الالحاد المعاصر.. انه الشبح الاسود الذي لاح في سماء الفكر لسنوات.. واستطاع باجنحته السوداء ان ينشر ظلاله القاتمة .. لا ادعي ان هذه القصة سوف تفند بالتفصيل جميع افكار الملحدين، ولكنها بداية.
على الشاطئ..
لقد كانت نسمات الهواء رقيقة ناعمة ذلك المساء تداعب وجهي بين الحين والحين، بينما انا سائر بمحاذاة الشاطئ الطويل الذي لا تستطيع عيني ان تمسك له اخر.
وكان الهدوء خلابا، بل ساحرا، يدفعني ان اظل سائرا وان انسى كل همومي، ومشاكلي الكثيرة، وكل شئ، لكي استمتع في صمت بهذا السحر الاخاذ الذي يشفي جراحات النفس ويلقي باحمال النهار من على الكتفين. اما مياه البحر وقد اتشحت بثوب المساء الاسود اللامع فزاد رونقها فتنة وجمالا.
وبينما انا هائم مندمج مع الطبيعة ذاهب بافكاري الى اقصى الافق بعدا. اذا بامر غريب يجد على المشهد. فيلفت ظري.. فلقد وقع بصري على كتلة قاتمة سوداء غير متميزة ملقاة على رمال الشاطئ بعيدا هناك. تلك الكتلة القاتمة او قل ذلك الشبح الاسود المتكوم هنا قد نجح في ان يشد انتباهي وان يكفني عن ذاك الغزل الذي كنت اتغزله في جمال الكون الممتد من حولي..
ترددت قليلا هل اواصل السير الى هناك، كي اتحسس ما عسى ان يكون الامر ؟ ام اؤثر السلام، واعود ادراجي من حيث اتيت؟ .. وتصارع بداخلي اكثر من احساس. التردد والخوف والتماس الامان كانوا جميعا يحملونني الى العودة ، ولكن عزة نفسي جعلتني استنكر فكر العودة وحب الاستطلاع كان يدفعني دفعا ان اواصل المسير الى هناك لاستكشاف الامر. واسفر ذلك الصراع بانني واصلت الطريق وحملتنى الخطى تلو الاخرى، نحو الهدف، وعيناي قد تسمرتا تماما على هذا الكائن المحير.
وعندما اقتربت منه بعض الشئ ابتدأ يتضح قليلا قليلا في ضوء القمر الساطع بدا وكأنه انسان جالس على الرمال ضاما ركبتيه الى صدره وقد دفن وجهه بين ذراعيه . بدأت الافكار تدور في رأسي مسرعة . وبدأت التساؤلات تتقافز في ذهني كالشياطين الصغيرة.
ترى من يكون هذا الانسان ؟ لماذا يجلس هكذا وحيدا؟ .. ولماذا يجلس بهذه الطريقة؟ هل هو حي ام ميت .. فهو لا يحرك ساكنا.. وكأنه صنم قدّ من صخر ..
ربما يكون مريضا او متعبا .. واذا بهذا السيل المتدفق من الاسئلة يتوقف فجأة . يبدو انني قد اقتربت منه جدا حتى ان اصوات حركة قدماي تناهت الى سمعه فرفع رأسه ناظرا نحوي.
فتوقفت عن المشي تماما وحملقت فيه.
وحين التقت عيناي بذاك الوجه المتطلع حوي شعرت بدهشة كبيرة ..
فتاة في مقتبل العمر لم تتجاوز العشرين بدت في غاية الجمال في ضوء القمر. بوجنتيها الورديتين وعينيها اللتين بلون الزيتون وشعرها الاسود الفاحم المنسدل على جبهتها في نعومة. تجلس في ثياب سوداء طويلة
تعجبت لجرأة الفتاة، وتساءلت في نفسي لم تجلس هكذا وحيدة امام البحر؟ الم تخف من الليل والسكون الذي يلف المكان؟
وتعجب ايضا لتلك العبرة الحزينة التي المحها ، .. يا ترى علام حزنها؟ هل فقدت عزيزا لديها؟..
لقاء واحزان
تحركت الشفقة بداخلى على تلك الفتاة الصغيبرة الحزينة،، ووجدت احنو على تلك الفتاة التي في عمر بناتي وربت على كتفيها في عطف وقلت لها: ماذا بك يا بنيتي؟ .. كفكفي دموعك ..
وعندئذ اتسعت عيناها محملقة في وجهي وبصوت متهدج ينطق بالالم العميق سألتني قائلة :
وكيف عرفت، ان هناك احدا مات لي؟
فاجبتها:
انه ليس سر دفين يا صغيرتي. فحزنك ودموعك ووحدتك وملابسك السوداء جميعها تخبر بكم انت غارقة في الحزن.
