العذراء والرحمة …
عُرف هذا الرجل الغنيّ بمحبّته للرحمة والصدقات وضيافة الغرباء. ففي ليلة من الليالي بعد أن تعشّى مع أهل بيته صلّى ونام، وفي الصّباح وجدوه مطروحًا على الأرض كالميت، فحمله أقرباؤه ووضعوه على السرير وهو لا يشعر بشيء، وقدّموا له أدوية وعلاجات مختلفة ولكن من دون فائدة. ثمّ بعد أيّام كثيرة عاد إلى رشده، فسألوه أن يخبرهم بما أصابه، فلم يجبهم بكلمة لكنّه كان يبكي باستمرار بكاء لا عزاء فيه.
مرّت أسابيع عدّة شعر الرجل خلالها بدنوّ أجله، فاستدعى ابنه الأكبر وقال له على مسمع من كثيرين: “كن، يا ولدي الحبيب، رحومًا شفوقًا على الفقراء قدر استطاعتك، ومحبًّا للغرباء وعابري السبيل. افتح لهم أبواب منزلك ببشاشة، واقضِ حاجاتهم بغير بخل، لأنّ محبّة الغرباء مقبولة عند الربّ، ومن يمارس هذه الفضيلة له أجر عظيم. ولكي أحضّك على فعل الخير هوذا أقصّ عليك ما رأيته لمّا كنت طريحًا في البيت كالميت: فاعلم أنّي منذ صباي وأنا متعلّق بمحبّة والدة الإله الفائق قدسها وكنت أتلو لها المديح وأتوسّل إليها كلّ حين، ولذلك غرس السيّد، بشفاعاتها، في قلبي الشفقة على الفقراء والمساكين. ففي تلك الليلة سمعت صوتًا يناديني باسمي ويقول لي انهض من سريرك واتبعني فنهضت. أمسكني صاحب الصوت من يدي، واقتادني إلى روضة عظيمة، ثمّ غاب عنّي وتركني وحيدًا في تلك البقعة الواسعة. وفيما أنا واقف متفكّر بحالي ومتحيّر ماذا يجب أن أصنع، سمعت من ورائي أصواتًا مريعة مخيفة، فالتفتّ إلى خلفي فأبصرت زمرة من الشياطين لا يحصى عددها هاجمين عليّ كالوحوش الضارية. أمّا أنا، فحالما رأيتهم فررت هاربًا وجريت بسرعة حتّى وصلت إلى بيت وجدته أمامي فدخلته وأغلقت عليّ الباب، فكسروا الباب ودخلوا ليخطفوني.
ولكن يجب أن أخبرك حادثة جرت لي وهي: منذ ثلاث سنين صادفت غريبًا على قارعة الطريق فأتيت به إلى منزلي لأرحّب به على جاري عادتي. فلمّا وصلت وجدت فقيرًا آخر كانت أمّك قد قبلته – بمّا أنّها كانت توافقني على عمل الخير – وبعد ساعة أتاني أخي بفقير آخر ففرحت من كلّ قلبي لوجود هؤلاء الثلاثة الغرباء في منزلي، إذ اعتبرتهم على اسم الثالوث الأقدس، فأكرمتهم وساعدتهم بوجه باشّ على قدر الطاقة.
والآن دعنا نعود إلى سياق قصّتنا: فعندما كسر الشياطين الباب ودخلوا البيت، أخذت أصيح طالبًا المعونة من الربّ بشفاعات مريم الدائمة البتوليّة، وللحين أبصرت ثلاثة رجال بهيّي المنظر يقولون لي: “لا تخف لأنّنا وافينا لمعونتك”. ولمّا طردوا الشياطين سألوني: “أتعرف من نحن؟” فقلت: “لا، يا أسيادي”. فقالوا: “نحن الغرباء الثلاثة الذين استضفتنا في منزلك بالترحاب، وقد أرسلنا الربّ الإله لمعونتك جزاء محبّتك”. ولمّا قالوا هذا غابوا عنّي فشكرت الله من كلّ قلبي، ومع ذلك لبثت خائفًا أن أخرج من ذلك البيت، ولكنّي رسمت إشارة الصليب الكريم وخرجت متّكلا على الله.
وما إن مشيت قليلاً إذا بالشياطين يتبعوني وهم يصيحون: “لنسرعنّ في إمساكه لئلاّ يفلت من أيدينا”. أمّا أنا فشملني خوف عظيم جدًّا وطفقت أجري بسرعة وأصرخ: “أيّتها الفائق قدسها والدة الإله أعينيني”. وفيما أنا أجري وصلت إلى نهر ناريّ مفعَمًا حيّات وعقارب ووحوش مختلفة الأجناس، وكانوا غارقين في النار حتّى أعناقهم، وأمّا رؤوسهم فكانت طافية على وجه النهر وأفواههم مفتوحة وكأنّهم يطلبون طعامًا. وأمّا الشياطين فكانوا يجدّون في إلقائي في النهر. نظرت حولي، فأبصرت بالقرب منّي جسرًا وكان هذا الجسر ضيّقًا جدًّا ومرتفعًا جدًّا حتّى إنّك تظنّ أنّه واصل إلى السماء. فرحت أصعد الجسر درجة درجة برعب شديد، ولمّا وصلت إلى رأسه وجدت، أيضًا، الشّياطين خلفي، فهتفت بدموع: “يا والدة الإله ساعديني”. وللحال صادفت أمامي أمّ الرحمة وملكة الملائكة، فناولتني يمينها المقدّسة قائلة: “لا تخف، أيّها العبد الحبيب، أنت كنت دائمًا صديقًا مُخلصًا لي لأنّك كنت ترحم المساكين إخوة ابني وسيّدي، فلذلك جئت الآن لمساعدتك في حزنك”. ومع كلامها هذا أخذتني بيدي وأتت بي إلى منزلي. ولذلك وجدتني في ذلك الحين كالميت من خوفي.
فاحترس، إذاً، ولا تتوانَ ولا تملّ من خدمة سيّدتنا القديرة، بل قدّم لها دائمًا ما يليق بها من التسبيح والتمجيد. هذه هي وصيّتي الأولى لك. وأمّا الثانية، فكما قلت لك آنفًا أن تحضّ نفسك على مودّة الغرباء والشفقة على الفقراء والمساكين وأن تساعدهم قدر استطاعتك، لأنّك بهذه الطريقة تفوز بالسعادة في هذه الدّنيا وفي الآخرة بملكوت السّماوات …