في صباح يوم شتوي دافئ اشرقت الشمس بنورها الساطع، وغردت العصاقير تغريدا مطربا فوق الشجيرات القريبة من باب المجمع. لم يكن اليوم سبتا حيث يزدحم المجمع باهل المدينة الذين يأتون للعبادة بقراءة التوراة والانبياء وترتيل المزامير.
كان كل مجمع ملحق به كتّابا يتلقى فيه الصبية الدروس الدينية. في هذا اليوم تحلّق حوالي عشرين صبيا حول الرابّي “سمعان”، وكان من بين هؤلاء الصبية “يشوع” الذي بعد ان تعب من الدرس شخص بعينيه، بعيدا نحو الباب، يتطلع في الوادي المنحدر، حيث اشجار الزيتون تمايلت اطراف اغصانها لتتحرك مع هبات ريح خفيفة لطيفة، وكأنها تدعوه للخروج من الكتّاب، ليمتّع نفسه بالعالم الواسع ذو الطبيعة الجذابة، التي تدعو كل من يتطلع اليها لتسبيح يهوة الخالق العظيم.
كانت طريقة الرابي (المعلم) سمعان في التعليم غير مشوقة. اذ كان يهتم فقط بتحفيظ تلاميذه فصولا من التوراة دون ان يشرح معاني الكلمات الا قليلا. وفي تلك الساعة كان يتلو على الاولاد بنغمة طنانة ، خارجة من انفه اكثر مما هي من شفتيه.ويجعل الاولاد يرددون وراءه اكثر من مرة مزمو 72 وهو لسليمان الملك ويقول:
“اَلَّلهُمَّ، أَعْطِ أَحْكَامَكَ لِلْمَلِكِ، وَبِرَّكَ لابْنِ الْمَلِكِ.
يَدِينُ شَعْبَكَ بِالْعَدْلِ، وَمَسَاكِينَكَ بِالْحَقِّ.
تَحْمِلُ الْجِبَالُ سَلاَمًا لِلشَّعْبِ، وَالآكَامُ بِالْبِرِّ.
يَقْضِي لِمَسَاكِينِ الشَّعْبِ. يُخَلِّصُ بَنِي الْبَائِسِينَ، وَيَسْحَقُ الظَّالِمَ.
وكان في الخارج كلب جاء وجلس على الطريق ، وعيناه نحو باب المجمع كأنه ينتظر شيئا فاخذ يشوع يلاحظه، وقلبه الرقيق يتمنى ان يقدم له شيئا ليأكله، بينما كان صوت المعلم يرن في اذنيه ويغالب النعاس ولكنه افاق على جملة رددها المعلم واثارت انتباهه:
“مُلُوكُ تَرْشِيشَ وَالْجَزَائِرِ يُرْسِلُونَ تَقْدِمَةً. مُلُوكُ شَبَا وَسَبَأٍ يُقَدِّمُونَ هَدِيَّةً.
وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ الْمُلُوكِ. كُلُّ الأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ.
شرح المعلم مكان ترشيش ، انها في غرب البحر الكبير، والجزائر هي مجموعة الجزر التي تقع فيه، اما شبا وسبا فهي في جنوب بلاد العرب.
كان لهذه الصورة تأثير في نفس يشوع، فتنبه كأنه استيقظ من نوم ليرسم في عقله الصغير صورة ملك عظيم يجلس على عرش من العاج وامامه رجال بل وملوك ايضا يقدمون له هداياهم الثمينة.
وامام هذا المنظر المهيب نسى الكلب الذي كان رابضا امام الباب. وتحولت عيناه الى المعلم واصغى الى بقية اقواله الى ان جاء القول:
لأَنَّهُ يُنَجِّي الْفَقِيرَ الْمُسْتَغِيثَ، وَالْمَِسْكِينَ إِذْ لاَ مُعِينَ لَهُ.
يُشْفِقُ عَلَى الْمَِسْكِينِ وَالْبَائِسِ، وَيُخَلِّصُ أَنْفُسَ الْفُقَرَاءِ.
زادت هذه الاقوال اهتمامه. أليس هو وامه من الفقراء والمساكين؟ أم يكن افطاره هذا الصباح رغيفا من الشعير، خبز الفقراء الرخيص ؟
ولولا تعلمه القناعة من امه لما استطاع تحمل شظف العيش هذا.
“يَكُونُ اسْمُهُ إِلَى الدَّهْرِ. قُدَّامَ الشَّمْسِ يَمْتَدُّ اسْمُهُ، وَيَتَبَارَكُونَ بِهِ. كُلُّ أُمَمِ الأَرْضِ يُطَوِّبُونَهُ.
هذه العبارة رددها المعلم ورددها التلاميذ من بعده. واذا بصوت اتي من طرف الدائرة يسأل متلهفا: “يا معلم، اين هذا الملك؟”
القى المعلم نظرة امتزجت بالضيق والدهشة وقال بصوت زاجر:
“اسكت يا مكدر السلام، الا يكفيك ان تتعلم اقوال الكتاب المقدس وتحفظها، حتى انك تطلب ايضا فهم معانيها؟
استغرب يشوع من رد المعلم، وبالرغم من هذا فقد منعه ادبه ان يظهر استياءه لمن هو اكبر منه. ومع هذا فقد اصرّ على تعطشه للمعرفة فاكمل كلامه ولكن بوداعة:
“من هو هذا الملك الذي .. ينجي الفقير..” وهنا اختنق صوته بنبرات تخالطها لجلجة البكاء فصوب التلاميذ كلهم نظرهم اليه وهم يهزأون من ردائه البالي المشدود حول كتفيه ليقيه البرد القارس. لم يأبه يشوع ومنعته فطرته السليمة من السقوط في بالوعة الاحساس بصغر النفس.
تلطف المعلم قليلا وقال “الملك الذي يتكلم عنه سليمان هنا هو مسيا. ومتى جاء ذلاك فان الملوك يقدمون له افخر هداياهم”
انتهز يشوع شفقة المعلم فسأل “ومن هو المسيا؟” اجابه “هو الشخص الذي تحدث عنه الانبياء ، انه سيخلص شعبه”. تساءل “ولماذا سمى بالمسيا؟” اجاب المعلم بعد نفس عميق، معبرا عن محاولته لاطالة اناته “انها كلمة تعني المسيح او الممسوح بالدهن المقدس. الست تعرف ان ملوكنا كن يمسحن به؟”
سكت يشوع للحظات ثم همس “وهل سنراه؟
تطلع المعلم سمعان الى السماء الصافية وقد ارسلت الشمس اشعتها القوية من خلال باب الفصل وقال “اه! يا ابني من يدري؟”
وتأوه باشتياق واكمل “ليتنا نراه، فان البعض يقولون ان وقت مجيئه قريب. انني مثل كل اجدادي ننتظر قدومه بفارغ الصبر.”
هنا نظر المعلم نظرة عطف الى ذلك المخلوق الصغير الملتف بشاله البالي فقال في نفسه “يا ترى ماذا يملك هذا المسكين ليقدمه؟” كان التلاميذ يتهامسون ويتغامزون استهزءا .. واخيرا خطرت للمعلم اجابة استصوبها “اما عن هذا الامر فينبغي يا بني ان تسأل امك”.
شعر المعلم براحة لانه ازاح مسئولية اجابة السؤال على الام التي توقع انها متدينة والا فلماذا اسمت ابنها “يشوع” وهو اسم لشخصية عظيمة من شخصيات الكتاب المقدس.