وبعد برهة سألتها:
لكن من هو يا ابنتي، من تجلسين هكذا حزينة عليه للغاية وتذرفين عليه كل هذا الدمع؟
نظرت الفتاة للارض ثم جالت ببصرها بعيدا وتنهدت واغرورقت عيناها ثم انهمرت دموعها سخينة وقالت: انه ابي.
تلاحقت دموعها، واسرعت انفاسها، واحسست وكأنها سوف تجهش ببكاء مر .. حاولت ان اهدئ روعها وبحنان الاب قلت لها:
لا تحزني يا صغيرتي.. فاننا لا نخلد في هذه الدنيا . لابد ان يأتي الليوم الذي نرحل فيه عن هذه الارض سواءا رغبنا ام ابينا.
لكن كلماتي هذه كانت كلمات تقليدية كثيرا ما تقال في هذه المواقف. وشعرت انها لم تحدث اي تأثير في نفسية الفتاة ولم تعطها اي شعور بالعزاء. ولذلك اردفت قائلا:
يا ابنت انني لا اعترف بالموت. انه وهم .. وهم خادع لا وجود له.
نظرت الفتاة نحوي وفي عينيها تساؤلات كثيرات ثم مسحت دموعها وهي تقول:
كيف تقول هذا القول؟ من قال ان الموت وهم وانه لا وجود له؟
شعرت بارتياح كبير لانني استطعت انتشالها من فيض الذكريات المؤلمة، وجعلتها تغير عقلها ..
جلست مقابلها على الرمال وسرحت ببصري بعيدا، ثم عدت وقلت:
الناس جميعا يعرفون معنى واحدا للموت الا وهو نهاية الحياة. فالانسان ما دام ياكل ويشرب ويمشي وينبض ويتنفس فهو حي، اما حين ينتهي كل هذا فيقولون انه مات وانتهت حياته.. وفي رأيي ان هذا مفهوم خاطئ عن الموت.
انني ارى ان الموت ليس هو نهاية الحياة بل مجرد عملية تحويل للحياة من صورة الى اخرى.
فالحياة قائمة مستمرة لم تنقطع ولكن المكان والحال هو الذي تغبر.
فمثلا عندما يهاجر انسان من بلده الاصلي الى بلد اخر يصبح هذا الشخص غير موجود في بلده الاصلي بين اهله وصحبه لكن رغم ذلك لا يقول احد انه قد مات، لانه فعلا ما يزال حيا هناك في البلد الاخر رغم ان احدا لا يراه.
انني ارى ان الموت لا يختلف شيئا عن الهجرة. ولذلك فالموت لا وجود له.
حاولت الفتاة ان تتصنع الابتسام مجاملة لي ولكن ابتسامتها كانت تحمل من ملامح السخرية اكثر مما تحمل من ملامح الشكر. ثم قالت:
اشكرك فانت تشبه ابي في طيبة قلبه وفي ايمانه، ولقد كان في مثل عمرك تماما حين توفى. واعترف لك انك حين خاطبتني بلفظة ابنتي شعرت بالارتياح نحوك وهذا ما يشجعني للحديث معك.
ثم تغيرت لهجتها بعض الشئ وهي تقول:
لكنني ارى الواقع على حقيقته بلا خيال ولا اوهام ، وبلا امال كاذبة ولا خرافات .. انني ارى الابيض ابيض والاسود اسود. لا احاول ان احوّل حياتي الى مجموعة اوهام جميلة.
ثورة
حين انتهت الفتاة من كلماتها هذه ساد الصمت للحظات .. اذ فاجاتني كلماتها..
سألت نفسي ما معنى كلامها؟ هل هي ترفض كلامي عن الحياة الاخرى بعد الموت؟ واردت ان استجلي الامر اكثر:
لست ادري ما تقصدين ؟ هل تعتبرين الحياة الاخرى وهم؟
اخذت الفتاة نفس عميق وكأنها تشحذ ذهنها للرد:
انني لا اتحدث بافكاري هذه مع احد، خاصة هؤلاء الذين يؤمنون بالله وبالقيامة والخلود الى اخر هذه الافكار العتيقة. لان كلامي دائما يثير غضبهم ويحولهم من اشخاص ذوي اخلاق راقية الى اشخاص وقحين يريدون ان اتوقف عن عرض افكاري وليس في افواههم سوى هذه الكلمة: هذا تجديف .. هذا تجديف.. استغفري الله. انهم اضعف من ان يواجهوا الحقيقة او يفندوا ارائي.
