قبل سنوات… لم يكن بحاجة إلى المنبّه كي يوقظه، ففي الأحياء الشعبية يستيقظ الناس على صوت الباعة المتجولين. كان ينهض من فراشه كمن أحسّ بضربة على رأسه، ولكن مع مرور الزمن اعتاد على تلك الأصوات التي أصبحت جزءاً من حياته التي تخلو من كل جديد…
كان يعزي نفسه بسماع صوت ألفه بل عشقه وهو الذي كان ينتشله من كآبته، إنه صوت فيروز الذي يتغلغل في أعماقه ويشعره بأنه بشر، كم كان يطربه ذلك الصوت الملائكي: “فايق يا هوى من كنا سوا”… “كتبنا وما كتبنا”.. “يا حلو شو بخاف إني ضيّعك”.. “أمس انتهينا”..
آهٍ كم يشعر بحاجته لأن يحبّ!
يشتاق ويحنّ إلى من تخرجه من عزلته تلك …
كان يبحث عنها في كل شارع ويتوقف لدقائق وأحياناُ لساعات…
لم يكن على موعد مع أحد وإنما كان على موعد مع الحب …
قرأ مرة: “الحب لا يبحث عن أحد وإنما أنت من تبحث عنه”..
كم من المرات أقنعته أمه بضرورة الزواج وهي على قيد الحياة..
كم توسلت إليه كي تخرج وتبحث له عن عروس تليق به، ولكن كيف لها بمعرفة ما يدور في رأسه من مواصفات لتلك المرأة التي سيقاسمها حياته وقلبه..
تذكّر عندما أخبرته عن إعجابها بابنة أحد قريباتها وبدأت تحدثه عن جمالها وحسن تربيتها وإتقانها للطبخ بالإضافة إلى تواضع ولطف أهلها…
– “ولكن يا أمي كيف لي بالزواج من امرأة لا أعرف شيئاً عنها؟”..
– “أوتدري كيف تزوجني والدك رحمه الله؟”..
– “لا أريد أن أعرف لأني سمعت تلك القصة مراراً وتكراراً.. ما يهمّني في المرأة التي سأتزوجها أن تتمتع بجمال الروح قبل جمال الشكل و..”
– “لا تكمل فأنت لا تعرف مصلحتك” ..
أخيراً وجدها في إحدى المرّات التي زار فيها تلك المكتبة التي يذهب إليها لاستعارة أحد الكتب التي يقرأها في أوقات فراغه، جذبته بتلك العينين العسليتين.. كلّ ما فيها كان ينطق بل يصرخ.. لم تفاجأ بنظراته التي هاجمتها، وإنما اقتربت منه كأنها كانت على موعد مسبق معه.. وبدأت تحادثه كأنها تعرفه منذ أعوام.. أدهشته بانفتاحها وإقبالها على الحياة، روحها المنطلقة أيقظته من سباته..
دعاها لتناول فنجان من القهوة فقبلت دعوته بسرعة جعلت إعجابه بها يزداد بقوة أدهشته..
حدثته عن نفسها، عن طموحها ورغبتها بكل شيء جديد، وكأنها تدعوه لرحلة غوص معها..
بعد سنوات، خرج من منزله في نفس الحي الشعبي.. لم تيقظه هذه المرة أصوات الباعة وإنما أيقظه أصوات أربعة أطفال …
تذكر كلامها: “سأحيك من أنسجتي رداءً يقيك البرد والحر، وسأسكنك فسحة لن يملأها أحد غيرك.. سآخذك إلى عوالم نفعل بها ما يحلو لنا.. سنغنّي معاً وسنرقص معاً في دنيا الوله”…
ولكن، عندما خرج هذا الصباح أذهلته بطلباتها… وجعلته فعلاً في عوالم أخرى …
بدأ يمشي في تلك الشوارع التي كانت قدماه تقوده إليها ..
لم يذهب هذه المرة باحثاً عن الحب بل كان يمشي دون وجهة..
كل الشوارع بدت متشابهة …
كل الشوارع بدت جامدة …
بقلم رشا قرقناوي
منقولة عن