توكاس.. توراس.. توماس

-1-

انا توراس..

قوي كما ترى. عيناي كلما نظرتهما في مرآة اخاف على المرآة من ان تنفجر وتتطاير شظا، ورأسي لقلة العمل ملئ بالقاذورات، وبطني قد ترهلت وانتفخت لا لاني اعبئها باكثر مما تتسع ولكن لانني اكل كلما وجدت الاكل متاحا لا لاني جائع.

ثم انني عاطل متبطل. تعودت البطالة، اذ يستحيل عليّ ان اجد عملا لسوء سمعتي لدى اصحاب العمل. ولانني اعود لجحري بعد ان يسحب الظلام غطاءه على المنطقة بوقت طويل فانني استيقظ من نومي وقد صارت الشمس في كبد السماء.

هه.. انت. استيقظ. الم تشبع من نومك؟

تنهضني زوجتي من نومي هكذا كل صباح، اقصد كل ظهر، احيانا ترفس جنبي بقدمها الثقيلة..

دعيني يا امرأة..

قم تحرك. اذهب واوجد عملا لك ايها الكسول.

وفيم العمل الا اتيك بطعام كل يوم؟ ادعو ان تتقيئه يا قرين السوء..

طعام؟ طعام مسروق..

اخرسي يا غبية.

وقبل ان تطولها يدي لايذائها تكون قد غادرت المكان ولسانها يخلف من ورائها ذيلا طويلا من الشتائم.

تقول الحق!

فالطعام الذي اتيها به كل يوم.. مسروق! في السوق يبيعون ويشترون، يستبدلون الحاجيات بالفضة. ولاني لا املك الفضة ومعدتي خاوية، حتى وان كانت ممتلئة، فقد تعودت يدي السرقة!

اعرف سوق الجليل، هكذا يسمونه في مدينتي لاتساعه، ركنا ركنا. ولانني بلا عمل فكل وقتي اضيعه هناك متجولا بين صفوف الباعة الطويلة. اخرج من سوق الطيور لادخل سوق الدواب، ومن سوق الدواب اعرج على سوق الحبوب، ومن الحبوب الى سوق التوابل. ثم من التوابل الى سوق الفاكهة والخضر.. حيث تطول اقامتي لوقت طويل، فهنا، استطيع ان اختلس لاكل، هنا سلال الفاكهة الطازجة والجافة تدعوك لان تنتهز فرصة ينشغل فيها البائع مع زبائنه لتختلس حفنة من هذا او ذا تخفيها في جيب قميصك الواسع، هكذا افعل انا ولا ادعوك لان تفعله.

لم اضبط ابدا الا في مرة واحدة، راودتني فيها نفسي الغبية على ان اخطف دجاجة اعطيها لزوجتي تذبحها وتنزع عنها ريشها ونأكلها مسلوقة، لكن صياح الدجاجة وهي في يدي نبّه الناس في السوق لما فعلته، وامسكني نحو عشرين فردا ليضربوني ضربا موجعا..

ركن واحد من اركان السوق قطعت رجليّ عنه من زمن طويل. انه هذا الركن الذي يركن اليه كل باحث عن عمل ويدعى ركن العاطلين، وللفكه نطلق عليه ركن البطالين، يجلسون عنده منذ الصباح يستعطون عملا، وكأن العمل احسان او كأننا في سوق العبيد. ويمر بين الحين والاخر كل باحث عن فعلة لينتقي من يريده، وبعد ان يتفقا على الاجر يتبع الاجير المستأجر الى حيث مكان العمل..

لقد كنت منذ زمن مضى من رواد هذا الركن. والذي لم يكن يعرفني من اصحاب العمل كان يخدع في هيئتي وقوة بدني فيفضلني عن غيري: افتح يدك.. افتحها له، كبيرة خشنة مشققة: ارفع هذا الحجر ارفعه.. وبعد ان نتفق على الاجر واتبعه الى مكان العمل يكتشف ليس بعد وقت طويل انني رجل غشاش، لص وقت، تبرعت بتضييع ساعات النهار دون انتاج كثير..

