يوميات استير -3

-3-

الملكة وشتي

.. لا اعلم كم مضى من الوقت منذ ذهبت الى فراشي لاحلم . انه مضى اكثر من ستة شهور كان عمي يحدثنا خلالها عن الوف العظماء الذين وفدوا الى شوشن القصر، وعن الولائم التي امتلأت بصنوف شتى من الاطعمة الفاخرة التي لم اسمع باسمها من قبل. اكل الاكلون حتى اتخموا وشربوا حتى ثملوا. واذهب السكر بالوقر فعربدوا. رقص الملوك والامراء والوزراء. ارتفعت الجلبة حتى امتلأ الجو بالضحك والمجون.

قال عمي ان الولائم انتهت بوليم ملكية خاصة استمرت سبعة ايام. وكذلك اقامت وشتى الملكة الجميلة وليمة في قصر الحريم سبعة ايام.كانت الموسيقى والاغاني والطرب تبعث في كل صدر البهجة الكاملة. نسى الناس كل ما عساه يعكر عليهم وقتهم.

على ان عمي جاءنا اليوم بخبر جديد. قال انه سبب هزة عنيفة ليس في شوشن القصر بل في كل انحاء المملكة.

جلسنا حوله نتساءل، ما عساه يا ترى هذا الحدث الجلل. فقال: يبدو ان الملك وجلساؤه اكثروا الشرب ليلة امس فاننطلقت افواههم بما لا يليق. تحدثوا في كل شئ – ما يجوز وما لا يجوز. وانتى بهم الامر الى الحديث عن النساء .. تحدث الكوشيون عن نساءهم السمراوات. وتحدث العرب عن عيون المها، وتغزل الصوري في جمال المرأة الفينيقية. وهكذا جعل كل امير ووزير وسفير يتحدث في خمره عن جمال بنات جنسه. وحدثت مشادة بين القوم اي النساء اجمل. قال احدهم رأيت بالامس اجمل امرأة في الوجود، وقال اخر بل ان ما رأيتها اجمل امرأة.

كان حديثهم كله من خيال الخمر لان المرأة في هذه البلاد لا يجوز ان تكشف وجهها على سبيل استعراض الجمال ..

وكاد القوم يتشابكون في خصام يدوي، واذا الملك يشير بيده ان يصمتوا.. واذ به يقول يا لكم من حمقى! اتتحدثون عن جمال الكوشيات والاشوريات والبابليات والمصريات والموآبيات.. الخ وتنسون جمال الفارسيات؟ ان جمال الفارسيات يفوق كل جمال.. واجمل حسناء في كل العالم هي زوجتي العزيزة وشتى.

ثم التفت الملك الى الخصيان السبعة: مهومان وبزثا وحربونا وبغثا وزيثار وكركس وابغثا الذين كانوا يخدمون بين يدي الملك ان يأتوا بوشتي الملكة الى امام الملك بتاج الملك ليرى الشعوب والرؤساء جمالها.

وقع الامر على الحاضرين كالصاعقة. كانوا يعلمون بالتقاليد الفارسية. فلو ان الملكة جاءت فان الملك لابد وان يطردها عندما يفيق من خمره. واذا لم تحضر فان مكانة الملك امام سفراء الدول ورؤساء الولايالت والامراء ستضيع اذ من ذا الذي يجسر ان يعصى الملك ويعيش. وذهب الخصيان السبعة وعادوا يخبرون ان الملكة رفضت اطاعة امر الملك.

والتفت الملك الى وزرائه السبعة المقربين وصاح بصوت كالرعد: اتعصاني؟ ماذا يعمل بالملكة وشتى؟ .. كان المنتظر من هؤلاء الحكماء المتمرسون بالسياسة ان يهدئوا ثورة الملك ويذكرون له ان الملكة انما ارادت بعدم طاعتها تجنيبه القيل والقال.. كان المنتظر ان يطلبوا منه ان يؤجل البت في هذا الموضوع فترة من الزمان ، لكنهم اضافوا وقودا الى النار المشتعلة. تقدم مموكان كبير الحكماء وقال: “ليس الى الملك وحده اذنبت وشتي الملكة بل الى جميع الرؤساء والشعوب الذين في كل بلدان الملك. لانه سوف يبلغ خبر ما فعلته الملكة الى جميع النساء فيحتقرن ازواجهن حين يقال ان الملك زركسيس امر ان تأتي وشتي الى امامه ولم تأتي. ‏وَفِي هذَا الْيَوْمِ تَقُولُه رَئِيسَاتُ فَارِسَ وَمَادِي اللَّوَاتِي سَمِعْنَ خَبَرَ الْمَلِكَةِ لِجَمِيعِ رُؤَسَاءِ الْمَلِكِ. وَمِثْلُ ذلِكَ احْتِقَارٌ وَغَضَبٌ.

