له وجه جميل تعلوه جبهة عريضة تنم عن ذهن متوقد، طلعته ملائكية، نظراته ثاقبة، لا يتمالك المرء امامها الا احساسا بالمهابة والاعجاب. تعلو وجهه تجاعيد خفيفة تنبئ بعناء السهر والانكباب على القراءة والتأليف.
ويمكنك ان تتبين وسط لحيته الغزيرة التي انسدلت على صدره، ذلك الفم الذي انطلقت منه الاحاديث الفياضة، وفي اكثر الاحيان يمكنك ان تلاحظ شفتيه وقد انطبقتا في صمت بليغ، وفي احيان اخرى ينهمر منهما انهارا من ماء الحياة.
البابا وهو شيخ وقور نراه الان جالسا على مقعد في حجرته. والحجرة لها بابان متقابلان عن يمين وعن يسار. امامه على الحائط خريطة العالم بقاراته الستة. وعن يمينه عصا الرعاية. وفي الحجرة نافذة مفتوحة تطل على حديقة المقر البابوي، ويمكن ان يرى من بعد الابنية والعمارات المحيطة بسور الكاتدرائية الخارجي. في جانب الحجرة مكتب صغير عليه كتاب مقدس مفتوح وبعض الاوراق.
(يدخل الشماس)
الشماس: لقد انتصف الليل يا سيدنا ولم يبق من الزوار الا قدس ابونا ميخائيل راعي كنيسة القديس اثناسيوس.
البابا: ادخله يا ابني بسرعة.
(يدخل الكاهن فينحني عند الباب ثم يتقدم ويركع امام البابا ويقبل يده)
البابا: مرحبا يا قدس ابونا. كيف حالك وحال رعيتك. تفضل استرح.
(يجلس على الكرسي بجوار البابا)
الكاهن: في خير حال يا سيدنا. بصلواتك عنا.
البابا: الى اين وصلت في خدمتك؟
الكاهن: لقد نفذت ما امرتني به منذ اسوعين. قسمت الشعب الى فئات ونظمت اجتماع لخدمة كل فئة، لكي تتاح الفرصة للخدام في كل قطاع ان يسألوا عن كل واحد من المخدومين. ولكي يستطيع كل واحد من المخدومين ان يجد رعاية كافية.
البابا: وماذا عن دورك انت يا قدس ابونا؟
الكاهن: لقد نظمت اجتماع للخدام يكون فرصة لمناقشة كل ما يعترض طريق الخدمة من عقبات.
البابا: وخدمة الكلمة ايه اخبارها؟
الكاهن: عملت درس كتاب اسبوعي ليلة الاحد لكل الشعب عقب رفع بخور عشية. وربطت دروس الكتاب المقدس بقصص من الحياة، وشرحت الطقس وربطته بتعليم الكتاب المقدس والاباء. واخذت اشرح لهم كل شئ بتأن.
– جيد يا بني ليباركك الرب، واود في المرة القادمة ان تصحب معك بعض خدام الكنيسة، وتحضر ايضا لي المناهج التي اعددتها للخدمة.
الكاهن: ستكون بركة كبيرة لي ولهم. سيكون يوم عيد يوم زيارتك يا سيدنا
البابا: اشكرك يا ابونا. بلغ اولادي محبتي وسلامي
(يخرج الكاهن فينهض البابا ويتمشى على مهل. ثم يرفع يده بالصليب. لتصحبك البركة يا ابونا. وليبارك الرب تعبك في الخدمة)
(يتجه البابا الى عصاه ذات الحية النحاسية ويمسكها بيده اليسرى والصليب في يده اليمنى ويقول وهو يتأمل الحية:
ما اعظم واجبي وما ارهبه – اعني يا سيدي الرب، انك وضعتني مثل هذه الحية حين كانت وسط اسرائيل.
يركع وينظر الى السماء وفي صوت متهدج يقول:
ليت نعمتك تعضدني يا رب. نعم فانا في شدة الاحتياج لنعمة مضاعفة منك.
(يتابع صلاته وهو يتطلع الى العصا والحية)
اجعلني يا رب كهذه الحية كل من يراني يشفى. نعم، يا رب من اجل مجدك لا تخيب رجاء احد.
(ينهض ويتجه نحو الخريطة ويرشمها بالصليب وهو يصلي قائلا)
انظر يا رب الى خريطة العالم .. انظر الى مليارات البشر الذين لا يعرفون شمالهم من يمينهم. ليشمل خلاصك العالم كله، ولتمتلئ الارض من معرفة مجدك كما تغطي المياه البحر. وكنيستك هذه، الكائنة من اقاصي المسكونة الى اقاصيها باركها. نعم يا رب، لان اسمك عظيم وفي جميع الامم يقرب لك بخورا وصعيدة طاهرة. اجعل كنيستك منارة في الارض تبدد الظلام منها، وتمم وعدك على فم اشعياء النبي “تسير الامم في نورها والملوك في ضياء اشراقها”. بارك اولادك في كل مكان واجعلهم “كأنوار يضيئون وسط ظلام العالم”. اذكر اولادك في مصر: في الاسكندرية والنوبة، في السودان واثيوبيا والخمس مدن الغربية وسائر بلاد المهجر..
(يسمع قرع على باب القلاية)
البابا: نعم يا ولدي.
(يدخل شماسه حاملا ايقونة)
الشماس: جاء الفنان جرجس واحضر الايقونة التي امرته برسمها يا سبدنا.
البابا: نعم ، صورة الانبا صرابامون صاحب الصدقات.