ثم وقد ساءت سمعتي تحولت عن خدمة ركن العاطلين لاكون في خدمة السوق له!

-2-

انا توكاس

بيني وبين ركن العاطلين عهد صداقة.

هنا يتجمع طالبو العمل يجلسون على هذا السور ، او يفترشون الارض يتسامرون حتى يمر عليهم رب عمل ليختار من بينهم احتياجه..

ابينكم بناؤون؟ .. انا وانا.

ثم قد يمر اخر..

ابينكم حمالون؟ .. انا .. انا يا سيدي.

ثم قد يمر ثالث..

ابينكم حاصادون .. انا يا سيدي.

تعجب لو عرفت انني اول من يقصد ركن البطالين هذا في صباح كل يوم. بعضنا يأتي في الثالثة، وبعضنا لضعف امله في الحصول على عمل يصل في السادسة، بل والبعض في التاسعة – من يدري فلعل احد الارباب في حاجة لمن يملآ اجرانه بالماء قبل ان يحل الظلام..

لكنني دائما اصل مبكرا، لعل فرصتي في الحصول على عمل تكون افضل. وتعودت ان اتلقي تحية الصباح من القادمين من بعدي.. صباح الخير يا توكاس .. صباح الخير .. الم يفتح الله عليك بعد.. ليس بعد.. لا تقلق لطف الله عظيم. ويأتي اخر، توكاس ، صباح الخير، دائما انت هنا قبل الكل فنحن في زمن الحصاد، والفعلة قليلون، سيأتي من يستأجرك يا توكاس فلا تقلق، الكل يعرف اخلاصك..

انا مزارع بطبعي. كنت صاحب ارض فيما مضى. قطعة ارض صغيرة نعم، ولكنها كانت تقيتني. ثم استولى عليها الوحوش جباة الضرائب بعد جباية ظالمة..

ثم ان الخوف جزء مني. لعله بسبب الجور الذي عشته، لا اشعر بالامان حتى وان زودتني بطعام الغد وبعد الغد.

وانا رجل متدين، انتظم التردد على المجمع واعشر كل اموالي.

احيانا عندما تطول جلستنا بركن العاطلين ولم نحظ بعمل، يتحول نحوي الرفاق رغبة في الضحك ويسألونني: لماذا لا تدعو الهك (هكذا يقولون وعيونهم ممتلئة غشا) نحن نعرف غضبه علينا فماذا عنك؟ توكاس.. الا ترد؟ وابتسم انا بلطف خشية ان يتطاولوا عليّ باكثر من ذلك.

وانا لست متزوجا. لم اتزوج عن خوف لا عن زهد، شعوري بعدم الامان من جهة لقمة العيش جعلني اتردد. لا اطيق ان تدعوني زوجتي بطالا في اليوم الكاسد او ان تطمع فيّ في اليوم الرخي..

-3-

انا توماس

تحبني زوجتي اكثر من ان تتخيل. رضيت بي لانها رات فيّ حلما لها يتحقق، رجل الاعمال الناجح والثري. يا لعينيك – هكذا تقول – كلها ذكاء

تقول زوجتي دائما انني محق اكثر من اللازم، عادل لدرجة القسوة، واذ اجادلها فبيما تدعيه عليّ تقتنع.

املك ارضا واسعةن تدل عليّ ثمارها عائدا كبيرا، كرومي افضل كروم في الجليل. يعمل في حقلي خمسون فاعلا احيانا – في زمن الحصاد – مائة..

انا غني نعم، لكنني لست مع غنى الجسد، انا دائا مع غنى النفس.

عمالي يحبونني اذ اسمح لهم فوق اجرتهم تذوق ما يزرعون او يحصدون، خبزهم وخمرهم من نتاج ارضي. لي عمال ثابتون لكنني في زمن الحصاد استجلب عمالا من ركن العاطلين لفترة. اعطيهم اجرهم الذي يطلبونه، ولكنهم ليسوا كعمالي الدائمون، هم معي اليوم مع غيري غدا..

