في زقاق المسيحيين

قصة للاب متى المسكين
-1-
كان ذلك في اورشليم – مدينة السلام – القائمة على رابية عالية من ربى اليهودية الخضراء، تنعشها نسمت البحر الابيض الذي لا يبعد اكثر من 30 ميلا غربا، اما شرقا فيطل عليها جبل الزيتون بخضرته الداكنة..
لقد مضى الان خمسون يوما على الفصح منذ ان صلبوا المسيح، وحل موعد عيد الحصاد، وهو العيد الثاني من اعياد الكبرى: الفصح والحصاد والمظال. وهوذا الحجاج الاتون من جميع انحاء العالم لم يبرحوا اورشليم بعد، منذ اقامة الفصح، لانه هكذا عادتهم، وكان لسان حال كل واحد منهم “لان عبيدك قد سروا بحجارتها وحنّوا الى ترابها”(مز102: 14). فكانوا يطوفون بالبلاد يتزودون بالبركات حاملين اجمل الذكريات وحفنات من تراب الهيكل مصرورة في اكياسهم، وكانها زاد للكورة البعيدة او دواء يضمدون به جراح الغربة حينما تبرح بهم تباريح الذكريات ويهيج في صدورهم الحنين الى الوطن.

واخيرا جاء يوم الخمسين، اشرقت شمس ذل اليوم في فلسطين مبكرة، لانها ايام صيف، ومنذ الفجر بدأت جموع حجاج اليهود تتزاحم نحو الهيكل مستوطنين وغرباء، جاءوا من بلادهم البعيدة سيرا على الاقدام ايفاءا لنذر الحج.
وقد بدا الكل بملابس مزركشة متعددة الالوان تكشف عن هويتهم، جاءوا من كافة بلاد الامبراطورية الرومانية المترامية الاطراف “يهود رجال اتقياء من كل امة تحت السموات..”(اع2).
اما الرومان اليهود فكان معظمهم من العبيد الذين حررهم سادتهم وهم المدعوون “الليبرتيينون” .. فكانت الجماعات المتزاحمة ذات لغات مختلفة لا يكاد الواحد يعرف لغة الاخر. وقد فقد الكثير من اليهود المتغربون لغتهم الام.. وتنبه الرؤساء لهذه الكارثة ..

-2-
كانت الساعة التاسعة صباحا (الثالثة بالتوقيت اليهودي)، وكان السائر بين هذه الجماعات المختلفة يستطيع ان يتبين حديثا واحدا مشتركا بينها جميعا وهو الحديث عن يسوع الذي صلب وتاكد ببراهين كثيرة انه قام..
كان الحديث عن يسوع يثير حماسا مكبوتا وشوقا ولهفة وسؤالا حائرا: ايكون هو المسيا الموعود الاتي؟
وكانت لهفة الجموع من جهة المسيح قد بلغ قمته التي تكاد تدفع عجلة الزمن لتبلغ النهاية بالقوة، بايمان من ضاق بالانتظار.. نعم اعطى للانسان ان يحرك الزمن بان يحرك قلب الله!
كانت صلاة العيد في الهيكل على وشك الابتداء، وكان الجو هادئا والشمس صحوا والصباح في ابهج ساعاته. وفجأة سمعت ضجة في زقاق ضيق متفرع من احد الشوارع. وكانت الضجة في البداية همهمة كصوت ريح عاتية كريح الشتاء اخذت تتجاوب اصداءها السماء الى وقت غير قليل وبريق نار غير واضح، وفي الحال بدأت تتعالى اصوات الناس حتى سدوا الزقاق باكمله حتى بات عسيرا على احد ان يتحرك من مكانه.
وانتشر خبر ان جماعة المسيح المدعوين ب”اهل الطريق” بينما كانوا يصلون معا ، واذا بالسماء انفتحت، وشعلات مضيئة نازلة من السماء بشبه السنة متوهجة بنار لطيفة هبطت عليهم ووقفت فوق راس كل واحد منهم، فبداوا في الحال يتكلمون جميعا كالانبياء بمعرفة وعلم الهيين غزيرين .. وانما بلغا متعددة حتى ان كل اليهود المتغربين سمعوا لغاتهم وفهموها: كلدان وفرس وعرب وارمن ويونان،
ولكن الذي ادهش جميع اليهود واصاب هوى مكبوتا في قلوب الجميع هو شجاعة التلاميذ الذين يتكلمون بقوة لانهم كانوا يدينون علنا تصرف رؤساء الكهنة بصلبهم ليسوع.
