عن كتاب : متحف القلوب الكسيرة – قصة طبيب يفقد ايمانه بالله في المستشفى ثم يجده هناك ايضا في متحف الالم
مؤلف هذا الكتاب طبيب ناجح، كان يحتل كرسي الادارة في احد المستشفيات الكبرى بمدينة لندن. وفي بداية حياته الطبية اصطدم بمشكلة الالم التي تقع تحت لمسه وسمعه وبصره بين جدران المستشفى الذي لقبه بمتحف القلوب الكسيرة. وامام تلك المشكلة الازلية، مشكلة الالم، فقد ايمانه في طبيعة الله الصالحة، وحتى في وجود الله. وكف عن الذهاب الى الكنيسة.
ولكن الاحداث عينها التي عصفت بايمانه الاول اعادت اليه ايمانه مرة اخرى.. ومن خلال غيوم الالم الحالكة السوداء استطاع ان يرى قوس قزح محبة الله مرتسما في الافق.
نرجو ان يجد القارئ الحبيب في هذه القصة اجابة على السؤال الذي كثيرا ما تردد: لماذا الالم في هذا الوجود؟
***
-1-
كنت اعمل طبيبا باحدى المستشفيات. في احد المرات كانت هناك اسرة كثيرة امامي. واسرعت الى سرير منها، كانت ترقد عليه طفلة صغيرة ذات شعر ذهبي وعينين ضاحكتين، وهي تضم الى صدرها دمية في شكل دب تكاد تصل الى حجمها. ولقد بدا لكل انسان انها خلقت للضحك والحياة. ولكن جاء المرض لكي يذبل هذه الزهرة المتفتحة.
واذ يتأمل الانسان هذه الحالة وغيرها. هل يمكن ان يؤمن بمحبة الله؟ لقد تحطمت كل العقائد الجميلة التي تعلمتها في طفولتي على صخور الشك وعدم الايمان. وتوقفت عن قراءة الكتاب المقدس وحضور الكنيسة. وقلت في نفسي: الكل باطل وقبض الريح.. من يدريني ان كانت نفس الانسان تصعد الى اعلى ونفس البهيمة تهبط الى اسفل؟..
في رحاب الكون جئنا
كيف هذا؟
لست ادري..
في طريق الارض نسعى
نحو ماذا؟
لست ادري..
مثل موج البحر نحيا
من قدم
او لهدى الريح نجري
للعدم
باطل كل الحياة
للممات .. للممات
وفي يوم من الايام وجدت في كشك الجرائد بالمحطة كتابا قديما عنوانه “سر الالم”. اشتريت هذا الكتاب لاتسلى بقراءته اثناء السفر. ومع انه كان سبب بركة عظمى وتعزية لكثيرين الا انني لم اجد فيه ما يشفي غليلي. لقد تحدث كاتبه عن الالم من وجهة نظر العلم ورجال الدين. قال عنه انه ناقوس الخطر الذي يدفع الناس للجوء الى الطبيب، ويوجه الطبيب الى العضو المصاب، فيعالجه او يبذل قصارى جهده في سبيل هذا. ولو فقد الانسان احساسه بالالم، كما يحدث في بعض الامراض القاسية التي تقتل خلايا الجهاز العصبي، لكانت في هذا الطمة الكبرى. ثم استطرد الكتاب يقول ان الالم هو المهذب لطباع الانسان، وهو الذي يدفعه لتجنب ما من شأنه ان يسبب له المتاعب. فهذا الطريق الشائك يبتعد عنه لانه يمزق رجليه بالاشواك. وهو يعرف انه اذا كسر ناموس الحياة عليه ان يدفع الثمن.
وجاء دور رجل الدين ليتحدث لنا عن رأيه في الالم. قال ان الالم يرسله الله الينا ليعلمنا الصبر والاحتمال، وانه يهذب شخصيتنا ويصقلها ويساعدنا على مشاركة الاخرين في احساسهم بالالم.