يلذ لي ان ابكر في الصباح. وحالما اغتسل واغيّر ثيابي تكون زوجتي قد اعدت افطاري. ثم انزل لاتجول في حقولي والشمس لا زالت في لطفها. كرومي معلقة على السياجات تنتظر قطافها. رؤيتي لها تجعلني امجد الخالق واشكره فخيره وفير..

-4-

انا توكاس

الساعة الان الثالثة صباحا. فرج الله قريب. لم يأتي ليستأجرني احد بعد. مر اثنان من قبل، اولهما يطلب من يطحن غلاله والاخر يطلب من يستخرج له زيته، لي لي في الامرين فكلاهما عمل مرهق. هذا اوان الكروم. من يدري؟ فلعل احد الكرامين يأتينا ليطلب فعلة لحصاد كرمه. هذا العمل يروق لي كثيرا، اعمل لساعات فيه بلا تعب كثير. دينار واحد عن اليوم كله يكفي وان اشتغلت حتى الحادية عشرة.

رفاقي من حولي الان يجلسون يتشمسون في انتظار ما انتظره في ركن العاطلين. بعضهم قد لاذ بالصمت، والبعض الاخر يملأ فراغه كلاما، احيانا عن اصحاب العمل وخبراتهم معهم، واحيانا عن ضيق ذات اليد، واحيانا يعرجون بالحديث ليدور حول الكهنة ورؤساء الكهنة، عند ذلك اتأفف. يضايقني ان يأتي احد بسيرة كاهن. احيانا يسألونني رأيي في احدهم: .. هه توكاس.. انت.. ما رأيك في عالي الكاهن. ثم يضحكون عندما امط لهم شفتيّ رافضا للسؤال. مالي انا والكهنة واعمالهم، عملي انا هو ان ارضي الله، ثم انني اخشاهم. ارضاؤهم متعب .. صاح احدهم فجأة.

توكاس.. انظر. صاحبك قادم. السيد توماس. افرح يا عم سيستأجرك فهو زمن الحصاد. اتراهنني؟

فعلا هو توماس، يمشي نحونا في عباءته النظيفة وعمامته التي في لون السحاب.

قمنا له جميعا وقوفا فنحن نحترمه ونجلّه فهو رجل نزيه، كلنا يود لو نعمل عنده.

ابتسم توماس والقى بتحية الصباح ثم قال:

اريد اربعة رجال، فكرومي تطلب من يقطفها.

عشرة رجال رفعوا اياديهم، كنت انا من بينهم. انا اول من وجّه اليه ناظريه، وناداني بلا تردد: تعال انت يا توكاس. لقد جربتك قبلا وكنت كفؤا. ثم اخذ يفكر في الثلاثة الباقين، واستقر رأيه على ثلاثة بعد لحظات، وتبعناه حتى بيته، وقبل ان نبدأ العمل امر لنا بطعام. لا يفعل ذلك بقية الكرامين. توماس كريم.

ثم نزلنا الحقول. كانت نحو الرابعة من النهار.

-5-

انا توراس

الساعة الان التاسعة. تعبت من التجول في طرقات السوق دون صيد، ويعضني الجوع. كلما اقتربت من احد الباعة بحجة التفرج نظر اليّ نظرة ارتياب مما يجعلني افزع الى مكان اخر. منذ امس لم يدخل معدتي شئ سوى ثلاث بلحات اختلستها منذ وقت قليل من بين اعواد قفص مهمل. لا اود العودة الى بيتي ويدي خالية فلن اسلم من لسان زوجتي..

يا لبؤسي. اسعى في الطرقات ككلب اجرب. نظراتي زائغة وقدماي لكثرة السعي ثقلتا، وانحلت ركبتاي لضخامتي..

-6-

العاشرة من النهار.

الباعة يقلون. الشمس تتحول عن مكانها في السماء. باعة الدواجن والحمام اول من رحلوا. باعة الحبوب اغلقوا منذ ساعتين، لم يبق في الساحة سوى بائعي الزيت والخضروات..

