الرسالة الاولى
عزيزتي بورشيا
وصلنا اخيرا بعد سفر طويل .. وانقضت الرحلة بسلام وكأن السفينة كانت تبحر على صفحة نهر ارلوس، وليس في مياه البحر الكبير..
وخيّل اليّ، عند رؤيتي اليهودية لاول مرة، باننا ضللنا طريقنا الى الربع الشمالي، ربع الجليل، وحسبت اننا نقترب من قيصرية عندما وقع نظري على مجموعة من المنازل ذات الطلاء الابيض، ولكنها كانت في الواقع مدينة بطولمايس. ولما وصلنا الى قيصرية التي تبعد نحو عشرين ميلا الى الجنوب، زالت دهشتي، فقد بدت جميلة من بعيد وقد احاطتها سلسلة من التلال، ولما دخلنا الى الميناء احاط بنا كثير من الزوارق الصغيرة، وقد امتلات بالاطفال الصغار العراة الذين يغوصون في الميناء بحثا عن قطع النقد النحاسية التي كنا نلقيها اليهم.
كان الجو حارا لا يطاق، كانت اشعة الشمس المحرقة تنعكس من الرمال الصفراء واحجار المباني وكأنها الجحيم بعينه، واشرت الى رجل كان يقف في الميناء، واعطيته بعض النقود ليحمل رسالة مني الى دار الولاية، ليخبر عمتي كلوديا عن وصولي.
واحسست باني على حافة الهاوية، حينما شاهدت بعد برهة، انسانا يتقدم اليّ، ويرحب بيّ. كان شابا وسيما يدعى لوسيوس بيلاريوس، وقد ارسله معي بيلاطس على وجه السرعة استجابة لرسالتي اليه. كانت ملامحه جامدة عامة وكأنه تمثال لاله اغريقي ولكنه اعتنى بي وبمتاعي..
وكانت دار الولاية على بعد ميل من المكان. كانت دارا تحيط بها حديقة غناء على النمط الاغريقي. وقد شيدها سلوكوس. ولكنه لم يراعي الذوق الفني في تشييدها، شأنه شأن باقي البطالسة. كانت عمتي عزيزة عليّ، لم اشاهدها منذ طفولتي. لق اعترتني الدهشة لحظة لقائي بها ولم اتعرف عليها في البداية. ولم ترحب بي كالمعتاد في مثل هذه المناسبات، ولكنها قالت في اقتضاب “اه يا لافينيا ما الطفك! احسنت صنعا بمجيئك”. بدت كانها افروديت بعينيها، كانت في العقد الرابع من عمرها. ومع ذلك، بدت وكانها لا تتاثر بمرور الزمن.
رافقتني بعد الحمام الى غرفتي. كانت الغرفة مليئة باواني …
عزيزتي بوراشيا.
كيف استطيع ان اصف لك هذه البلاد! فالتفاح رائع حقا. والارض المنزرعة قليلة لان قيصرية تقع على الساحل. وتحيط بها اراض مسطحة، ترتفع فجأة الى سلسلة من التلال، ويخبرني لوسيوس بانه في فصل الربيع تغطيها الحشائش والازهار، وتزهر اشجار اللوز، فتبدو كأنها جنة، وكما قال لوسيوس ان اليهودية جنة، لو انتزع منها اليهود. فطيلة الوقت تسودها الثورات والاضطرابات والموت والصلب والدماء وقيصرية بالذات يسكنها خليط من السكان. هناك الاغريق الذين يناصبون اليهود العداء، ويعتبرونهم قبائل همجية غير متحضرة. وهم ينقسمون احزابا متصارعة. الفريسيون والصدوقيون والغيورون والاسينيون وطوائف اخرى غابت عن ذهني الآن . فالغيورون مثلا ضدنا. والصدوقيون يتعاونون معنا وان كنت اشك في حبهم لنا. وطقوسهم تتخلل حياتهم – كالطعام والشراب والنوم الخ. وهم لذلك لا يحبون من يخالفهم في العقيدة وهناك نزاع بينهم على انسان نبي وهذا النبي يتجول في البراري مناديا بنهاية العالم، واقتراب ملكوت السموات. انه من طائفة الاسينيين واسمه يوحنا يكتسي بجلود الحيوانات ولا يأكل في الغالب شيئا. ومقره الرئيسي في الصحراء بالقرب من نهر الاردن. يا للغرابة! ان الشئ الذي قد نراه تافها في بلادنا يثير في هذه البلاد كل الاضطرابات، فالالوف تسعى اليه سيرا على الاقدام – الاغنياء والفقراء. وصوته يدوي في كل ربوع اليهودية “توبوا.. اصلحوا طرقكم.. تطهروا بماء المعمودية. اقترب ملكوت الله..”.
عمتى تقول “ان عمك يخاف منه.. وهو على حق في خوفه. ان هذا الانسان سيسبب اضطرابا وانزعاجا للسلطات الحاكمة. ولكن الا ترين انه على حق في حديثه عن هذا الاله الذي يتحدث عنه؟ أليس هذا افضل من ان ينادي شعبنا بالوهية طيباريوس؟ ولكنها اردفت قائلة “ينبغي الا تخبري بيلاطس بما دار بيننا. فهو ما يزال يعتبرنا من عائلة مقدسة والا سيسقط مقامنا في نظره”. ان عمتي كلوديا حكيمة، تماما مثل عمي العظيم اوغسطس.
كلمة اخيرة عن المجتمع هناك. هناك بالطبع الجيش الروماني، ولو اننا قلما رأينا احد افراده ما عدا فرق مركز القيادة المنتشرة في كل مكان. وهناك بعض تجار الاغريق..
عزيزتي براشيا لقد اطلت كثيرا. والآن وداعا.
تقبلي حبي وتقديري
ابنة عمك المخلصة – لافينيا.