ولو اتيح لي ان التقي بالمؤلف، لجعلته يرى بعينيه حالات كان الالم فيها وبالا على صاحبه دفعه الى الثورة والتجديف وقسوة القلب واطلاق اللعنات. اما الفول بان الالم لا يصيب الا من يكسر ناموس الطبيعة، ففي امكاني ان ارد عليه بحالات اناس كانت لهم الحياة المعتدلة الكريمة الطيبة، ولكن المصائب حلت بهم. قالت لي سيدة ذات يوم عن قريب لها: “لقد كانت حياته طبيعية وطيبة ومعتدلة. لماذا حلت به كل هذه. لست ادري؟”. ثم ماذا عن الام الاطفال؟ ما الذي فعلوه لكي يستحقوا كل هذا؟ اية فائدة تعود عليهم من الالم وهم لا يدركون شيئا؟
وحينما ذهبت بعد ذلك الى مرضاي، كان قلبي يردد كلمة واحدة، اين هو الله؟ ومنذ ذلك الحين اصبح المستشفى لي متحف القلوب الكسيرة.
-2-
بين السماء والارض
حينما تطبق عليك الخطوب،
فتصرخ باكيا على خسائر الامس،
تطلع لترى سلم يعقوب منصوبا
بين السماء والارض”
(طومسون)
لم اكن قد التحقت بعد بالعمل في مستشفى كبير بلندن. ولكن الظروف هيأت لي مركزا ممتازا هناك. وكان شاكسبير يقول “انه مهما كونا مصائرنا المشوهة بايدينا العاجزة، فان هناك قصدا الهيا يستتر وراء كل هذا”. وفي مثل السامري الصالح يتحدث السيد المسيح قائلا “وعرض ان كاهنا مر بالمكان” ويعلق احد المفسرين على كلمة “عرض”بان الله الازلي قد دبر هذه المصادفة، تماما كما كان السيد متعبا حينما مر بالسامرة وجلس على البئر حسبما اتفق. ولكن تلك المصادفة ايضا كانت مدبرة بمشيئة الله لخلاص نفس خاطئة وبلدة باكملها..
اقول عن نفسي بانه “تصادف” انني كنت مارا في احد عنابر المرضى من الرجال. الصدفة عينها التي دفعت السامري للمرور حيث سقط الجريح. ولكن الاخير كان ليمد يد المعونة للمريض. اما انا فقد نلت العون من يد مريض منكسر القلب.
اقول بان تلك كانت الصدفة التي دبرها الله في عنايته بي. فبينما كنت مارا بالعنبر سمعت من بعيد مريضين في اخر صف من صفوف الاسرة يتناقشان قال الواحد لزميله.. من اليسير جدا ان يجد الانسان ايمانه بالمسيح هنا في المستشفى.
ووقفت مسمرا في مكاني. هل يؤمن المرء بالمسيح في المستشفى؟ ان هذا هو اخر مكان يعثر فيه على ايمانه. بل اكاد اقول انه المكان الاول الذي يفقد فيه المرء ايمانه. ولما اقتربت منهما قررت ان اسأل المتكلم.
– هل قلت ان هذا الكان هو الذي يجد فيه المرء الايمان؟
فنظر الي نظر ملؤها الثقة. وقال مشيرا الى احد الممرضات وهي تقدم الدواء الى المريض الاخر في السرير المقابل..
– نعم، هذا هو العمل عينه الذي كان يسوع يقوم به وهو على الارض. لقد كان يجول بين الناس يصنع خيرا.
ثم صمت قليلا وعاد يقول:
لو لم يات المسيح الى العالم، لما كانت هناك مستشفيات..
فقلت في نفسي انها الثقة الكاذبة التي تدفع بالانسان الى الاستنتاج الخاطئ. فلو كان المسيح حقا هو الذي قامت على تعاليمه هذه المؤسسات، لكانت هذه قبل كل شئ مؤسساته هو، ولكان من المنطقي ان نجده هنا قبل اي مان اخر. ومع ذلك فالعكس صحيح، لانني فقدت ايماني في هذا المكان.
وخطرت ببالي كلمات الشاعر “كوبر” : “ان الله هو اعظم شاهد لنفسه. وسوف يوضح كل شئ بايات لا تقبل النقض”.
