شهيد السراديب

استشهاد بولليو

“كن امينا الى الموت فسأعطيك اكليل الحياة”(رؤ2: 10)

كان الحكم على بولليو سريعا ومؤكدا فقد كان سيقام في اليوم التالي استعراض في الكوليزيوم. وكان مزدحما كالعادة حتى اعلى المدرجات بجموع الرومانيين المتعطشة للدماء. وسارت الامور في نفس التتابع المقيت للاهوال بالطريقة المعهودة.

تصارع المصارعون وذبحوا احدهم الاخر اما فرادى او جماعات. وكان يعرض هناك كل انواع المصارعات المألوفة في الحلبة. وطبعا كانت اكثر المصارعات تفضيلا لدى المشاهدين هي المصارعات الدموية.

ومرة ثانية تكررت نفس مناظر الدماء والعذاب. وبطل هذا اليوم ها هو ينال تهليل الجماهير. ومرة ثانية يقاتل الانسان الانسان، او يدخل في مصارعة اقوى مع احد النمور . ومرة ثانية ينظر المصارعون المجروحون في يأس طلبا للرحمة، ولكنهم لا يرون الا اصابع المتفرجين المقلوبة الى اسفل ، اشارة الى الموت بلا رحمة.

وشهوة المتفرجين التي لا تشبع من الدماء تتطلب الان مناظر اكثر للذبح، فقد فقدت المصارعة جاذبيتها من رجال لهم نفس القوة وكان معروفا ان هناك جماعة من المسيحيين محفوظون الى نهاية العرض. والان اخذت الجماهير تطالب بظهور هؤلاء بدون صبر.

ووقف لوكيوللوس بين الحرس بقرب كرسي الامبراطور وكان يبدو عليه التفكير العميق وقد فارقه مرحه المعتاد.

وهناك، في المقاعد العالية في الخلف كان يجلس وجه شاحب جامد، وكان مميزا بين كل من هم حوله بسبب نظراته القلقة المركزة على الحلبة.

وبعد لحظات ارتفع صوت البوابات الضخمة الخشن واندفع نمر للى داخل الحلبة، وكان يهز رأسه ويحرك ذيله، وهو يتطلع الى هذا التجمع الضخم من الناس.

وسرعان ما ارتفعت همهمة بين الجمهور ، واذ بهم يدفعون الى داخل الحلبة بغلام ذي وجه شاحب وجسم نحيل ، كان منظره الرقيق كلا شئ بجانب حجم الوحش الهائج الضخم. وفي سخرية بالغة كانوا قد البسوه ملابس مثل احد المصارعين.

ولكن بالرغم من صغر سنه وضعفه، لم يكن على وجهه او سلوكه ما يفصح عن اي خوف، فان نظراته كانت هادئة ومجردة. ومشى بهدوء الى منتصف الحلبة.

وهناك على مرأى من الجميع ضم ذراعيه ورفع عينيه الى فوق واخذ يصلي، وبعد قليل تحرك النمر دائريا كما من قبل، لقد رأى الغلام ولكن لم يبد عليه اي تأثير. لقد استمر ماشيا رافعا عينيه نحو الحوائط العالية وكان يزأر زئيرا وحشيا عاليا.

وكان يبدو انه لا يوجد عند النمر رغبة لمهاجمة الصبي الذي استمر في صلاته.

اما الجماهير فقد اصبحت قلقة وليس لديها صبر، فاخذوا يصيحون ويصرخون محاولين ان يثيروا النمر ويستحثوه لمهاجمة الصبي.

ولكن الان في وسط هذه الحلبة، يأتي صوت عميق ومخيف:

“حتى متى ايها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الارض”.

ساد سكون عميق بعد هذه الكلمات، ونظر كل واحد بدهشة الى رفيقه، ولكن قطع السكون نفس الصوت الذي اخذ يرن بتأكيد مروع:

“انظروا! انه سيأتي على السحاب.. وستراه كل عين.. والذين طعنوه.. وتنوح عليه كل قبائل الارض.. نعم هكذا! امين

انك بار ايها الرب،.. الكائن والذي كان والذي سيكون، لانك حكمت هكذا. لانهم سفكوا دماء قديسين وانبياء وانت اعطيتهم دماء ليشربوا لانهم مستحقون. نعم هكذا ايها  الرب الاله القدير حق وعادلة هي احكامك!”