وهكذا ادرك الشعب كله شناعة الخطية التي اوقعهم فيها رؤساؤهم فكان وقع الكلام على ضمائرهم كالسياط، فاخذوا يبكون ساخطين على رؤسائهم الذين اضلوا الامة كلها وورطوها في هذه الخطية ليبقوا هم في مناصبهم!
وطار الخبر الى الهيكل. وكان جميع فرق الكهنة مع رؤساء الكهنة قد بدأوا الصلاة بملابسهم الرسمية. فعندما سمع المسؤلون الخبر حدث ارتباك في الهيكل كله، وتوقف اللاويون عن الانشاد مما اثار انتباه الشعب الذي بدأ يزحم بعضه البعض متدافعين في الاروقة نحو القدس.. وعبثا حاول الكهنة ان يستعيدوا الهدوء والنظام.
وكثير من الشعب بدأ يرفع صوته بالاحتجاج، لان قسما كبيرا منه كان مواليا للمسيحيين وغير راض عما حدث في العيد، وبعض منهم كان مسيحيا بالفعل وكانوا في اشد اللهفة لسماع خبر جديد يفيد مجئ الموعد القدوس، وقوة الاعالي التي وعد بها يسوع قبل صعوده. هؤلاء لم يستطيعوا ان يخفوا فرحهم وتهليلهم عندما بلغهم خبر حلول الروح والسنة النار ، لان قوة عجيبة سرت في قلوبهم واطلقت السنتهم بالتسبيح والشهادة ليسوع انه هو المسيا الاتي. وبدأوا يغادرون الهيكل صوب زقاق المسيحيين وبدأ الشعب يتراكض خلفهم وهم لا يعلمون اين يذهبون.
كان المنظر مهيبا في زقاق المسيحيين، بطرس واقف وحول راسه هالة من نور يغذيها لهب سماوي ازرق ينحدر من اعلى وكانه لسان نار او نجم مذيل نازل من السماء، وحولة جماعة التلاميذ وكانوا يحملون فوق رؤوسهم هذا الالسنة النارية: منظر اخاذ جعل كل الشعب يضج بالهتاف ويعطون المجد لله..
هكذا ظهر المنظر لكل من الحاخام زكاي والحاخام عكور ومعهم حرس الهيكل، اذ وقفوا من بعيد مصعوقين لانهم عبثا حاولوا بواسطة الحرس الذي لم يكف عن الصراخ: سيدنا سيدنا، وبالنفخ في الابواق لكي يشقوا طريقهم للوصول الى البيت ولكن الشعب فوق انه كان يتزاحم ككتل من اللحم، الا انه قد سد اذانه وبازدراء ايضا عن السماع لنداء الحراس، لان السخط على الكتبة والفريسيين كان ممزوجا ببكاء الشعب على الخطية التي ورطوهم فيها.
كان الروح القدس المنسكب على التلاميذ لا يحتاج الى فحص ولا برهان. فالنور يحيط برؤوسهم، والكلام خارج ينفذ كالسهام الى اعماق الضمير. وقف الحاخامان على مرتفع يسمعان وعظ بطرس، كان زاكاي في شدة التأثر يحني راسه من الحين للحين، اما عاكور فكان الغضب يتفجر من فمه والشرر يتطاير من عينيه، وكان يكرر كثيرا انهم سكارى باستهزاء – والتقط هذه اللفظة بعض الصبية واخذوا يكررونها – ولكن الخوف والفزع اخرسه عن الكلام.
واخيرا لم يستطع الحاخامان الاستمرار في الوقوف لان عيون الشعب بدأت تشخص نحوهما باستهزاء وغضب وتحرش، فانتهز الحاخامان فرصة قدوم عسكر الرومان واختفيا في الحال..