شعرت بشعور عجيب هو خليط من مجموعة مشاعر تجمعت في ان واحد.
اردت ان ارد على اتهاماتها الباطلة وفي نفس الوقت اردت الا اجرحها .. امسكت لساني اذ اردت ان اجعلها تترسل فاعرف ما يدور بخلدها.
استرسلت الفتاة بلهجة تفوق سنها كثيرا. في الحقيقة بدت كاستاذة جامعية تحاضر مجموعة من الطلبة:
انني لم اخرج من مطالعاتي الكثيرة وابحاثي العديدة الا بحقيقة واحدة. ان هذه المعتقدات اوهام باطلة..
بدت ملامحي الشعور بالضجر وانا ارى فتاة متعجرفة ترفض الاراء الدينية. ولاحظت هي ذلك.
كثير من البسطاء والجهلاء الذين يعيشون في احضان الجهل وفي اعماق القرى والنجوع بمنأى عن العلم والثقافة يؤمنون بكثير من الاوهام والخرافات. ويقون بها يقة كاملة بدون دراسة .. وبسبب الجهل يتخيلون وجود كائنات مرعبة فيؤمنون بالاشباح والجن ويخهافون منها..
ولكن اذا ترك احدهم قريته ورحل الى حيث يوجد البحث العلمي والدراسات العقلية والاثباتات المنطقية فلابد ستزول هذه الخرافات من راسه.. وبالتاكيد سوف يسخر من نفسه كيف كان يؤمن بهذه الخرافات؟
– لكن الذين يرقدون على رجاء القيامة اعطاهم ايمانهم بالقيامة الشعور بالقيمة والمعنى، فالذين لا يؤمنون بالقيامة يقولون “لناكل ونشرب لاننا غدا نموت”..اعطت القيامة لحياتهم هدف فلم يعودوا يتلهون بالحياة. فالذين لا يؤمنون بالقيامة عاشوا في حياة العز على الارض والمتعة بالارضيات وتعظم المعيشة. ان حياتنا على الارض ما هي الا اعداد لما بعد القيامة.. القيامة تعطينا معنى ساميا هو التخلص من المادة.. لم يقم المسيح بجسد مادي بل روحاني.. والقيامة اعطت المؤمنين الشجاعة وعدم الخوف من الموت.. القيامة ربطتنا بالسماء والقديسين.. لولا القيامة لعاش الانسان مثل الحيوان..ولكن القيامة جعلت الانسان انسانا ، لانه ما دام هناك قيامة فسيكون بعدها حساب ، وثواب وعقاب ، لذلك عاشوا مدققين في حياتهم .. القيامة تعطينا الرجاء والرجاء مفيد على مستوى الافراد والجماعات بل والدول ايضا..
– ولكن هل القيامة ستمنحك السعادة؟
– القيامة تعطينا الفرح.. اقصى فرحة هل هي الفرحة بشفاء مريض؟
-نعم
– كلا بل بقيامته من الاموات.. ان القيامة انتصار على اقوى عدو وهو الموت.. امام الموت خضع الجبابرة والملوك والطغاة..
– لكن انا اكلمك عن السعادة هنا على الارض وليس في عالم اخر.
– القيامة تجعلنا سعداء هنا على الارض لانها تعلمنا كيف نواجه المشاكل، لانه امام القيامة نشعر انه لا مستحيل.. ولا صعب.. نشعر ان الحزن وراءه فرح والليل بعده نهار .. كل المشاكل في الدنيا لها حل.. لا توجد مشكلة تظل تتأزم وتتعقد الى ما لانهاية بل انها تبدأ وتزيد ثم تنحسر.. تتصاعد ثم تقل حتى تنتهي .. اي ان المشكلة لها شكل هرمي. في رأيك لماذا يخاف الناس الموت؟
– اخبرني انت.
– لسببين.. اولا انه مجهول.. الثاني يخاف الناس الموت لانهم يخافون ما هو بعد الموت، فلو ضمن ما بعد الموت لا يخاف الموت اطلاقا.. فالابرار يرحبون بالموت وله القاب عندهم غير مخيفة بسبب القيامة مثل “الموت هو ربح” .. “الموت رقاد (نوم)” .. “الموت هو انتقال” “خلع الخيمة” ليقيم الانسان في مكان عظيم.. القيامة اعطتنا المجد.. اشعرتنا بقيمة الانسان.. هو ليس فقط حفنة من التراب ولكن له روح .. له قيمة في نظر الرب الذي قال مخاطبا الاب من جهتنا “وانا قد اعطيتهم المجد الذي اعطيتني”.