توراس..اسمع من يناديني:
توراس. تب عن ضياعك. فقد غدوت ككلب بلا صاحب! ثم يضحك.
هه. انه ميخا. ما زال يجلس في ركن العاطلين يبغي عملا..
صحت به:
ماذا تفعل يا ميخا. هه. نحن في آخر النهار. اتظن احدا يأتي في وقت كهذا ويستأجرك؟
من يدري. ربما. الله كريم. ليس لي اكثر من دقائق ههنا.
انت هنا وحدك؟
كلهم اما استؤجروا او رجعوا بيوتهم يأسا بعد ركنة النهار كله. ماذا عنك؟
جلست الى جواره وشكوت له حالي. انصت لي بتعقل ثم قال:
احمق. ماذا تفعل بنفسك؟ الثمن الذي تدفعه في لقمة عيشك اغلى من الثمن الذي ادفعه انا. انا آكل من عرقي. انت تأكل من اضطرابك وقلق اعصابك وفقدان سلامك.
لا احد يريد ان يستأجرني.
انت السبب. لو كنت امينا لاستأجروك كالباقين.
اتظن حقا ان هذا.. ممكن؟
طبعا عد عن غيك واقلع عن الشر، وانتظر رضى الله عنك.
لن يستأجرني احد..
سيستأجرونك. ربما كان الامر صعبا في البداية. لكنهم سيطمئنون اليك فيما بعد..
يا ليت الامر هكذا يا ميخا. لقد مللت حياة البطل.
اصبر. اغسل نفسك، وضع اتكالك على الله – الان. الرب قريب.
عزاني ميخا. كلماته كالبلسم.
السوق ينفضّ. الساحة امامنا الان شبه فارغة. والارض ممتلئة بمخلفات السوق، اكوام فاكهة فاسدة، اقفاص مهمشة فارغة، مصارين دواجن..
بعض اولاد الفقراء ينبشون هنا وهناك بحثا عن قوت..هه. توراس؟ الم اقل لك ان فرج الله قريب.. انظر عن يمينك.. صحت بصوت هامس لدهشتي:
ماذا؟ انه السيد توماس.
هو بعينه. وهو قادم نحونا.
في هذه الساعة! انها..
في هذه الساعة. قد قلت لك. ضمنت عشائي انا وبيتي.
قمنا لتونا وقوفا. وابتسم السيد توماس لميخا وتجاهلني. لا استطيع مواجهة عينيه مباشرة، فمحيّاه الهيبة بعينها..
اريد رجلا للحصاد. نعم لم تبق غير ساعة او اكثر قليلا، لكنني اريد ان اسوّق كرمي غدا صباحا.
تدخل ميخا وتوسط لي عنده، قال له بصوت منخفض كله اتضاع ورجاء.
يا سيد توماس. لعلك تريد رجلين؟
تلفت نحوي توماس ولم يقل شيئا. وبدا عليه الحرج.
اخذه ميخا جانبا واستمر في رجائه بصوت خفيض. بعد قليل تحولا نحوي وعلى وجه توماس ابتسامة مضيئة:
حسنا يا توراس. سأجربك هذه المرة. سأعطيك دينارا كاملا عن الساعة الباقية. اسعيد؟
يا له من رجل! يعطيني دينارا كاملا ولم يتبق الكثير من ضوء النهار. تبعناه وكلانا ممتن عارف بالجميل. لا يمكن ان يكون هذا الرجل سوى ملاك مرسل من الله. يمشي كالملوك.

-7-

انا توكاس

الساعة الان السادسة

منذ الصباح الباكر وانا اجمع لتوماس اعنابه. نهار كامل من العمل لم يتخلله سوى فترة واحدة من الراحة، ظهري سينقصم مع اخر اليوم لكثرة الانحناء والقيام، ها قد تسلخت ركبتاي من تسلق السياج.

اوصانا توماس في الصباح ان لا نمس غبير العناقيد الناضجة اما الصغيرة والتي لا زالت خضراء نتركها لوقت اخر.