وقال عمي انه قد تراءى اليه ان مموكان كان يتحدث بلهجة جادة وحادة جدا زادت من غضب الملك، فسأله اذن ماذا يكون عقاب وشتي. هل ترى اصدر امري بقتلها، ولكن مموكان الخبيث كان يعلم ان قتل الملكة ليس لصالح الملك وان الملك قد يعاود نفسه فيما بعد ويندم على قتله للملكة لانها فعلا لم ترتكب خطأ. ولذلك قال: كلا. يا مولاي ينبغي ان يكون عقابها فيه اذلال لها. وانا ارى انه إِذَا حَسُنَ عِنْدَ الْمَلِكِ، فَلْيَخْرُجْ أَمْرٌ مَلِكِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ، وَلْيُكْتَبْ فِي سُنَنِ فَارِسَ وَمَادِي فَلاَ يَتَغَيَّرَ، أَنْ تطرد وَشْتِي من مكانها وان تحدد مكان اقامتها فلا تأتي إِلَى أَمَامِ الْمَلِكِ، وَلْيُعْطِ الْمَلِكُ مكانها لِمَنْ هِيَ أَحْسَنُ مِنْهَا. فَيُسْمَعُ أَمْرُ الْمَلِكِ الَّذِي يُخْرِجُهُ فِي كُلِّ مَمْلَكَتِهِ لأَنَّهَا عَظِيمَةٌ، فَتُعْطِي جَمِيعُ النِّسَاءِ الْوَقَارَ لأَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْكَبِيرِ إِلَى الصَّغِيرِ“.

قلت لعمي في نغمة خجل: “وهل قبل الملك كلام مموكان؟

وضحك عمي ضحكة ساخرة.

وقال نعم. نعم. فقد حسن الكلام في اعين الملك والرؤساء. وارسل في الحال كتبا الى كل بلاد المملكة لكي يكون كل رجل متسلطا في بيته.

وضحكت زوجة عمي وقالت وهل يستطيع المرسوم الملكي ان يصنع من النعاج رجالا؟

وما هو هذا الاحترام الذي يحصل عليه الرجل بسلطان حكومي. لا شك ان مموكان ورفاقه لم تكن لهم الرجولة الحقة التي تجعلهم يحوزوا احترام نسائهم. لكني اسأل لماذا كان مموكان متحاملا ضد الملكة.

وقال عمي: لقد اجبت انت جزءا من الجواب. انه لم يكن رجلا في بيته وكانت وشتي تتمتع بقسط كبير من السلطة، وكان نفوذها على الملك اقوى من نفوذ الوزراء وكان لها حزب كبير داخل القصور الملكية يؤيدها. وطالما قامت معارك خفية ومؤمرات بين الطرفين وكانت هي الفائزة على الدوام.

وقلت انا: ولكن لماذا لم يشر مموكان بقتل الملكة وقد كان يمكن تنفيذ الحكم اثناء ثورة الملك؟

وقال عمي: لقد كان مموكان حكيما فلو انه اشار بقتل وشتي، ثم ندم الملك على قتلها عندما يهدأ ، فانه اذ ذاك سيصب غضبه على الوزراء وقد يقتلهم وينكل بهم.

قلت: ولكن بقاءها سيكون شوكة في جنوبهم، فاذا ما ندم الملك انه حدد اقامتها وردها الى مقامها فيما بعد، فستنتقم هي من مموكان وحزبه.

اجاب عمي: ان مموكان لم يكن غافلا عن هذا الامر ولذلك اشار ان يكون حكمه لاشريعة تصدر في مرسوم ملكي لا يجوز ان ينسخ بحيث لا يستطيع الملك نفسه ان يلغيه. نعم كان مموكان خبيثا الى اقصى حد! فقد قدم مشورة ناعمة لينة فيها غيرة على مقام الملك وفيها رأفة على الملكة وفيها محافظة على كيان الاسرة. وصمت عمي قليلا ثم قال:

ان البلبلة سادت المدينة . ولكن الحديث كان يجري همسا. وقد بلغني ان الملكة وشتي استقبلت حكم الملك بدون اكتراث وانها انطلقت الى جناح قصي في احد القصور الملكية. وعاشت مع عدد قليل من الخدم. ولكن الجميع عطفوا عليها. وودعها الكثيرات بالدموع.

-4-

أضف تعليق