اما عسكر الرومان فقد ارسلوا على عجل من قلعة انطونيا من اقصى الشمال لان تجمهر الشعب في زقاق المسيحيين كان بالدرجة التي استرعت مراقبي البرج من على بعد، وهكذا في لحظة تلفت الشعب فلم يجد حاخاماته، لا زكاي ولا عاكور ولا تلاميذهم ولا حراسهم، وكان اختفاؤهم بهذه الطريقة المخزية الانهزامية بمثابة اشارة من السماء ان يستجيب الشعب لصوت الله على فم بطرس ويصرخ بصوت واحد “ماذا نصنع ايها الاخوة لنكفر عن ذنوبنا وذنب رؤسائنا؟”.
وكان بكاء الشعب يشبه العويل، كعويل النساء على ميت، لان نخس الروح للقلب اشد ايلاما على الضمير من كل الم او خسارة يمكن ان تصيب الانسان في هذا الدهر.. كان كل واحد يبكي كانه يبكي على وحيد له..
كان بطرس يتكلم بلغات وكان الكلام يفهم بدون مترجم.. توبوا وليعتمد منكم لكي تاتي اوقات الفرج.. كان جند الرومان في اشد ذهول فامامهم علامات ثورة عارمة ومحرضون علنيون، دون ان يكون هناك هتاف او صراخ او تهديد بشئ.
امسك احد الضباط بذراع شاب يهودي كان متاثرا ويبكي وجذبه بشدة واشتم رائحة فمه ظانا انه مخمور فلم يجد شيئا من هذا، بل دموعا وانينا فصرخ في وجهه:
ماذا دهاك ايها الاسرائيلي؟
فاشار الشاب باصبعه الى قلبه وقال بلهجة لاتينية صحيحة: قلبي قلبي..
وماذا في قلبك؟
فرد عليه الشاب: يسوع الذي صلبتموه في الفصح..
فزغده الضابط في ظهره واطلقه وهو يقول: شعب مجنون لم نر مثله قط!!
ولكن رئيسهم وهو امير الكتيبة كلها الذي اتى بنفسه عندما سمع الاخبار العجيبة، وكان رومانيا مهذبا، اقترب من بطرس واخذ يصغي متعجبا: كيف ان هذا الامي يتكلم اللاتينية بكل طلاقة؟ .. فاخبره شاب كان واقفا بجوار بطرس اسمه يوحنا مرقس وقال لرئيس الجند:
– ان بطرس هذا صياد سمك امي لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولم يعرف سابقا حرفا واحدا لاتينيا، ولكن الله اعطاه اليوم ان ينطق بلسانكم شاهدا ليسوع المسيح الذي صلب اليهود في الفصح انه هو المرسل من الله ليعطي الخلاص وينير اعين الذين في الظلام ليرجعوا عن خطاياهم ويؤمنوا بالله الحي.
فاشتدت حيرة الامير الروماني وظهر عليه انه يطلب التوبة والخلاص، لان هذا الامير كان متابعا لكل حوادث اليهود وخاصة حوادث الفصح الاخير، وسمع كثيرا عن يسوع فانتحى بمرقس جانبا وقال له: اريد ان تحضر لي الى القلعة اليوم لامر هام، واكد عليه كثيرا ان يطلبه شخصيا، ففهم مرقس كل شئ..
**
اما في الهيكل، فقد عاد الحاخامان على عجل، واخبرا الرؤساء بكل ما رأيا وسمعا. فامر رئيس الكهنة ان تعقد جلسة سريعة لكل اعضاء السنهدريم مع كبار الكتبة والفريسيين، بعيدا عن الشعب في منزل قيافا المجاور للهيكل.
واثر غياب رؤساء الكهنة من الهيكل في خدمة الصلاة داخل الهيكل بصورة ملحوظة مما زاد من التساؤلات ، حتى شاع خبر زقاق المسيحيين ..
وبدأ ينتشر الخبر بين جميع اليهود الذين حضروا العيد من جميع انحاء العالم، وهذا بدوره جعل زقاق المسيحيين يغص بالشعب طول النهار والليل الذين بدأوا يقبلون على التوبة والمعمودية علنا، مما زاد من ضجر رؤساء الكهنة، فاتصلوا سرا بامير الكتيبة ووعدوه باموال كثيرة لكي يقبض على رؤساء حركة زقاق المسيحيين ويلقيهم في السجن الى ان تقدم في حقهم التهم الكافية لاعدامهم.. ولكن الامير استهزأ بالرسول اليهودي ورد عليه ان ضميرنا الروماني لا يسمح لنا ان نعاقب قوما ابرياء!..