لقد جاء بها الليلة ، وذكر انه سيأتي صباحا ليتلقى ملاحظات قداستكم.
يضع البابا عصا الرعاية في مكانها، ويأخذ الصورة يتأملها بينما يخرج الشماس في هدوء.
صورة جميلة حقا. انها تصور القديس تماما. يحمل على كتفه كيسه المعهود. ويخرج في ظلام الليل دون ان يراه احد ويضع على بيوت الفقراء بعض ثمار تعبه.
(يطيل النظر الى الصورة ويصمت قليلا ثم يتابع كلامه)
طوباك ايها القديس المحب. لم يرك احد وانت تعمل الخير ولكن الرب رآك وكافأ اتعابك بميراث ملكوت السموات.
(يصمت قليلا)
كم اود ان اصير مثلك، ولو يوما واحدا. انني في مركزي هذا، تنهال علي صنوف المديح الذي لا استحقه.
(ينظر الى الخريطة – ثم الى السماء)
انت تعلم يا رب انها امنية طالما جالت في قلبي منذ زمن. لقد اشتاقت نفسي الى الرهبنة، ولكن الضرورة موضوعة.
(ينظر الى الارض ويخاطب نفسه وهو يقرع صدره)
من انا يا رب حتى دعوتني هذه الدعوة السامية؟ صغير انا يا رب عن جميع الالطاف التي صنعتها مع عبدك. انك اتيت بي لرعاية شعبك انا الخاطئ غير المستحق. ولكن ما اعجب نعمتك!
(يسمع قرعات على الباب)
البابا: نعم يا ابني! لماذا لم تذهب لتنام حتى الان؟
(يدخل الشماس حاملا صينية رصت عليه بعض انواع الطعام وغطيت بفوطة بيضاء
البابا: شكرا يا ابني. ضعه هنا واذهب لتسترح.
(يخرج الشماس وينظر البابا للطعام ثم للصورة ثم يتقدم الى المائدة ويمسك ببعض الطعام يلفه في الفوطة)
ولم لا – او لا توجد ارملة في شعبي تحتاج اليه اكثر مني.. ااكل وواحد من اولادي يبيت جائعا؟
(ينتهي من لف الطعام ويضعه تحت فروجيته ويتقدم في سرعة نحو الباب. وقبل ان يخطو خطواته الاخيرة الى الخارج يظهر من الباب المقابل شيخ في ثياب بيضاء، ينادي البابا قبل ان يخطو خارجا.
الشيخ: الي اين ايها السيد البابا؟
يقف البابا ويرشم ذاته بالصليب.
البابا: الى اين انت ذاهب ايها البابا؟ .. من انت؟
(يستدير في هدوء)
الشيخ: الا تعرفني ؟ تقدم وانظر الي جيدا، لقد رأيتني من قبل.
(يتقدم البابا الى الامام خطوتين ثم يظهر عليه الانفعال والرهبة ويسجد)
البابا: سيدي القديس مرقس.. لقد رأيتك يوم سيامتي حين كنت واقفا بجوار المذبح وانا اخذ من عليه عصا الرعاية.
الشيخ: نعم ايها البابا المعظم، لقد اقامك الرب لترعى شعبه. فالى اين انت ذاهب الان؟
(البابا وهو يخفض بصره الى الارض)
سامحني يا سيدي . انها شهوة تملكتني منذ شهر مضى. اردت ان اصنع صدقة بنفسي وفي الخفاء.
الشيخ: نعم. لقد سمع الرب لشهوة قلبك كل هذه الايام.. وسمع صلاتك الليلة.
البابا: ليتك تطلب من اجلي يا سيدي كي يغفر لي الرب هذه الرغبة. انا اعلم ان واجباتي لا تسمح لي بمثل هذا العمل. ان كرازتك كلها مسئولة مني، ومن الممكن ان اكلف احد الشمامسة بهذا العمل واتفرغ انا لامور اخرى. سامح اهمالي يا سيد.
الشيخ: لا تخف – انهض. لقد اجاب الرب طلبتك.
(يرفع البابا رأسه في اندهاش)
نعم. انهض وتمم امنية قلبك.
(ينهض البابا وهو يتمتم في بطء)
شكرا يا سيدي
(يستدير ليخرج)
الشيخ: لكن قبل ان تخرج اعطني عصا الرعاية التي لك.
(يلتفت البابا متسائلا)
الشيخ: نعم – عصاك هذه.. اعطها لي.انا اعطها لك؟ تقدم انت يا سيدي وخذها . فما انا الا تلميذك.
البابا: كلا. بل انت صاحب السلطان وحدك.
(يخفض البابا رأسه ويتقدم. يأخذ العصا ويعطيها له)
ها هي يا سيدي!
الشيخ: والصليب ايضا.
(يعطيه الصليب الذي في يده.)
اذهب الان وتمم ما اردت.
البابا:وانت يا سيدي؟
سأقف مكانك حتى تجئ. اذهب وتعال سريعا. لانه لا ينبغي ان يخلو مكان البابا ولا للحظة واحدة. من اجل هذا جئت لاقف بدلا منك حتى تحضر.
(ابابا وهو يتمتم بانفعال)
شكرا يا سيدي. (ويخرج سريعا)
يتجه القديس مرقس في بطء الى النافذة، عصا الرعاية في يساره والصليب في يمينه ثم يبارك المدينة برشم الصليب ويقول:
سلام للجميع.. سلام لكل نفس.
ويتجه الى الخريطة يرشمها
سلام لكل اقليم .. سلام لكل انسان.