امل في النافذة

cropped-cca2c05098bb2e7f52dc0bb6bb199f62.jpg

كانت الشمس تبسط اشعتها على الارض المنحدرة الخضراء والطيور تنطلق من اوكارها باحثة عن ارزاقها وهي تنشد نشيد الصباح ، والرجال يسيرون تعلو وجوههم بسمة السعادة واشراقة التفاؤل. وازاح سعيد ستار النافذة ولصق وجهه بزجاجها وراح يتطلع الى الدنيا وهي تنفض عن نفسها غبار النوم والكسل لتتطلع في امل الى يوم جديد. لكنه سرعان ما ابعد وجهه واسدل الستائر. ولم تفارق وجهه مسحة الحزن والكآبة ولم تغادر عيناه نظرة اليأس والتشاؤم. الدنيا من حوله ضاحكة مرحة وهو وسط هذا الضحك والمرح لا يشعر الا بما في قلبه من يأس يبحث في قلبه عن بقية من امل .. فلا يجد!

وتحول يسير في حجرته بخطى وئيدة مضطربة. واتجه نحو دولاب صغير معلق في الجدار فتحه بهدوء والقى نظرة سريعة بداخل الدولاب. ثم مد يده بداخله. واخرجها وبها عبوة صغيرة اخرج منها عددا كبيرا من اقراص بيضاء صغيرة اذابها في كوب ماء والقى بالعبوة على الارض .. نعم كان يعلم انه ينتحر . كان يعلم انه بعد ان يتجرع هذا الكوب ينتقل هو من هذا العالم الى عالم اخر. حمل الكوب بيد مرتعشة واقترب من النافذة وازاح الستار ثانية. والصق وجهه بالزجاج. ما زالت الدنيا ضاحكة مرحة. ما زالت الشمس تبسط اشعتها على الوادي الاخضر البعيد. ما زالت الطيور تغرد. وما زال الرجال يروحون ويجيئون وعلى وجوههم بسمة وفي قلوبهم امل.

ولكن! ولكن كل هذا لم يؤثر في سعيد! كل هذا لم يبعث في قلبه املا ولا في نفسه سعادة! القى على العالم نظرة اخيرة. ثم اخذ الكوب بيده وافرغه في جوفه جرعة واحدة. وسقط الكوب من يده وتحطم. ونظر الى الكوب المحطم تحت قدميه. ثم سقط على الارض بجانبه..

اناس يتشبثون بالحياة باسنانهم لا يريدون مغارقتها فاذا بالقدر يسخر منهم، واذا بهم في لحظة واحدة يغادرون عالمهم. واخرون يجتهدون في محاولة الهرب من الحاة. ولكن القدر ريسخر منهم ويعيدهم اليها ثانية.

فتح سعيد عينيه ونظر حوله. كان يتوقع ان يرى اشياء جديدة عليه. كان يتوقع ان يرى “ما هو وراء الحياة” لكنه لم ير شيئا. وعرف انه ما زال في الدنيا. على ان ذويه انقذوه وطلبوا له الاسعاف، وها هو الان ممددا على فراش بالمستشفى ، وقد علقت به قسطرة متصلة بكيس دم يضخ في شرايينه دماءا نقية بدلا من تلك التي افسدها.

لماذا؟ لماذا فعلوا هذا؟ لماذا لم يتركوه يموت؟ هل يظنون انهم انقذوه ؟ انقذوه من ماذا؟ من الموت؟ ما احب الموت الى قلبه.. كان يحب الموت بقدر بغضه هو للحياة، او قل بقدر محبة الاخرين للحياة!

واستراح قليلا من افكاره وراح يتلفت حوله، ووجد ابتسامة حلوة بجانبه. ابتسامة ترتسم على وجه ملاك ابيض كان يعني به. ودخل ملاك ابيض اخر.. دخل الطبيب واقترب من السرير وقال:

-هيه، نهارك سعيد يا سعيد! كيف حالك اليوم؟

شكرا لله يا دكتور.

وقاس الطبيب الحرارة والنبض.. وفتحت الممرضة النافذة، ثم خرجت في اثر الطبيب واغلقت الباب في هدوء. همس الطبيب للمرضة قائلا:

وفاء. عندي ما اقوله لك.