وفي الحال ارسل مكتوبا مختوما الى رئيس المئة المسؤول عن حفظ النظام مكتوبا فيه هكذا: احرص على ان تباشر واجبك العسكري بحسب الشرف الروماني في حدود حفظ النظام فقط، ولا تمد يدك بسوء لاحد قط من زقاق المسيحيين وانتبه من مكائد اليهود، واحذر من ذهبهم..
فزاد العسكر الرومان من بشاشتهم ولطفهم نحو اهل الزقاق وكل الوافدين اليه بصورة سرية غير عادية قط، حتى تعجب كل المسيحيين وصاروا فرحين للغاية وصاروا ينشدون اناشيد روحية عجيبة يمدحون فيها يسوع ويرنمون بالمزامير التي فيها ذكر لاحسانات الله.

-3-
من الظلمة الى نوره العجيب:
خيم الوجوم على اجتماع السنهدريم منذ اول لحظة.
جلس قيافا في صدر المجلس على كرسي عال وبجواره حموه حنان رئيس الكهنة السابق، هذان اللذان اشتركا معا في خطية قتل البار، بالرشوة وشهادة الزور. رئيسان يتبادلان كل صنوف الخبث والرياء مع اللطف الظاهري المصطنع. كان المال والمنصب هما كل شئ ، اما الناموس والتقوى فيمكن التغاضي عنهما كلية او التمسك بهما اذا لزم الامر!..
وما صورة الربح القبيح والتسلط على الرعية الا صورة قيافا .. ثم جلس في مقابل رئيسي الكهنة زاكاي وعاكور .
وامتلات القاعة باكثر من العدد الرسمي للاجتماع، اذ شدد قيافا على الكتبة والفريسيين بالحضور لخطورة الموقف اذ كان منزعجا جدا لا من جهة خبر قيامة يسوع فحسب بل وبالخبر الجديد، بحلول الروح القدس، اذ اعتبر ذلك بمثابة تصديق للقيامة، وهذا جعله يحس بان اصبع الاتهام تشير عليه فدخله رعب منعه عن الكلام. من اجل ذلك اوعز الى حميه حنان العجوز المتعتق في الشر ان يبدأ هو الكلام.
بدأ حنان يتكلم عن ضرورة وضع حد لنشاط هؤلاء المسيحيين – اهل الطريق – (جماعة اهل الزقاق) : لانكم ترون اليوم يف اجتذبوا اكثر من نصف العابدين في الهيكل، وشوشوا على عبادتنا المستقيمة،واربكوا الصلاة واطفأوا بهجة العيد. وهذه الامور ان تهاونتم فيها فهي وشيكة ان تقضي على عبادتنا العظيمة وتصبح خدمات الهيكل كلا شئ.
وانبه ذهنكم ان انفضاض الشعب عن العبادة داخل الهيكل بهذه الصورة عتيد بأن يؤثر على مركز امتنا كلها ويحرج موقفها السياسي، لانكم تعلمون اننا نأخذ حقوقنا من الرومان من واقع تكتلنا وعظمة هيكلنا وسلطة رئاستنا الذي يقوم على خضوع الشعب خضوعا تاما.
كذلك يلزم ان تدركوا ان حصيلة هذا العيد من الاموال التي جمعت من جميع الخزائن الثلاث عشر لم يبلغ ربع الحصيلة الاعتيادية كل سنة، .. ان ابادة هذا الزقاق هو سبيلنا الوحيد لاستعادة نفوذنا.
واعطى حنان الكلمة للحاخام عاكور ليدلي بشهادته، فبدأ متحمسا – انما بصورة مصطنعة لان الرعب كان باديا على وجهه – فوصف جماعة اهل الزقاق بانهم جماعة سحرة ورثوا من معلمهم كل صنوف المهارة في التأثير على الشعب. وعزا كل ما رآه من تكلم بالسنة ملتوية غريبة الى قوة شيطانية.
وهنا توقف عاكور فجأة وكمد وجهه وتبدأ يتلوى من شدة الالم، فقد اصاب ساقه اليمنى الم فظيع فاسرع زملاؤه مع خدم رئيس الكهنة يستفسرون عما حدث، فاخبرهم انه شعر وكأن منخاسا محمى بالنار اخترق ساقه… وبدأ يئن فدخلت الرعب كل اعضاء المجلس.
