تركت القلم – بينما كانت الطائرة تحلق فوق السحب الكثيفة – واسرعت نحو الانابيب. بدقة متناهية وتركيز شديد ولفترة دامت قرابة الساعة تمكنت اخيرا من وضع خلايا الدم البيضاء المنزوعة مع فيروس المرض لكلا الفأرين ثم اودعتهم بمنتهى الحرص داخل المحضن على درجة حرارة وضغط محددين بدقة.
جلست ارتشف القهوة بهدوء. الان سوف تتضح حقيقة قوة الخلايا المناعية وليس شكلها . فاما ان تقتل الفيروس وتنتصر او يقتلها الفيروس ويستعبد الباقي منها ويجعلها تعمل لحسابه وتنتج اعدادا لا نهائية منه فيتدمر الجسم تماما
ارتشف رشفة اخرى بينما ادون في جدول بعض البيانات توضح سير التجربة بدقة: درجة نمو الخلايا، شدة تعليمها ، تدريبها داخل جسد الفأر. تحدد تماما طريقة تعاملها مع المرض خارج جسم الكائن الحى. فالخلايا الصحيحة القوية المدربة تقتل المرض. اما من هي عكس ذلك فسيقتلها المرض ويدمر الجسم الذي تنتمي اليه تماما.
عندما كانت الخلايا في جسد الفأر الاول “أ” او السليم تغذت جيدا من غذائه وتعلمت كيف تقاتل الفيروسات في داخل اوكارها – اقصد الاعضاء – المناعية فاكتسبت القوة والخبرة ، ومن المفترض فيها ان تقتل الفيروس وترد عليه بقوة اكبر بكثير من الفأر الثاني “ب” الذي استؤصل منه الغدد المناعية.
هنا تذكرت ابطالي في مقصورة الطائرة فهرعت بقلمي لاجد ما لم اتوقعه تماما . فمختار متورط في حديث رومانسي مع تلك الفتاة الاجنبية والتي لا يعجبني تبرجها ولا ملابسها غير المحتشمة ولا طريقتها السخيفة في الحوار وتحررها الزائد.
لمحت في عيني مختار للاسف مشاعر الاعجاب والانبهار. كنت احاول اقناعه بأن تضييع الوقت مع مثل هذه الفتاة التافهة والانبهار بكمبيوترها المحمول “لابتوب” وبما يحويه من ملفات سواء صور او مقاطع فيديو وافلام لن يفيده في ارض غربته ، ولكنه كان مستغرق معها في الحوار بطريقة تعجبت معها وتساءلت من اين له هذه الطلاقة في الحوار؟ مع انني رسمت شخصيته في البداية لتوح بانه خجول مقل الكلام.
من الضجر كدت انسى ذلك ال “ي” فألتفتت نحو الامامي لاجده يصغي بهدوء غريب عن طبعه – الذي وصفته من قبل – الى ما يقوله ارخني العزيز “فخري”، والذي صغت شخصيته وزودتها بالارشادات والنصائح الدينية والتي تحتاجها حياة مختار القادمة في ارض الغربة. ولكن للاسف فان كلماته تصب الان في اذني “ي” وانا واثق تماما انه لن يستفيد بكلمة واحدة منها.
دق جرس الهاتف. التقطت السماعة لاجد ان الذي يهاتفني اخطأ في الرقم.
عدت وامسكت القلم ولكن قبل ان اكتب كلمة واحدة دخلت طالبة من السنة الدراسية السابقة ، سألتني عن بعض المسائل في مقرراتها الدراسية. اجبتها بطلاقة. انا شخصيا ضد الدروس الخصوصية في الجامعة – وادينها بين الزملاء علانية في كل مناسبة تجمعنا، اصفها بانها غش مستتر وتدني ولكني لا امتنع في نفس الوقت عن مساعدة بعض الطالبات – مثل هذه الطالبة – كما لا امتنع عن قبول هداياهم الثمينة والتي يقدمونها لي لأنهم يعلمون مدى كرهي للدروس الخصوصية.
عند رحيلها التفتت للرواية لاجد ارخني الفاضل ما زال يفاضل بين الحياة الانجيلية في احضان الرب يسوع والحياة العالمية تحت براثن ابليس وبين انيابه. وبين النهايتان المتضادتان من ملكوت وامجاد وحرية وبحيرة نار وعبودية.
ثم اتبعها موضحا ل “ي” بأن الحرب الروحية صعبة في ارض الغربة فالخطية والشر منتشر وادنى انحراف او ميل قلبي كفيل بأن يضيع العمر كله.
