بيتهوفن

beethoven4

كنت انا وصديقي “ارنست هيز” جالسين معا في احدى الليالي وقد ضاقت نفسي بمتاعب نفسية وجسسمية هائلة، وكان هيز ينظر اليّ متمللا. انه يريد ان يحدثني. كنت قد تعبت من احاديثه. حدثني عن “راهيري” ثم عن “مايكل انجلو” ثم عن “جون نوكس” وسمعت له في ملل، لا لان احاديثه كانت غير ذات اهمية، ولكن لاني انا كنت في حالة نفسية غير طيبة. وقال لي هل ترغب ان احدثك عن “جون اليوت” فهززت رأسي ان لا. حسنا “كريستوفر رن” فقلت لا. اذا فاسمع مني عن “بيتهوفن” وقبل ان اجيب بدأ يتكلم. وظل يتكلم ويتكلم وانا اصغي لحديث عميق مؤثر، ولما فرغ كانت عينايّ مملؤتين بالدموع. هذا رجل عظيم حقا، اشاع البهجة في العالم ولكنها كانت بهجة القلب، من ظلام حياته شع نور ملأ ارجاء الدنيا، نعم هذا هو بيتهوفن!

لم اكن اعرف عن بيتهوفن الا انه موسيقي، وان بعض الات الموسيقى يطلق عليها اسمه، ولما كنت في المانيا عام 1964م اخذونا الى البيت الذي عاش فيه بيتهوفن وارونا صوره وهو طفل وهو شاب.. عرفوني بالموسيقي العبقري لكن هيز عرفني بالانسان الرجل العظيم!

بيتهوفن ولد في مدينة بون العاصمة الالمانية وقتذاك، وقد نشأ في جو موسيقي. كان ابوه وجده موسيقيين ماهرين. وهكذا ملك الصبي الصغير ما نسميه “الاذن الموسيقية”. كان جده موسيقي البلاط. وكان ابوه يغني صوت “تنينر – الصراخ” وهو اعلى صوت للرجال في فرقة الموسيقى الملكية، لذلك كانت الامال الكبيرة معقودة على ذلك الصبي. كان في الخامسة عندما حبسوه في غرفة السطح لعدة ساعات ليتمرن على الة الكمان. وكان ابوه مدمنا للشراب مما ادى الى تردي احوالهم المعيشية، وعندها فكر ان يجعل من ابنه موسيقيا ماهرا لكي يساهم معه في مصروفات البيت ولذا الزمه على التمرين الشاق لساعات طوال في اليوم.

كان الصغير “لودويج فان بيتهوفن” يقاسي اياما صعبة – كان يعيش بلا صديق. لم يخبرني صديقي عن ام بيتهوفن. لم ان كانت موجودة ام انه كان يتيما. على كل حال كان بيتهوفن يعتبر يتيما ، اذ ان الاب كان اداة جامدة لا هم له سوى تعليم ابنه الموسيقى ليجلب ايراد للرجل السكير. قيل ان الولد لم يكن له الا صديق واحد هو عنكبوت يقيم في سقف الغرفة. وقد اعتاد ان ينزل من مكانه ويقبع على الكمان، على انه بالرغم من هذه النشأة الصعبة فان لودويج الصغير كان مغرما بالموسيقى. كانت له اذن دقيقة جدا حتى انه كان يلاحظ اقل غلطة. ولم يكن يرضى عن نفسه الا بعد ان يعزف كل قطعة عزفا صحيحا وجميلا مهما كلفه هذا من كفاح.

في عمر الحادية عشرة كان لودويج يدير اوركسترا كبير . وفي عمر الثالثة عشرة اشتهر في مدينة بون. على انه بالرغم من ذلك لم يكن راضيا عن نفسه، لم يكن راضيا ان يكون مجرد عازف موسيقى يؤلفها اخرون. كان يجلس ساعات  طويلة على الة البيان يصلح ويعدل موسيقى المؤلفين العظماء امثال “موتزار” بل كان يؤلف الحانا موسيقية فورا. وقبل ان يصل الى سن العشرين ذهب الى مدينة “فيينا” – وكانت في ذلك الوقت من اهم المراكز في العالم الموسيقي – ليتلقى الموسيقى على يد كبار الموسيقيين امثال “موتزار” و “هايدن” وغيرهم ممن كانوا اذ ذاك في قمة الشهرة. على انه لم يمض وقت طويل حتى فاق معلميه. واكتشف الامراء والنبلاء عبقرية الموسيقي الموهوب. كانوا ينصتون لموسيقاه بابتهاج، وكان يروق لهم بالاكثر ان يسمعوا موسيقى من تأليفه. كانوا بعد ان يسمعوا مقطوعاته المنقولة عن “موتزار” و “هايدن” ويصفقون له طويلا كانوا يقولون له اعزف لنا شيئا من تأليفك. فكان يعود الى البيان ليعزف الحانا ساحرة كانت في اغلب الاوقات من وحي الساعة.

