تعالت الضوضاء وتمددت لتنفث اشكالا اخرى من الضجة لا تكاد تخفت حتى تعلو من جديد. فهنا اشكال من خرير محركات السيارات وهناك انواع من الصفير وهناك الهتاف وهناك التصفيق في حماسة. وخلال ذلك كله كانت مكبرات الصوت تعلو بهذه العبارات:
يا سكان كراكول ان المخادع الذي خالف المبادئ والمثاليات يختبئ بينكم . اذا لم يسلم المذنب نفسه للشرطة، فسيعتقل وسيحاكم الاب كارول ويرحّل للعمل في سيبيريا.
برز من بين اكداس الحقائب حارس في ثوبه العسكري الاخضر المغطي بالغبار واعترض متهددا، وامسك بيده مقبض بندقيته وحاول ان يقبض بيمناه على عنق المتشرد:
قف مكان وتراجع باولو خطوة واحدة الى وراء ونظر الى الحارس مبتسما، وحاول الحارس ان يتخذ مظهر الصرامة وهو ذو الوجه الضاحك ونفخ خديه وفرك حاجبيه وقلب عينيه الناقمين فبدا اشد اضحاكا في جده وصرخ في لهجة قاسية:
انذرتك. الا تحاول دخول هذا المكان.
واجابه باولو رصينا غير مكترث بكلامه:
– حسنا، سوف اخرج.
وما ان فارق الحارس حتى تحلق اصدقائه حوله وصاحوا به:
– هل جننت؟.. هل جننت؟ .. اذا سلمت نفسك اليهم فستعترف باسمائنا جميعا. لا يمكننا ان نغامر. افهمت؟
– انتم محقون. ولكني اذا لم اعترف سيتهم ذلك العجوز المسكين. وهو برئ.
– ولكنه ليس سوى رجل مسن. لا زوجة له ولا اطفال. اما انت فشاب شجاع. نحن بحاجة اليك لتقاتل.
– ولكن لا تنسوا انه برئ. هذه معركة واذا عاني الاب كارول فالشخص الوحيد الذي سيلام هو انا.
– ولكن، هذا ليس عدلا ابدا.
– انه امر ضروري.
– ثقوا بك يا اصدقائي.
– حسنا، افعل ما اردت. ليكن الرب معك 47.
**
في اثناء ذلك كان شاب ساذج الملامح، انه العميل “47” ، تخطط وجهه شطوب حمراء وندوب كثيرة تدل على شجار قديم. يجلس في كرسي الاعتراف، فيما يجلس الاب كارول مقابله خلف حاجز..
حياه قائلا:
– باركني ايها الاب كارول!
اجاب الاب بنبرة وديعة:
– طاب يومك 47
– لقد جئت من اجل.. جئت.. ما اردت قوله هو..
– تابع
تمتم الشاب في صوت خافت:
– لا يزال المفتشون يبحثون عني. اسمعت يا ابتي؟
وصمت الاب لبرهة. ثم قال:
– ولم يبحثون عنك؟
– انا من كتبت على حائط الكاتدرائية بالطلاء.
– اذا يجب ان تعترف انك الفاعل وتسلم نفسك للسلطات.
وعلت ثغر الشاب ابتسامة ساخرة وهو يقول:
– لا ، اعتقد انه يجب ان اعترف انني الفاعل.. ثم اجفل وعاد يقول:
– لا ادري ماذا افعل. ربما يجب ان اعترف ، لكني سأعرّض حياتي الاخرين للخطر.
– في اعماق اعماقك انت تعرف ماذا يجب ان تفعل. حريتك تهمك كثيرا. اليس كذلك؟
– في هذه الحالة يمكنك ان تفعل ما يطلبه منك الاخرون ويمكنك ان تفعل ما يمليه عليك ضميرك. فاذا اخترت الحل الثاني فقط عندها ستشعر بالحرية.
بكي الشاب وصوته يتهدج:
– انا خائف ايها الاب كارول.
– اعرف ذلك يا بني. ولكن كما ترى. انت لا تريد ان تبوح لاسمك لاي شخص ولكن الله يعرفه. ذلك لانك ابنه. انت ابن الملك، وابناء الملوك لا يخشون شيئا.
– لا اعلم ايها الاب كارول. لا اعلم.
**
قوام الاب كارول النحيل ومرونته في مشيته، المشابهة لطيران عقاب فوق الصحراء، جعلته يستأسر الانظار. كانت الدقيقة الاولى اسوأ اللحظات. الاب كارول يخبرهم برغبته في اقامة قداس، رغم حظر السلطات في بولندا ذلك. يحدق فيهم ثم يهتف :
انني احتاج الى مساعدتكم . حسنا.. ما رأيكم ؟
اما الفتى باولو فقد كان مأخوذا بنوبة من الحماسة. فصاح:
انا اؤيدك في ذلك. لكن ذلك عمل خطير. انه بمثابة اعلان الثورة. ولست اعلم ما اذا كان مناسباذلك الان ام لا. لابد من وجود حشد كبير. يعاني الناس مشاكل كثيرة. ولا ادري اذا كانوا يؤيدون الخروج ام لا. سيكون الطقس باردا جدا. ولكن ما هو واضح ان الجميعهنا في كراكول خائفون ايها الاب، ولا احد يريد ان يقحم نفسه في ورطة.
صاحت جيرسي:
– سيظنون انه فخ.
ابتسم الاب وقال:
– ليس هذا ما يظنه ابناء كراكول. بل هذا ظنكم. انتم مستغرقون في مشاكلكم الخاصة، وفي خوفكم ، وتعتقدون انكم لا تستطيعون رؤية اي شئ حولكم، باستثناء ما بداخلكم. عندها تنسون من انتم ومهما حاولتم نسيان ذلك او لم تصدقوه، حتى اذا رفضتم التفكير فيه، انتم دائما وابدا ابناء الله.
ثم نهض وارتدى معطفه ومضى.
**
كان الاب كارول يجلس في مكتبه مع بعض الاصدقاء عقب انتهاء خدمة القداس.. جاء باولو يلهث :
– ايها الاب كارول. لقد اعتقلوه. لقد اعتقلوا 47.
ازاح الستارة عن النافذة واشار باصبعه وهو يهتف:
– انظروا. ها هم يأخذونه.
كان 47 يصرخ:
– انا برئ. الا تفهمون.؟؟؟.. انا برئ..
التفت الاب الى باولو:
– شكرا بابو والان اذهب وسوف استدعيك بعد ساعتين.
– ولكن ماذا اذا لم يحضر احد.
– عندها سنحتفل مع السيد المسيح بمفردنا.
قالت جيرسي:
– حاولنا ابلاغه لكنه عنيد.
– يجب ان نخرج ونحتفل معه.
– لا يمكننا الذهاب الان.
– وما الفائدة من خروجنا. اكان لوحده ام معنا فهذا لن يشكل اي فرق.
– بل سيشكل فرقا اليه.
– حتى اذا خرجنا فسيخسر امام كرامتش.
– ربما لا يحتاج الناس الى كنيسة فعلا.