وهنا تدخل حاحنان بسرعة ليهون الامر على عاكور والمجلس مخاطبا الحاخام المجدف: تكلم ايها الحاخام المبجل عاكور، استكمل حديثك، انه الم عابر..
فعاد عاكور وبالجهد تمالك نفسه وبدأ يتكلم بصوت خفيض مرتعش:
ان هؤلاء الجماعة وجدتهم سكارى والخمر تلهب حماسهم وتلوى لسانهم لكي ينطقوا كيفما شاءوا، فلماتهم غير مفهومة على الاطلاق، ولا تحسب انها لغة كما يدعون، فهي لغة المشعوذين الذين يخاطبون الارواح التي يقول عنها داود الملك “ليس في افواههم صدق، باطل هو قلبهم، حنجرتهم قبر مفتوح”(مز5: 9 و 10). والله عتيد ان يستأصلهم سريعا. اما الشعب الذي يتبعهم فهو شعب مغرر به وبكاؤه هو من الخوف الذي اوقعه فيهم هؤلاء المنافقين.
وانا اعتقد انها تجارة جديدة للدين .. وهنا لمعت عينا حنان وهز راسه باستحسان: جيد ايها الحاخام المكرم عاكور قد اصبت الحقيقة.
وكان كاتب الجلسة يسجل كل ما يقال.. ولما انتهى اشار الى زاكاي ليدلي بشهادته.
كان زاكاي ضمن الرؤساء الذين حضروا محاكمة يسوع وشاهد بنفسه الغش وتلفيق التهم ودفع المال بسخاء لجمع شهود الزور. لقد كان اح ارباب المشورة داخل غرفة رئيس الكهنة الخاصة، وشاهد بنفسه مدى ضعف موقف رئيس الكهنة وتعريه من كل مبادئ الصدق والشرف ومخافة الله ةاحترام الناموس، كما راى كل وسائل السلطان التي انتهجها للبلوغ الى غاية واحدة هي التخلص من يسوع لا لشئ الا بسبب انكشاف فساده في نور تعاليم يسوع.
تركت حوادث الفصح ومنظر المحاكمة والصلب في فكر زاكاي سحابة سوداء ثقيلة وسماعه باذنيه من فم بطرس خبر قيامة يسوع احس بقوة هائلة تسري في اعماقه فادرك بيقين ان يسوع هو المسيا حتما وانه هو صاحب القوة الفائقة التي كانت تعطي التلاميذ الشجاعة للكلام بكل مجاهرة بدون الخوف من السلطات الدينية الغاشمة..
لم يستطع ان ياكل منذ الصباح. ومع ذلك فقد احس بقوة تسري في بدنه وباستنارة في ذهنه ليفهم كل نبوات العهد القديم وانطباقها على يسوع. بدأ كلامه في مجلس السنهدريم هكذا:
تعلمون اني عشت بينكم بضمير صالح كل ايامي. والله شاهد على ما اقول. فاني حتى اليوم اتعذب ليلا ونهارا بضيق لا يوصف بسبب حوادث الفصح الماضي..
هنا قاطعه حنان بتحدي: وما السبب يا زاكاي المبجل؟
صلب يسوع!
وهنا دخلت الرعدة قلب حنان ايضا وبدا يصرخ برعدة: وماذا كان في صلب يسوع؟
هنا ابتدأ زاكاي يأخذ شجاعة غير معتادة ورفع صوته الجهوي:
لقد كانت كل الاجراءات التي اتخذت في ذلك اليوم منافية للناموس والحق والضمير.
اخرس.. اصمت.. اسكتوه.
وصار صخب شديد وقام البعض يريدون الاعتداء عليه. وهنا انبرى غمالائيل وكان هو الاخر غير راض عما حدث.
وقال غمالائيل:
اطلب من المجلس الموقر ان يعطي فرصة للشاهد ليدلي بشاهدته حتى اخرها، ولنا الحكم فلماذا الانزعاج؟ .. واستطرد: استأذن سيدي رئيس لكهنة. تكلم يا حاخام زاكاي.
بدأ زاكاي مرة اخرى بشجاعة واصرار لا يلين.