وفي المساء امسكت بكتاب للكاتب “فرانك يورهام”. وقرأت فيه هذا القول تعليقا منه على ما ورد في كتاب اخر. قال “يتحدث الدتور والاس قائلا انه كلما سار مع مجرى النهر اكتشف سلالات من البشرية اقوى عودا واجمل جسما. حتى اذا وصل الى مكان لم تطأه قدم رجل متمدن، رأى رجالا ونساءا يصح ان نتخذ منهم مثالا ينقل عنه الفنانون لوحاتهم..” ثم يضيف الكاتب معلقا:
“السبب واضح كل الوضوح، فالانسان البدائي الذي لم تصله بعد اسباب الحضارة، لا يعرف شيئا عن ناموس المسيح، فهو لا يحمل احال الاخرين. المريض لابد ان يموت. الضعيف يترك في الغابات طعاما للوحوش. الفارق الوحيد بين الروح البربرية والانسان المتحضر هو اننا قد تعلمنا ان نحمل اثقال الاخرين. وهكذا نتمم ناوس المسيح..
واشرق علي النور ضعيفا خافتا خلال هذه الكلمات. وبدأ ايماني القديم ينتعش مجددا. ان المستشفى هو المكان الاول الذي نحمل فيه احمال اخوتنا من البشر. وفي حملنا لاحمالهم ومتاعبهم نظهر روح المسيح.
هذه اول شعاعة من النور رايت فيها يسوع في المستشفى. انها الخطوة الاولى في طريق طويل..
في احد الايام كنت اتفقد عنابر الاطفال بالمستشفى، وشاهدت سيدة تجلس الى جوار سرير الطفلة. كانت لا تتجاوز الثلاثين ربيعا. وفي عينيها كان يبدو الحزن والانكسار. قالت لي في اقتضاب ان ابنتها مريضة بالسرطان وانها بالنسبة لها كل شئ في الحياة. وتذكرت كلمتها هذه حينما سمعت بعد ذلك بقصتها. فقد ولدت ابنتها هذه في الشهر السابع بعد زواجها. وحاول الاطباء ان يقنعوا الوالد العنيد ان هذا امر طبيعي قد يحدث في احيان كثيرة. ولكنه رفض كل هذه الاراء رفضا تاما واصر على ان الطفلة ليست ابنته. وتحول البيت الى الجحيم. ولو ان الزوج لم يرض بالانفصال عن عروسه، وقبل ان يحتفظ برباط الزوجية شكليا امام الناس تجنبا للفضيحة، ولكنه وضع شروطا قاسية لتنشئة هذه الطفلة. فلا ينبغي باي حال من الاحوال ان تظهر امامه. وحينما يصل في المساء الى المنزل يجب ان تكون في سريرها في غرفتها. وفي ايام العطلة الاسبوعية تبعث بها الى جدتها الى ذويها.
ومشت السنوات سراعا والاب لم يتحدث الى ابنته طوال هذه المدة ببضع كلمات. بل ولم يخاطبها الا بما تقتضيه الضرورة. ولكن تلك الظروف اثرت سيئا على صحة الطفلة. لقد بدا ان تلك الارض الصخرية لا تصلح لنمو هذه الوردة اليانعة. فسرعان ما لزمت الفراش وجاء تقرير الطبيب قاسيا مروعا.. السرطان. وجن جنون الزوجة واسرعت تحمل الطفلة الى المستشفى، واكد الفحص هذا التقرير المبدئي، وزاد عليه انه لا امل في الشفاء.
لقد اتت الينا تلك الفتاة مريضة كسيرة القلب. ولكن محياها الضاحك وروحها الوديعة جعلا كل واحد بالمستشفى من المرضى الى الممرضات خادما لها ماسورا بها. لقد كان لها هذا القلب الذهبي.
وبعد عدة ايام رايت رجلا يجلس الى سرير الطفلة المريضة. كان التشابه الكبير بين ملامحها وملامحه يشير باكثر جلاء الى انه والدها. اما الام فككانت جالسة في مكانها منحنية الراس مغمضة العينين، وقد بدا كانها لم تلاحظ وجود الرجل. فلما رفعت عينيها اخيرا وراته سرت في جسدها الرعدة، وهبت واقفة من مكانها. ثم اسرعت بالابتعاد عن المكان. اما الطفلة فقد كفت عن مداعبة دميتها حينما لمحت والدها، وانكمشت في سريرها في خوف وسكون. ولكن الوالد مد يده في حنان ظاهر. وراح يربت على ذراعي طفلته ويخطبها بكلمات المحبة. وعلمت من الممرضت بعد ذلك انه بدا يقوم بزيارة طفلته المريضة كل يوم.