وتصاعدت الان الصيحات والصراخ في كل مكان وعرفوا مصدر هذه الجلبة:

– “انه مسيحي مجنون. انه سنا المهووس. لقد سجنوه 4 ايام بدون طعام”.

– “احضروه الى هنا”.

– “القوه الى النمر”.

وارتفع صراخهم وصياحهم الى السماء واختلط في هدير واحد عال. وقفز النمر في هياج.

ولما سمع البوابون صياح الجماهير وهديرهم اسرعوا لاجابة طلبهم.

وحالا رفعت البوابات ودفعوا بالضحية الى الداخل، وكانوا قد اجاعوه بطريقة رهيبة، وكان يبدو كشبح باهت. وتقدم الى الامام بخطوات مترنحة، ولكن عينيه كانتا تلمعان ببريق سماوي واندفع الدم الى وجهه، وصار شعره المهمل الطويل ولحيته كتلة واحدة. ورآه النمر وسار اليه، وزأر الوحش الهائج وهو على مقربة منه. فقام الصبي من على ركبتيه واخذ يتطلع المنظر.

ولكن سنا لم يرى النمر، لقد ثبت عينيه على الجمع وهزّ يده النحيلة الى فوق، وصرخ بنفس النبرة السابقة:

“الويل ! الويل ! الويل لساكني الارض”

وما هي الا لحظات حتى غرق صوته في دمه، لقد قفز النمر فوقه وسقط سنا وانتهى كل شئ.

واستدار النمر نحو الصبي وقد اثار الدم شهوته الوحشية جدا! ورأى الغلام ان نهايته قد اتت. فسقط ثانية على ركبتيه. وغرقت الجموع في صمت رهيب وهي تتطلع بقلق عميق جدا الى منظر الذبح.

وقف الرجل الذي كان يحملق في الحلبة وارتفعت اصوات خلفه اخذت تتزايد:

“اجلس! اجلس! انك تحجب عنا الرؤية”.

ولكن الرجل اما انه لم يسمع او انه لم يهتم.

فازدادت الجلبة جدا..

ولكن الان ارتفعت همهمة بين الجماهير لان النمر الذي كان يسير حول الصبي استعد ليقفز قفزته المميتة.

ووقف الصبي يغطي وجهه نور سماوي.

لم يعد يرى الحلبة ولا الحوائط العالية المحيطة بها ولا المقاعد المتراصة ولا الوجوه العديدة، لم يعد يرى العيون العديمة الشفقة للمتفرجين القساة ولا حجم الوحش العملاق، بل كان يبدو كأن روحه قد حلقت ودخلت الى الابواب الذهبية لاورشليم الجديدة. وكان يبدو كما لو ان مجد نور النهار الجديد في السماء، غير المنطوق به، يشع على محياه.

“اماه. اني ات اليك. ايها الرب يسوع اقبل روحي اليك”.

ورنت الكلمات بوضوح وحلاوة في اذان الجموع .. وساد الصمت.

وقفز النمر قفزته ، وفي اللحظة التالية، لم يكن يوجد شئ سوى كتلة تقاوم وقد اختفت خلف سحابة من التراب.

انتهت المقاومة ورجع النمر الى الخلف. واصبح الرمل محمرا بالدم. وعلى الرمال كانت توجد بقايا لبولليو الصادق القلب والنبيل.

وفي وسط الصمت الذي تبع ذلك، اذا بصراخ ازعج كل من في الحلبة:

“اين شوكتك يا موت. اين غلبتك يا هاوية”؟

+++

هذه كانت قصة لمؤلف مجهول الاسم وعنوانها “شهيد السراديب” وهي قصة عن روما القديمة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s