كان يعمل عشارا في اريحا بل كبير العشارين، له سطوة وسلطان وهيلمان، عظمة وابهة وجاه، مقدرة عظيمة في الادارة وايضا في جمع المال، يقضي نهاره محاسبا، وفي الليل مهموما مفكرا في كيفية استثمار ما جمعه من مال. مشايخ اسرائيل يحتقرونه، والكتبة وعامة الشعب يؤدون له الضريبة صاغرين. انه ميسور وماله موفور. وللحق، ان الرجل كان دؤوبا في عمله، حاذقا في مهنته، يصحو كل يوم مبكرا ويشرف بنفسه على اجراءات التقصي ومنع التهرب. الكتبة والفريسيون يصفونه بالظالم والخاطئ بل وكبير الخطاة.
قبل زمن سمع زكا – وهذا هو اسمه – ان نبيا كبير ذا صيت وشأن واسمه يوحنا، كان يعلم ويعمد في برية اليهودية الذين يسمعون منه، اثار زكا ما سمعه من يوحنا بخصوص العشارين فقد اوصاهم “لا يستوفوا اكثر مما فرض لكم” فبدأ الشك يأكل قلبه وبدأت النعمة عملها معه. عجيب انت يا رب تزرع فينا خصيصة الشك وتمنحنا الحكمة . الاعماق تفحصها نعمتك والظواهر نعللها والبينات نحللها. واخيرا تمنحنا الخلاص وتدفع انت الثمن.
والان يسمع زكا كلاما عجيبا عن معلم يجول في الارض يصنع خيرا. كل شئ مستطاع له – الريح العاصف يهدئ، يطهر البرص ويفتح اعين العميان ، يعلم ثم يشبع الجياع يسقى النفس والروح ومن يشرب منه لا يعطش يقبل الاتين اليه ولا يرفض احدا يبكت الفريسيين ولا يعاتب الخطاة التائبين.
طار زكا فرحا، انه لم ير يوحنا ولكن ها هي الفرصة سانحة لكي يرى من اشار اليه يوحنا بحمل الله. يسوع قادم من هنا والجموع تحيط به احاطة السوار بالمعصم. ولا توجد فرجة من نور بين هذه الحشود والاجساد المتلاحمة. حقا، كاملة هي حكمتك يا رب! في لحظة، وفي طرفة عين ، تمد يدك من الكوة وسعيد من يفتح لك باب قلبه.
زكا القصير ذو المنصب الخطير عاد كالاطفال. نظر الى اعلى الى رب السموات فرأى الجميزة، شجرة وارفة الظلال كثيفة الاغصان، اوراقها عريضة ذات خضرة داكنة، تمتد فروعها وتتشابك حتى لتكاد تغطي الطريق ليستظل بها السائر من قيظ الحر. ترى الصبية اسفلها احيانا يلعبون ويتحاورون، يتسلقون ويقفزون، انه يراها تمد افرعها كأنها اكف الرحمة، وكمثل العبيد الى ايدي مواليهم تطلع اليها، ثم قفز عليها.. واهتزت الاغصان طربا بخاطي يتوب وهارب يعود. انه الان يرى نفسه وقد استقر فوقها. ماذا يهمه ان اتهمه الناس بالنزق وهو وجيه قومه وكبيرهم؟ ماذا يهمه ان خسر العالم كله ليربح نفسه؟
في حماس متقد سبق الجمع المحتشد .. وها هو الان يرى الرب قادم . النور في قلبه يسطع والامل ملتهب.. وناداه يسوع “اسرع يا زكا وانزل” ان اليوم يوم خلاص والوقت مقبول. المجد لك يا رب تجمعنا من تيهنا وضلالنا .. تجمع الغنم المشتتة فوق جبال اسرائيل.