بل واصادق بعضهم. تحيرت فيمن سوف اختار اسمه منهم لكي اشهّر به في قصتي وافضح اعماله واكشف خفايا قلبه على الورق لالاف القراء. قررت التدقيق في الاختيار فتلك عملية بها الكثير من الخزي والتشهير.
كلما توقف الطابور عند شخص ما ازحته بيدي جانبا فلقد كنت متأكدا من وجود من هو احق بهذا التحقير. اخيرا وجدت الاسم، انه يهوذا ، هذا الاسم الذي جعله يهوذا الاسخريوطي رمزا للخيانة والخسة، ولكن هذا الاسم ليس منتشر بين الناس الان فمن من الناس يسمي ابنه يهوذا؟ .. لا يهم، فالقصص مهما تطابقت مع الحياة ما يزال بها جزء مؤلف وافتراضي وحتى خيالي.
اذن ليكن المهندس الشاب “يهوذا” جالسا في مكان ما في نفس الصالة التي يجلس بها مختار وكان يحتسي البيرة مثلا – فهذا يناسب انحرافه- وبسرعة كتبت بأنه كان يدخن السجائر ايضا. وبمثل هذه السهولة طفقت في تشويه مظهره الخارجي تماما.
وجدت بعد قليل انه من الافضل للحفاظ على واقعي القصة ان اكتفي بذكر الحرف الاول من اسمه “ي” بدلا من كتابة اسم “يهوذا” واعجبت اكثر بالفكرة عندما تبينت ان حرف “ي” يقع في اخر الابجدية العربية وهو المكان المناسب جدا لمثل هذا الشاب. تابعت صياغة الاحداث. فوجدت ان مختار يشرب فنجان شاي وهو يقرأ في كتاب جعلته كتابا روحيا وزينته بالكلمات الوعظية والاشادات الهامة. وجعلته يهز رأسه معجبا ومتأثرا تماما بكل ما يقرأه. وعندما اطمئننت عليه انتقلت الى يهوذا اقصد “ي” حتى احشو قلبه بكل ما هو سئ. قررت تعبئته بمحبة العالم من شهوة الجسد، وشهوة العين وتعظم المعيشة حتى ينطبق شكله الخارجي الظاهري الذي كونته على باطنه تماما.
ولكن قبل ان املئ قلبه تماما بكل هذه الافكار الشريرة رأيت صاحب المطحنة يلّوح لي، فبسرعة تركت القلم يسقط على الطاولة بجانب الكأس التي امام”ي” وهرولت لاحضار حاجياتي. عند رجوعي بالسيارة وجدت مختار يطلب فنجانا اخر من الشاي ويتابع القراءة في هدوء بينما كان ي يتجاذب اطراف الحديث المرح مع الناذلة الحسناء . لم اشأ ان اغيرّ مما يقع امامي من احداث ، فهذا قد يلوح للقراء من بعيد انه شاب نزق وله علاقات شائنة . كنت قد تأخرت فعلا على موعد الكلية فتركت حديثهم هذا يستمر ولكنني وضعت في نهاية السطر علامة تعجب مقصودة وبعض النقط ولممت اوراقس ودسستها داخل حقيبتي، وانطلقت بالسيارة وانا ارجو ان يخف زحام المرور قليلا.
طلبت من عم “عبد الواحد” تل من الطلبات المحفوظة فابتسم وهو يخبرني ان الدكتور “حنين” المشرف على رسالتي قد سأل علي ويريد ان.. في حدة قاسية التفت اليه وافهمته مقاطعا اسمه يا بني ادم دكتور “عادل عارف حنين” وليس دكتور “حنين” فقط ، فهل فهمت؟ فهز المسكين رأسه بطريقته المعهودة.
قبل ان ارتدي معطفي الابيض الخاص بالمعمل (البالطو) كانت قهوتي السادة على طاولة المعمل الطويلة وبجوارها الفأران الخاصان بالتجربة بداخل اقفاصهم المعنونة بوضوح واحد بحرف “أ” واخر بحرف “ب” وبجانبهم ادوات التشريح العديدة. ادرت عدة اجهزة معملية سوف احتاجها فيما بعد وامسكت بجدول سير التجربة وقرأت. الخطوات في غاية البساطة والسلاسة.
- تخدير الفأر الاول “أ”
- سحب قليلا من دمه
- عزل كرات دمه البيضاء وهي المسؤولة عن المناعة.
- تعريض الخلايا المعزولة لفيروس حي لمرض ..
- وضع الخلايا المصابة في طبق خاص في حضانة خاصة لفترة معينة من الوقت ثم مشاهدة نتيجة المعركة التي ستحدث بينهم تحت عدسة المجهر الضوئي (الميكروسكوب).
وفي نفس الوقت وبنفس الطريقة تماما نكرر العملية مع الفأر “ب” و1ذلك لتوضيح الفرق بين قوة الخلايا السليمة للفأر السليم “أ” بالمقارنة مع الخلايا غير السليمة للفأر المريض “ب” والذي قمنا قبل شهر بنزع او استئصال جراحي لبعض غدده المناعية فاصبح الفأر بالتالي غير قادر على الدفاع عن نفسه.
التجربة سهلة ولكن خطورتها تكمن في ضرورة تمييز نتائج كل فأر بدقة وتفريقها عن نتائج الاخر . وحتى نمنع تداخل النتائج او الخلط بينهما لاي سبب قمت بالكتابة على الانابيب والاطباق الحرفين “ا” او “ب”.
بدأت اقترب من الفأران. بمجرد النظر العادي الخارجي استطيع ان اؤكدا من منهم المريض ومن السليم. واستطيع بناءا على ذلك ان استنتج النتيجة حتى بدون اخذ اية قياسات. ولكنني للامانة خدرتهم وبدأت اسحب الدم بحرص . اقتحم الفراش”عبد الواحد” المعمل واخبرني ان الدكتور “عادل عارف حنين” قد اتصل بي مرة اخرى ويود لو احادثه في الهاتف عندما اقدر.
هززت رأسي دون ان انطق . فقد كنت افصل الخلايا واغسلها بمحاليل طبية خاصة وهي عملية هامة وضرورية فالخلايا خارج جسمها تكون ضعيفة وفي حاجة الى محاليل مغذية وظروف معيشية معينة حتى تستطيع مواصلة الحياة الطبيعية اثناء غربتها في الخارج. ثم وضعت الانابيب بداخل جهاز الطرد المركزي الذي يدور بسرعات عالية حتى يقوم بفصل الخلايا عن بعضها. وهذا سوف يستغرق وقتا طويلا – ولذلك عندما ادرت الجهاز اخرجت اوراق القصة وصرخت في عبد الواحد طالبا فنجان اخر من القهوة.