ولقد لمحت بنفسي هذا المنظر يتكرر بعد اسبوعين تماما من ذلك التاريخ، ولكن بصورة اخرى. فبعد ان شاهدت الزوجة زوجها يقترب واسرعت بمغادرة المكان حسب العادة حتى ينتهي من رؤية ابنته، ووقفت في الممرات الخارجية نادتها طفلتها قائلة..
“تعالي يا ماما. انه بابا”. لقد بدا ان ضباب السنين قد انقشع للابد.. ولم تصدق الام اذنيها فوقفت مترددة في باب العنبر.. ورات الطفلة امها من بعيد. ونظرت الى الاب نظرة فيها ضراعة وتوسل. وهمست لابيها.. بابي .. انظر ، ها هي امي. ارجوك قل لها ان تاتي بسرعة. اني اريدها.
واحنى الرجل راسه في تاثر، وقام من مكانه الى حيث تقف الام. وامسك بيدها عائدا الى سرير الطفلة. ومن يستطيع ان يوحد قلبين متنافرين الا قلب الطفلة البرئ.. من يستطيع ان ينسي اساءات الماضي ويغفر الا القلب النقي؟ لقد كانت هذه الطفلة على اعتاب الابدية تسكب نفسها رويدا رويدا، ولكن على جسدها الممزق توحد قلبان، وعاد الصفاء الى نفسين، وعرف الحب طريقه الى بيت منقسم متنافر، وغردت طيور السعادة في منزل سادته وحشة الشتاء.
والاكثر من هذا ان هذه الطفلة اعادت لي ايماني بالله..
لقد اشرقت علينا هذه الطفلة كشمس الصباح المتالقة، فتفتحت في قلوبنا زهرات السعادة والايمان والطهارة. اما هي فان تربة الارض المليئة بالاشواك ما كانت صالحة لها فاختارها البستاني الاعظم ونقلها الى جنات الفردوس.
***
ولحقت بهذه الحادثة حادثة اخرى. فقد ادخلت الى المستشفى فتاة في السابعة عشرة كانت مريضة ايضا بهذا الداء القاسي: السرطان. بل ان اسمها كان مشابها لاسم الطفلة السابقة “دوريس”. كانت نوبات الالم القاسي تعتصر كيانها في فترات متقاربة، وكان هذا يبدو من تقلص عضلات وجهها وجسدها. ولكنني لم اسمع منها طيلة الشهور الاربعة التي قضتها فيما بيننا ادنى تذمر او شكوى. كانت دائما تقابلني بابتسامة حلوة حينما كنت امر بجوار فراشها. وفي ليلة من ليالي الاحاد، كنت اراقبها من بعيد وهي تستمع الى عبادة مسيحية مذاعة على امواج الاثير. وبعد الوعظ بدا الترنيم وشاهدتها تشترك مع الجوقة في الترنيمة الختامية. وحينما وصلت الى الاعداد التي تقول:
لا حزن .. لا بكاء
لا ضيق .. لا دموع
ولست اخشى شرا
ان سرت مع يسوع.
القبر قد زال عنه
ظلامه الرهيب
والموت لست اخشى
في محضر الحبيب
تالق وجهها بنور سماوي عجيب، وبدت كانها تحلق في اجواء السماء وليست من هذه الارض. لقد اصغيت الى هذه الترنيمة عيها في اكثر من مرة. ولكن اقول لكم بانني لم اشعر في اية فرصة من تلك الفرص بالورع والخشوع والجلال قدرت ما شعرت بها في هذه الفرصة وانا اصغي الى الفتاة بصوتها الملائكي، واشاهد يديها قد تشابكتا في تعبد، وخلجات وجهها الجميل المعبر.
واقتربت منها بعد نهاية الترنيم وسالتها متوددا:
اين تعلمت الترنيم؟
فابتسمت وقالت بوداعة:
في الكنيسة .. لقد كنت احدى فتيات الجوقة.
وفجاة تذكرت ما حدث معي في كنيستنا الصغية في يوركشير حينما كان العابدون يترنمون بالمزمور رقم 23 ، وكيف اني قلت في نفسي، هل تراهم يترنمون برعاية ربنا لهم لو كانوا على فراش المرض؟
هنا لقيت الجواب.
ان الديانة الحقيقية هي التي تكفي صاحبها وسط الازمات وتثبت اقدامه في وجه المتاعب. وها امامي المثل الحي. فتاة في اقسى ساعات الضيق.. وعلى اعتاب نهاية العمر، تتعلق بسلام بتلك المرساة الامينة الثابتة، وتجد سلامها في مسيحها الصادق العون.