يحاول رفيقي شاطح الذي يعمل ان يغريني على النكاية بتوماس بأن نملأ عبواته عنبا غير ناضج، فهو لا يحب توماس والحسد دائما يملأ قلبه. ومن حين لاخر لا يفتأ يسألني:

اليس توماس انسانا مثلي ومثلك؟ لماذا اعطاه الله ولم يعطينا؟

ثم يقول:

انا اعرف من هو، اليس هو توماس ابن باشان بائع الزيت والذي كان يدور بزيته في طرقات البلدة؟

ويقول:

علام العمل له بهذا الاخلاص؟ اتفق معنا على دينار، لكن انظر سيبيع اعنابه غدا للتجار بالالاف.

وينتظر شاطح لدقائق قبل ان يردف وهو لا ينظر نحوي:

اسمع يا توكاس. هذا الرجل يحصد من حيث لا يزرع. يأكل من جبين غيره. السنا جميعا اولاد ابراهيم، ها نحن عبيد السيد توماس!

التاسعة من النهار

القى شاطح بعنقود كبير في مخلاته، وتلفت حوله وقال:

دعنا نستريح في ظل تلك الشجرة بقية الوقت. لن يرانا احد. وليذهب توماس واعنابه الى الجحيم، الكل مشغول عنه كما ترى..

وقبل ان اجيب كان قد شدّني من ذراعي نحو جميزة قريبة وانطرح تحتها لاهثا..

تمددت الى جواره وانا اشعر بخوف عظيم ان يراني توماس او احد رجاله. واستمرأت الراحة. وتلذذت مع شاطح بعنقود االعنب الكبير، مرت نحو الساعة ونحن على ذلك الحال..

الشمس تميل نحو الافق والنهار اوشك ان ينتهي، فجأة اعتدل شاطح كأنما لدغه عقرب، وفزعت انا ايضا لفزعه اذ ظننت ان احدا قد اكتشف امرنا..

قال شاطح في همس:

انظر. هذا هو توماس يدخل ومعه رجلان للعمل يتبعانه. تبقى من النهار ساعة واحدة. ما الحاجة لهما؟ لماذا لم يدعهما في اول اليوم مثلنا. قلت له:

كل بحسابه. وهو حر فيما يفعل.

ثم برجاء:

اسمع يا شاطح. دعنا نعود للعمل فقد يرانا. وقفزت من رقدتي..

ان احدا لم يرانا! اليس كذلك؟ لم يرنا احد..

-7-

انا توماس

النهار يميل. لا شك ان الجميع متعبون. زوجتي منذ الصباح تخبز خبرزا يكفي لمئات. سأدعوهم كلهم للعشاء بعد اعطائهم اجرتهم. من فيهم على عجلة سأعطيه خبزا في يده لبيته.

منذ ان وصل توراس اراه يعمل بهمة. ذراعاه قويتان. لماذا الاحظه دون غيره؟ ربما لان شكّي فيه لا زال باقيا، او ربما لاغيّر رأيي فيه. منذ ان وصل وهو لا يرفع عينيه عن عمله. ينتقل بيده من عنقود لعنقود بخفة. من يدري؟ لعله تاب عن مسلكه. سأدفئ جيبه الليلة بالدينار الذي وعدته به. واجعله يجلس الى جواري عند العشاء. اريد ان يشعر الكل برضائي عنه.

ايه يا توراس. اتراك حقا تغيرت؟ لم يكن يفوتني بالطبع رؤيتك في طرقات السوق تتسكع ككلب ضلّ صاحبه.

اقف الان على العتبة الرخامية لداري ارقب الجميع. قد حان وقت انتهاء عمل اليوم. الشمس تفترش ارضي بغلالة برتقالية رقيقة. اشعر بالرضا. غدا صباحا سيأتي عايث بركائبه ورجاله لاخذ المحصول. اراه وفيرا. يا الهي. هذا يكفي. سأنادي على وكيلي واطلب منه ان يجمع الرجال في باحة الدار بعد ان يغتسلوا..

-8-

انا توراس

اجلسني السيد توماس الى جانبه. كان هذا منه غاية في الرقة. زهدت في الطعام لشدة اضطراب عواطفي وجيشة نفسي رغم ان الجوع يقتلني. يميل عليّ من حين لاخر ويأخذ من طبقه الخاص ويعطيني بعطف زائد. ميخا يجلس عن بعد يصوّب نحوي عينين لامعتين وعلى وجهه ابتسامة خفيفة مشجعة وكأنما يقول: انظر. ما احلى اللقمة التي نأكلها معا. هذا تعبنا..