كانت موسيقى بيتهوفن مستمدة من دنيا الطبيعة. كانت اوراق الهريف المتساقطة على الارض ترسم في خياله جنيات ترقص على المسرح. كان يسمع في شدو العصافير  ترانيم حمد لله. ولاذنيه العجيبتين كانت الدنيا مليئة بالموسيقى. وقد كان يملك هبة تحويل اصوات الرياح والعواصف الى الحان واوتار كانت تؤلف مقطوعاته الموسيقية الرائعة. وعندما بلغ الخامسة والعشرين طار صيته بسبب عزفه الجميل وتلحينه العجيب. وقد جمعت بعض مؤلفاته الموسيقية وطبعت وتهافت الموسيقيون على شرائها وتعالى الهتاف له في كل مكان بصفته الموسيقي العبقري. لقد فاق بيتهوفن كل المؤلفين الاخرين بنضاله وكفاحه – انك لن تجد سطرا واحدا في مسودات مقطوعاته الا وقد كتب وشطب واعيدت كتابته عدة مرات لا تقل في غالب الاوقات عن اثنتي عشرة مرة.

ومن الغريب ان نجاحه الباهر لم يصيبه بالعجب او يفسد اخلاقه!

عندما ماتت امه جعل يعمل بكفاح اشد عن قبل ليحصل من المال ما يمكّنه من مساعدة اخوته واخواته في التعليم. وفي الوقت الذي كان اقرانه من طبقة النبلاء يبذرون اموالهم في البذخ حفظ بيتهوفن نفسه نقيا صادقا مستقيما. كان يحب الاحسان ومساعدة المحتاجين بعطاياه السخية!

على انه من الغريب انه كان فظا نحو من ينظر الى فنه باستهانة.

حدث بينما كان يعزف امام مجموعة من ابناء الطبقة الراقية (الارستقراطية) انه لاحظ ان بعض الحاضرين استمروا يتحدثون بعضهم مع بعض واحتمل بيتهوفن ذلك فترة وهو يرجو ان يكفوا عن الكلام. ولكن صبره انتهى فصاح اني لن اعزف الى خنازير مثلكم وترك القاعة غاضبا!

كان اذا ما استرعى خياله بعض الموسيقى الجميلة نحى جانبا كل ما بيده الى ان يسجل اللحن الجديد على الورق. وقد يحدث ان يذهب الى مطعم صغير ليتناول طعامه وينسى كل شئ عن الطعام لان وحيا مفاجئا داعب عقله فيبدأ يدوّن علامات الالحان المختلفة على قصاصات ورق لكي لا تضيع النغمة من اذنيه، بل انه في بعض الاوقات كتب هذه الالحان على “درف” نوافذ الفندق الذي يقيم فيه.

كارثة دهماء:

ولما بلغ بيتهوفن الثلاثين ذاع صيته في كل انحاء العالم. دعى لزيارة بلدان كثيرة لكنه لم يتمكن لاعتلال صحته، كذلك بدأ ظل كارثة دهماء يخيم على حياته. بدأ يشعر بشئ من الصعوبة في سماع الاخرين، وقد ظل مدة طويلة يرفض ان يعترف انه اصبح اصما. ولم يجد اصدقاؤه الشجاعة ان يواجهوه بالحقيقة. ولم يلاحظ الناس لعدة سنوات انه كان يجد صعوبة في سماع احاديثهم وانه فيقيادة فرق الموسيقى لم يكن يسمع الاصوات الخافتة فيها. غير ان الامر لم يمكن اخفاؤه اكثر من ذلك. فقد حدث انه اصر ان يقود احدى الاوبرات ولكن صممه قد بلغ منتهاه ولذلك سادت الفوضى في الموسيقى ولم يوجد في الفرقة من جرأ ان يخبره ان كل شئ يسير في طريق خاطئ!

وفي التدريب الثاني كان الامر اردأ . ولما لم يستطع احد ان يخبره بالحقيقة ارسل له صديق بطاقة فيها الكلمات “الزم بيتك!”.

وادرك المسكين الحقيقة فاندفع خارجا وفي البيت وجدوه منحنيا على مكتبه وهو يضع وجهه بين يديه وقد تجلت التعاسة الكاملة عليه – انه ما عاد يستطيع قيادة اية فرقة موسيقية.

على ان بيتهوفن كان اعظم من ان يستسلم لليأس فانه بالرغم من عجزه عن قيادة الموسيقى لم يترك الموسيقى ودأب على التأليف. فهو ان كان لا يستطيع ان يسمع الموسيقى فانه يستطيع ان يوصلها الى الاخرين. واذ ذاك اخذ يؤلف اروع المقطوعات التي اطربت اذان الناس. وكثيرا ما رؤى على المسرح جالسا على آلته يرسل انغاما تهز مشاعر الاخرين.

==

قصة معزوفة ضوء القمر

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s