خير يا دكتور

انت تعلمين ان سعيدا ليس مريضا عاديا . تعلمين انه حاول الانتحار، والان صحته تحسنت كثيرا، ولكن ما الفائدة؟

ما الفائدة؟ ماذا تقصد يا دكتور؟

اقصد ما فائدة ان ننقذ سعيد. ويخرج من المستشفى وفي لحظة واحدة ينتحر ثانية. انسيت ان سبب انتحاره ما زال قائما. ونحن لم نفعل سوى اننا ارجأنا موته قليلا. ولكنه سنتحر ثانية. ما دام حاله لم يتغير والسبب الذي دفعه للانتحار اول مرة سيدفعه للانتحار مرة ثانية وثالثة..

فهمت يا دكتور. لكن ما العمل؟

وتمهل الدكتور قليلا وقال وهو يتفرس في وجه الممرضة:

والان جاء دورك انت. فرسالة الممرضة ليس فقط اعطاء المريض الدواء في ميعاده وانما اكثر من ذلك. نعم. انت يا وفاء بابتسامتك الدائمة ، بحديثك اللبق الطيب، بعملك النبيل تستطيعين ان تخلقي في قلب سعيد الامل. تستطيعين ان تعيدي اليه ثقته في نفسه وفي الحياة. ابعثي في نفسه الايمان والعزيمة. اخلقي في قلبه الارادة والتصميم. انت يا وفاء تستطيعين ان تحيي انسانا ميتا. وتنقذي بائسا وتنتشلي ضائعا.

فهمت يا دكتور. سأبذل جهدي.

شكرا يا وفاء. وفقك الله.

**

تسللت خيوط الشمس الذهبية من خلال الستائر البيضاء وغسلت وجه سعيد النائم فايقظته. فتح عينيه وارسلهما تبحثان حوله فطالعه وجه ملاك يبتسم . وقالت وفاء:

صباح الخير يا سعيد.

صباح النور

قالها سعيد في صوت خافت ثم انّ انينا ارتسمت فيه كل علامات الشقاء، وقال:

ارايت يا وفاء من هو اتعس مني في هذا الوجود؟ ابحث عن الحياة فتسد ابوابها في وجهي. اهرب منها الى الموت فيهرب الموت مني. ولا اجد مستقرا او سلاما لروحي الضائعة.

لا يا سعيد.! الحياة لم تسد بابها في وجهك. لا تظن ان الاقدار تترصدك انت وحدك وتضع العراقيل في طريقك. الدنيا لا تسد ابوابها الا اذا انت رأيتها هكذا. هذا لانك يائس خائر القوى ، تطرق بابها في تردد ووهن. ولكنك اذا فتحت صدرك وملا قلبك الايمان ومضيت تدق بابها بيد قوية وساعد نشط فستنفتح الابواب الموصدة وتتحطم اقوى السدود.

ونظر سعيد نحو النافذة وهو يتامل مناظر الطبيعة الساحرة، وقال:

اه، صدقت ا وفاء.

ومضت وفاء تقول:

لا تنظر الى الحياة من خلال نظارة سوداء لتراها سوداء. بل اخلع عنك نظارة اليأس والاحباط السوداء . واطلب من الله ان يعطيك ايمانا. قل مع داود في مزمور الراعي “الرب يرعاني فلا يعوزني شيئ”. بل صل الى الله واطلب منه “قلبا نقيا اخلق في يا الله. وروحا مستقيما جدد في احشائي”. انظر يا سعيد! هل ترى هذه الشجرة العجوز؟ هل ترى هذا العصفور؟

ونظر سعيد الى العش ورأى عصفورا صغيرا يرقد في العش فوق احد الاغصان وهو يرقد بلا حراك.

هذا العصفور كان قد جرح من مدة بسبب رصاصة صياد. هل تراه الان؟ لقد استعاد نشاطه .. صبر على المحنة التي المت به حتى انتصر عليها.

سمع سعيد هذا الكلام الجميل وراح الامل يتسل الى نفسه وتتشرب روحه الايمان كما تتشرب الارض المشققة الماء المنهمر عليها.

لقد انتصر العصفور على محنته. وهل هو اقل من العصفور؟ لا. انه هو ايضا سينتصر على محنته. ونهض سعيد من فراشه واتجه الى النافذة. والصق وجهه في الزجاج. وجد الدنيا ضاحكمة مرحة. الشمس تبسط اشعتها. الطيور تغرد. الناس يذهبون ويجيئون وفي وجوهم بسمة الامل. نفس المنظر الذي رآه من نافذته يوم اراد الانتحار. لكنه الان يراه وهو يشعر بالسعادة لاول مرة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s