-9-

انا توكاس

عيناي لا تبرحان الطبق الذي امامي. آكل منه وكأنه طعام مسروق تعافه النفس. ورغم ان السيد توماس مشغول بمن حوله الا انني اشعر به بصفة دائمة وكأنه ينظر لي انا، ويفكر فيّ انا.

نسيت تعب الساعات كله ولا يوجد امامي غير الساعة التي اختلستها انا وشاطح وانفقتها تحت الجميزة. منذ الثالثة وانا اكد كدابة. ما زالت قدماي تؤلماني. وظهري ايضا من كثرة الانحناء والقيام، والصعود والنزول. ضميري يعذبني اذ اسأت لرجل احسن اليّ. شاطح يجلس الى جواري يأكل البثاث المبلل بحساء الاوز بنهم، ومن حين لاخر يسألني وفمه ممتلء:

ماذا اصابك؟ لماذا لا تأكل بهمة؟ اراك مهموما!

هو لا يدرك ولا يفهم. ثم يقول:

لن تمضي ساعة اخرى حتى تكون في بيتك. الهذا انت معكر المزاج؟

ثم بعد قليل تتسع عيناه وهو يهمس ويداه تعملان بين طبقه وفمه:

ان كنت نادما لانك استرحت لساعة من العمل، فاذهب انت وصاحبك توماس الى الجحيم. هو لا يساوي اكثر من الدينار الذي سيعطيه لي بعد قليل.

ثم يعود الى طعامه مخبئا بعضه في جيب قميصه الواسع. ما يقوله شاطح ليس ببعيد عن الحق. لماذا اعطاه الله ولم يعطني انا؟ وعلام اقتل نفسي هكذا لانني اضعت عليه ساعة عمل استرحت فيها وقد اضاع عليّ وعلى امثالي ساعات من العمر؟!

-10-

انا توماس

لتطب ليلتك يا سيد توماس.

يقولها لي كل واحد منهم وانا اعطيه دينارا من جراب يحمله وكيلي الذي يقف الى جواري. يضعه في جيبه بعد ان يقبله. هذا هو توراس يقترب وبرفقته ميخا. نظر توراس لي نظرة امتنان خاصة. اعطيته دينارا كاملا. همس كالباقين: لتطب ليلتك يا سيد توماس، ثم رحل، تلاه رجال اخرون اعرف بعضهم ولا اعرف البعض الاخر. الدينار.. ولتطب ليلتك يا سيد توماس.

اقبل توكاس. يداه ساقطتان كقطبين مدليين. وجهه مسحوب وعيناه زائغتان وعلى شفتيه المح السخط رغم صمته. سألته في ود اذ ظننت انه التعب او الاعياء وانا اعطيه الدينار:

كيف حالك يا توكاس؟

فاجأني بقوله:

سيدي. هذا ظلم..

من ظلمك؟ اتراني ظلمتك؟

نعم يا سيد. تعطي دينارا بعد يوم عمل طويل. بينما تعطي توراس دينارا مثلي ولم يعمل غير ساعة واحدة في اخر النهار. اترى هذا عدلا؟

فاجأني بما قال. واغضبني محاسبته لي بغير حق. اجبته بوداعة ولكن بحزم ودون ان احتد:

اسمع يا رجل. الم نتفق من البدء على دينار؟ هوذا دينارك. اما ما اعطيه لغيرك فهذا شأني.

ليس هذا عدلا.

يبدو ان شيطان الطمع قد دخلك يا توكاس. ليس هذا عهدي بك. ماذا دهاك؟ افق يا رجل الى نفسك واعرف حدودك. الاني رجل صالح طمعت في صلاحي؟

ما الفرق اذن يا سيد توماس. العل اولين يكونون اخرين واخرون اولين!

***

بينما عاد توراس الى بيته وفي صحبته ميخا الوفي، كان توكاس في طريق عودته هو الاخر، ولكنه وشاطح.. في طريقين متباعدين.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s