هنا هز “ي” رأسه وكان مقتنعا بالكلام. وكاد ان يتكلم بما يشبه الموافقة. فخفت بأن اسمح له بهذا الرد. فمن الممكن ان تغيّر كلماته تلك من سير الاحداث او تحسن من موقفه في اعين القراء. فأملت القلم بسرعة للخلف نحو مختار محاولا نقله ليجلس في مقعده في الامام – ويا لخجلي وجدته غارقا حتى اذنيه في كلمات تلك الفتاة المستهترة. نظرت اليه بتعجب صارخا:
– ما خطبك يا رجل! ألم تحادث فتيات من قبل؟
ولكنه لم يسمعني فقد كان غائبا في عالمها ويتتبع شاشة كمبيوترها بتركيز ويستمع لحوارها بانقياد كبير. مصدقا اياها في كل كلمة تقولها. وعندما يستطيع التقاط انفاسه والرد عليها، كانت كلماته تخرج واهنة جدا، تنم عن مشاعر كبت واستسلام تام لمنطقها المغلوط للاسف.
ما هذا الذي يحدث.. غضبت وقررت ان اتدخل وامسك انا بزمام الامور وتوجيهها نحو الجهة التي اريدها. يجب ان اجد وسيلة لالقاء هذه الفتاة المنحلة بعيدا عن “مختاري” ووضعه بجانب السيد فخري “الارخن المبجل” حتى ينهل من خبرته الروحية وحياته التقوية الطويلة. بدلا من تلويث مسامعه بكلمات تلك الفتاة الغريبة التي لا اعرف من اين هبطت ولماذا لم تجلس منذ البداية بجانب “ي” وتريحني.
عقدت العزم على الايعاز لتلك المضيفة التي تمر الان بين المقاعد ، بأن تقوم هي بعملية التغيير هذه وتصحيح اماكن جلوس المسافرين. كان “ي”في تلك اللحظة يرد : نعم يا سيدي كلامك صحيح. اي تفكير منطقي يقارن بين طريقين متضادين-طريق الله وطريق ابليس يصل الى تلك النتيجة بسهولة، ولكن كيف يكون تصحيح المسار لمن ضل زمنا طويلا؟
قال فخري بابتسامة لها القدرة ان تشيع السلام في وجه اي شخص ينظر اليه:
– التوبة. فالتوبة تستطيع ان تشفي جرح الخطية. التوبةُ تجعل الزناةَ بتوليين، كما تنظف الوعاء الذي علاه الصدأُ. إنها تجتذبُ الخطاة من اماكن الدنس ليشتركوا في عملِ الملائكةِ. هي تَدخلُ إلى مخادع الزناة، وتلدهم من حضنها بتوليين للمسيحِ. بيدها وضعت مفاتيحَ ملكوت السماواتِ، فكلُّ من أحبها وعشقها جعلته أميناً. سمُّ الموتِ واللهو بيد الشيطان، أما التوبةُ فهي ترياقُ الحياةِ بيد اللهِ. وكلُّ من سبق وشرب من كأسِ القاتلِ، يتقدم ويشرب من كأسِ المحيي للكلِّ، فيعيش بلا نهايةِ.
– ولكني اعتقد ان التوبة امر ليس سهلا، فهي تحتاج لدموع وسهر وكل هذا جهاد لا اجد في نفسي قبولا له او القدرة على ممارسته.
– التوبة لا تحتاج سوى الرغبة القلبية الصادقة والامانة في طلب نعمة وقوة من الله. نعم، ان اعتمدت على ذاتك لن تنجح ولكن ان طلبت من الرب حتما يستجيب لأنه وعد بذلك. ما عليك سوى ان تردد ما قاله ارميا النبي قديما في (ار31: 31) “توبني يارب فاتوب”.
تابع “ي” بتأثر:
– هل تعلم يا سيدي بانني لم اكن سيئا هكذا في الماضي.ولكن التردي في الشر يمكن ان يكون بسرعة البرق.
ربت فخري بيده على يد “ي” بحنان وحب شديد وهو يقول:
– وكذلك اشراقة نور المسيح في القلب يا ولدي تضئ مثل البرق ايضا. الا تذكر ظهور الرب لشاول الطرسوسي في طريق دمشق.
– نعم، ولكن تغيرا عظيما مثل هذا صعب.
– طبعا صعب، فالحياة مع الله تتطلب جهاد وتعب ولكن هناك ايضا النعمة التي تعين الانسان في جهاده.
اطرق “ي” برأسه:
– ولكن لا تنسى يا سيدي ان ابليس يحاربنا.
في تلك اللحظة اقتربت المضيفة ملفتة انتباه “ي” انه لا يجلس في مقعده. فرحت جدا فأعصابي لم تعد تحتمل حديثهما. فاذا كنا ونحن بعد في الطائرة يرفض الالتزام بالنص المكتوب فماذا سوف يحدث عندما يصل الى امريكا؟
ولكن للاسف لم تجدي كلمات المضيفة نفعا، لأن “ي” اقنعها ان بقاءه على هذا المقعد بجوار “فخري” لا يسبب للسيد “مختار” اية مشكلة والا كان قد اعترض منذ بداية الرحلة- وفعلا – بنظرة واحدة من المضيفة الى استغراقهما في الحديث معا تركتهما، ومضت ومضت تتفقد باقي الركاب.