وكان والداها يقومان بزيارتها كل يوم. لقد كانت ابنتهما الوحيدة. وعليها كانا يعلقان امالهما في الحياة. وها هو الامل الوحيد يذوي ويتضاءل وهو في عمر الزهور. وفي اللحظات الاخيرة من حياة دوريس على الارض لم تفارق الابتسامة الحلوة شفتيها حتى اغمضت عينيها في سلام. كانت الدموع حولها: دموع الاب الحزين والام الثكلي. وبعد فترة قال الاب .. كفى .. كفى! يا عزيزتي. ينبغي ان نظهر ثقتنا في وجود الله ومحبته، اله ابنتنا دوريس. قالت لي الام فيما بعد. لقد اظلمت الدنيا في عيني انذاك. وظننت ان كل شئ قد انتهى، ولكن يبدو ان قوة جبيارة سندتني. وتذكرت القول “يعطي المعي قوة ولعديم القوة يكثر شدة”.
اعود فاقول انه لا شئ يلمس قلبي بلمسة الاسى قدر الام الطفولة. واني اشارك ذاك الذي قال “ان كنا من الجهل ان نقرع صدورنا امام جثمان شيخ شبع من ايامه والامه واتى الموت مخلصا رقيقا يحطم قيوده ويرفعه كما يرفع الغمر في اوان الحصاد، فانه من المؤسف حقا ان نرى البراعم الغضة تعتصرها انامل الموت قبل ان تتفتح عن ازهارها النضرة”
ولكن هل انتهت المعركة مع عدم الايمان؟ كلا لان شيطان الشك في قلبي ارسل يستدعي شياطين المنطق والجدال والفلسفة، ثم قال معترضا “لقد نظرت الى المشكلة من جانب واحد، جانب الانسان. ولقد استندت الى حالتين اثنتين تقاسيان المرض الواحد، ورايتهما تقابلان الموت بشجاعة وبطولة. هذا من جانبهما. ولكن ماذا تقول عن الجانب الاخر. الجانب الذي اصدر حمه بالاعدام على هاتين الحالتين؟ تصور ملكا ارضيا يمسك بطفلة في الخامسة من شعر راسها. وفي هدوء يخترط سيفه من غمده ويفصل الراس البرئ عن الجسد. ماذا تقول عنه؟ هل يمكن ان يكون الها محبا صالحا؟ بل هل تعتقد ان هناك الها على الاطلاق؟
وفكرت كثيرا. ولكنني اجبت في النهاية. ان تفكيري سطحي. فما هو الموت؟ اليس هو الحجاب الرقيق الذي يفصل بين حياتين؟ ولماذا نعلق كثيرا من الاهمية على هذه الحياة!؟ اليس لاننا ننظر اليها بعين الجسد؟ ان كان لنا فقط رجاء في هذه الحياة.. فاننا اشقى جميع الناس”.
اعود الى الوحي لاجد “في الموضع حيث صلبوا (ربنا) كان بستان” لاحظ التقاء النقيضين: الصليب والدماء والموت، مع البستان والثمار والورود”. ان هذا رمزا عجيبا لما سيلده الموت والصليب من ورود الحياة وهو رمز لما يقدمه الدم الكريم من ثمار المصالحة بين الانسان والله.
بل انك ستلمس هذه الثمار دانية القطوف في اللحظات الاخيرة التي قضاها ربنا على صليب العار. اللص التائب يصبح اول من تطا قدماه ارض الفردوس البلورية مع المخلص الحبيب. والام الثكلى المحطمة القلب يدبر لها من يكفلها بقية العمر. حقا لقد كان في الموضع الذي صلبوه بستان.
والان هنا ارى امامي في عنابر المستشفى جلجثة جديدة. ولكنني لا اراها مقفرة دامية كئيبة، كما في الماضي. ولكن ارى بستانا واراعي بين السوسن يراقب زهوره النابضة بالحياة يرويها ويرعاها ويتفقدها.
وحينما يرى ان زهرة منها تستحق ان تنتقل الى ارض الامجاد يقتلعها من جذورها ويحتضنها الى قلبه ويصعد بها ليزرعها في جنات الخلد.