لا اريد ان اتدخل في تفاصيل الماضي، فكل واحد يعرف ما اقترفت يداه، واعضاء المجلس على علم بان اجراات محاكمة يسوع تمت على عجل، وان اكثر من نصف المجلس امضى على وثيقة الاتهام وهو غير مقتنع، والكل كان يطلب تاجيل الحكم لضيق الوقت وعدم لياقة المناسبة. وكنا قد اتفقنا في جلسة سابقة على الفصح ان لا يتم شئ في العيد لان هذا اغتبرناه منافيا لكل تقاليدنا ولاحكام الناموس..
صراخ في وجه زكاي، ولكن غملائيل يتدخل مرة اخرى ويهدئ المجلس وهو منفعل ومنذهل من شجاعة زكاي وبدا ان له رغبة ملحة ان يسمع شهادة زكاي للنهاية.
استأذن سيدي رئيس الكهنة ان يتكلم زكاي: تكلم يا حاخام زكاي!..
عاد زكاي يقول:
ولكن رئي في اخر لحظة ان يؤخذ الموضوع باقصى سرعة مع انه لم يكن هناك شئ على الاطلاق يدعو للسرعة، ولكن السرعة استلزمت سد ثغرات مفتوحة لا يمكن استيفاؤها الا بطرق غير مشروعة مست الشريعة في الصميم – زمجرة من رئيس الكهنة – وهذه الاخطاء المتعمدة ضد الشريعة والناموس صارت كفيلة هي ايضا بابطال شرعية مسئولية مجلسنا عن العبادة برمتها.
.. صراخ وتلويح بالايدي وتهديد.. ولكمة تصيب انف زكاي فينزف الدم حتى يغطي وجهه وملابسه.

-4-
الحاخام في زقاق المسيحيين:
اتجه الحاخام زكاي بملابسه الرسمية ذات الاهداب وعمامته العريضة الى زقاق المسيحيين، كان الليل قد بدأ ينتصف، وكان بطرس والتلاميذ يعمدون المؤمنين الجدد منذ الصباح خمسين خمسين في كل مرة، ثم يستريحون مستخدمين كل خزانات مياه الشرب في البيت والبيت المجاور، وكان كل خزان مقدار قامة رجلين عرضا وقامة رجل ارتفاعا. وروح الله حال على الجماعة واصوات تسبيح تأسر القلوب.
وقف زاكاي في ساحة البيت فجأة امام نور المصباح، فاندهش الجميع الواقف لمنظره، لانه بالرغم من عظمة مظهره كان في حالة اعياء يرثى لها ، والدم يتساقط من انفمه ويبلل كل صدره حتى لطخ كل ملابسه..
اسرعت الجماعة نحو بطس الذي جاء من الداخل على عجل، وهو مشمر عن ذراعيه وملابسه مبللة بالماء ورحب الحاخام بكل عطف ومحبة وادخله الى البيت والتف حوله التلاميذ مرحبين ولم يساله بطرس شيئا لانه ادرك بالروح كل القصة، خاصة بعد ان اسرّ يوحنا في اذن بطرس انه الحاخام الكبير زاكاي لان يوحنا كان يعرفه شخصيا.
حاول بعض التلاميذ ان يقدموا له معونة بسبب نزف الدم، ولكن بطرس لمس انفه داعيا باسم الرب فجف نزيف الدم في الحال. انبهر زاكاي بهذه المعجزة فقد شعر بقوة غريبة تسري في جسده وتعطيه راحة بعد الجهاد العنيف الذي بذله.
وراح يقص لهم قصته منذ ان قابل يسوع في الهيكل لاول مرة في السنة الاولى لخدمة الرب، وكيف تكلم معه طويلا، وكيف صارت هذه الكلمات نورا انار طريقه فقد غيرت كثيرا من مبادئه وسلوكه، ثم ابتدا يكشف لهم عن حوادث المحاكمة قبل يوم الفصح، وفي يوم الفصح، وعن شهادات الزور.
وقد اصغى بطرس ويوحنا بانتباه اليه.. ثم حدثهم عن مجيئه صباحا الى زقاق المسيحيين موفدا من لدن رئيس الكهنة هو وزميله المجدف عاكور وكيف قبل الايمان حينما سمع عظة بطرس صم قص لهم كل ما دار في مجمع السنهدريم وكيف اهين وتالم حينما شهد ان يسوع هو المسيح.
وختم حديثه قائلا: “اريد ان اعتمد لاشهد ليسوع “.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s