قصص مسيحية من واقع الحياة:
الكاهن واللص:
في بدء الموسم الربيعي لتعويم الاخشاب في روسيا ونقلها عن طريق النهر، ثم شحنها بعد ذلك في السفن الكبيرة. جلس اثنان من المحكومين اثناء فترة من فترات الراحة خلال يوم العمل. كان احدهما الاب فالير في الاربعين من عمره، دخل السجن بسبب ايمانه. والاخر فتى يدعى نيقولا يبلغ ستة عشرة عاما حكم عليه بتهمة السرقة.
قال له الاب فالير:
اكيد انك قد تعمدت في طفولتك يا نيقولا.
لا اعرف. اخذت من امي وكان لي 4 سنوات فقط..
لكن اريد ان اسأل سؤالا.
اسأل يا بني كيفما شئت.
هل يمكنني ان اعرف الله كما يعرفني هو؟
تعليم الاباء ياخذ طريقا وسطا بين القول بامكانية معرفة الله معرفة تامة، وبين انكار امكانية معرفة الله. والرسول يتحدث عن عدم امكانية العقل لادراك سلام الله “الذي يفوق كل عقل”(4: 7). يقول ايضا “يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما ابعد احكامه عن الفحص”(رو11) “الذي وحده له عدم الموت ساكنا في نور لا يدنى منه، الذي لم يره احد من الناس ولا يقدر ان يراه”(1تي6: 16). وان كان الكتاب المقدس يتحدث عن الملائكة الذين “ينظرون وجه الله في السموات”(مت18: 10) ويقفون حول العرش (اش6) فان هؤلاء ينظرون الله حسب قدراتهم المحدودة. وعندما يتحدث الانبياء عن رؤيتهم لله، فانهم لا يقصدون بذلك انهم يرون الله نفسه ولكنهم يرون شبه مجده، اما مجده ذاته فلا يطيقه احد.
اذن فانت تعني ان معرفتنا لله معرفة ناقصة. اليس كذلك؟
بالفعل. لكن هذا يعني ان الله عرفنا كل ما ينبغي لنا معرفته. سواء من خلال الطبيعة او الوحي.”ان اعمال الله في الطبيعة هي دلالات على قوة الخالق وحكمته ولكن ليس على جوهره. بل واكثر من ذلك. فهي لا تدل على كمال قوة الله، لان الله في خلقته لا يضيع كل قوته في الخلقة. وكما اننا لا نستطيع من التامل في بناء ما ان ندرك جوهر المهندس الذي بناه او قدراته او صفاته الاخرى. هكذا بالحري بالنسبة لله غير المحدود..”. ان نعرف ان الله حكيم لكننا نجهل مقدار حكمته. نعرف انه عظيم ولكننا نجهل مقدار عظمته. نعرف انه موجود في كل مكان لكننا نجهل كيفية هذا الحضور وفاعليته. اننا فقط “نعرف بعض المعرفة”(1كو12: 12).
لكن الا تكفي الطبيعة لتعطينا ما يلزم من معرفة لله؟
نعم، توجد امكانية لمعرفة الله بالنظر الى المخلوقات. على ان هذه المعرفة تكون ضئيلة وهكذا تأتي اهمية الايمان بالوحي الذي يكمل المعرفة التي تاتي عن طريق العقل.
لكن، اترى ايها الاب العزيز كيف كان يسوعك يحب اللصوص وقطاع الطرق!
انه يحبنا كلنا، جاوبه الاب فالير ووجهه يشع بالفرح ثم اضاف: ولكنك على حق فيما تقول لان يسوع فعلا يراعي الخطاة باكثر سخاء، لانهم اكثر حاجة لحبه وحنانه.
اذن يسوعك يحبني! هل انت متأكد من هذا؟
اترى هذه الارض التي نحن جالسون عليها ونحسها باقدامنا! انني اكثر يقينا من حبه لك..
كان هذا يفوق ادراك نيقولا الروحي الذي بالكاد بدأ يتفتح، فعلق على كلام محدثه:
بناءا على ما تقول، ايها الاب العزيز، يلزم ان يجاهد الانسان ليكون لصا اذا كان يسوع يحب امثالنا بصفة مميزة ويذهب بهم الى الفردوس مثلما فعل مع اللص اليمين.
حاول الاب فالير بصبر بالغ ان يشرح له موقف “اللص اليمين”: انه عندما كان يسرق ويقتل لم يكن يعرف بعد ذاك الذي سيخلصه! كذلك انت يا نيقولا كنت تسرق عندما كنت لا تعرف يسوع. اما الان فانت انسان اخر وحالتك تختلف عن ذي قبل:
الان يا نيقولا ليكن في علمك انك اذا فعلت الشر فكأنك تصلب يسوع مرة اخرى.
الوقت الذي كان يتحدث فيه الاب فالير لصديقه كان فرصة مناسبة ليشرح له قصة “الالام” التي لم يكن يعرف مضمونها بعد، فما ان ادرك غايتها الخلاصية حتى صاح مندهشا:
اذن، فهل صحيح انه مات ليخلصني؟ هل هذا ممكن؟
نعم، انه مات من اجلك، وبهذا اعطانا مثالا للحب الحقيقي لكي نعطي نحن ايضا حياتنا من اجل اخوتنا.
مرت برهة من الصمت كان نيقولا يفكر فيما قد سمعه لتوه، بعدها سال رفيقه:
قل لي اذن، ايها الاب العزيز، وانت ايضا هل يمكنك ان تعطي حياتك من اجلي؟
ابتسم الاب فالير وقال:
هذا من صميم عملي ككاهن.
***
في احدى الشحنات الثقيلة التي لم ترص جيدا تفككت الاربطة ومن ثم اختل توازن المركب واندفعت جهة النهر. كانت صدمة رهيبة، صرخ نيقولا وفي قفزة واحدة طار الى مكان الحادث. فاذا به يشاهد الاب فالير مطروحا على ظهره وقطعة من خشب كبيرة تكاد تسحق صدره. ومن فمه المنفتح قليلا كانت تخرج فقاقيع حمراء.. وكانت عيناه مفتوحتين عن عن اخرهما. لم يبد اي حركة. وبدأ الدم يسيل من فمه بغزارة.
في سرعة خاطفة اعد نيقولا نقالة، واسرع اخرون في انقاذ المصاب، فنقلوه الى المنطقة التي فيها الطبيب المسئول الذي قرر في الحال انه ليس في مقدوره شئ يعمله للاسعاف، لان القفص اصدري والرئتين سحقوا بالكامل.
لم تقدر لا التوسلات ولا التهديدات ان تجبر نيقولا على ترك راس سرير المحتضر. واذ كان جالسا القرفصاء على الارض كعادته كان يبكي بدموع سخينة.
بغتة فتح الاب (المدنف على الموت) عينيه وقال بصوت قوي:
اليوم هو الجمعة العظيمة.
ثم التفت الى نيقولا الذي كان ينتحب بشدة وقال له:
كف عن البكاء يا نيقولا! فها انت ترى ان الموت ليس شؤما ولا هو بلية لا سيما اليوم.
رفع نيقولا راسه متحيرا ومندهشا لهذه المفاجاة وهذا الكلام وتساءل:
ولماذا اليوم بصفة خاصة؟
لان اليوم هو عيد تذكار موت يسوع من اجل خلاص العالم.
وانت ايضا ستموت بالمثل (من اجل هذه الغاية عينها)؟
نيقولاس! انت لا تفهم الان، ولكنك ستفهم فيما بعد!