رسائل من فجر المسيحية #٢

الرسالة الثانية

عزيزتي بوراشيا.
لديّ الكثير من الاخبار هذه المرة – فقد قمت برحلة في المناطق المحيطة. كما ان قصة يوحنا قد بلغت نهايتها.
ولعلك تعلمين اني كنت انوي ترتيب بعض السفرات لمشاهدة هذه البلاد، لاعرف عن احوالها اكثر مما عرفته في قيصرية – ولكن لم تتح لي الفرصة. حاولت ان ارافق بيلاطس في سفراته، ولكنه كان يبدي امتعاضا، وكنت من جانبي لا اعبأ بالامر ما دمت امضي حياتي سعيدة – اتسلى طول النهار بالحديث مع النساء اليونانيات عن الاحداث الجارية واحدث الاخبار الواردة من روما، وجرائم العصابات في جبال اليهودية، او عن انتشار وباء الطاعون في كبادوكية وقد كاد يمتد الى هنا. ولما علمت ان بيلاطس على وشك الذهاب لليهودية لزيارة هيرودس انتيباس، قررت مرافقته. ومع ان عمي قد عارض في البداية، الا ان زوجته هدأت من ثائرته. كان هيرودس يسكن في قلعة بعيدة تدعى قلعة طيباريوس، ولقد سررت لذلك، فالرحلة ستكون طويلة. كما انني سالتقي اخيرا باسير وطني في بلاطه الخاص. ومع ان هيردس ليس يهوديا اصيلا، فهو ادومي، الا انه استطاع ان يصل الى مركزه بدهائه. فلقد كان بوجهين – يسعي لاكتساب ثقة سيجالوس وفي نفس الوقت يتزلف لطيباريوس. ولا شك ان شخصا بدهائه يستطيع ان يصل الى اغراضه بكل سهولة.

وتقع قلعة مكاريوس الى الجنوب وتبعد عن قيصرية بنحو 30 ميلا. كانت الطرق وعرة غير معبدة. وتزداد رداءة كلما ابتعدنا عن الساحل. ولست اعتقد ان سكان البلاد افضل حالة من بلادهم. يقول البعض عن سكان الشرق بصفة خاصة انهم يرضخون في يسر لما يفرض عليهم من ضرائب، ولكنهم يثورون في عنف عند اي محاولة للتدخل في معتقداتهم الدينية او محاولة ادخال المدنية اليهم، فالمدنية تكاد تتوقف عند ابواب قيصرية. لقد خرجنا من تلك المدينة بمبانيها الفخمة على الطراز الاغريقي ودخلنا الى بلاد يسودها التعصب والرجعية والنساء المحجبات والتقاليد البالية. المجمع هنا هو المكان الرئيسي في البلدة. فهو المعبد وهو دار القضاء.. وكلما مررنا بجماعة من اليهود توقفوا وجمدوا في اماكنهم، كما تفعل بعض الحشرات حين يداهمها الخطر. لا تظني انهم يقفون ليفسحوا لنا الطريق او بدافع من روح الاحترام، ولكنهم يفعلون ذلك تجنبا للتطلع الينا او الاحتكاك بنا.
يقول لوسيوس الذي يعرف عاداتهم جيدا، ان السبب وراء عداوتهم الصارخة للغرباء ليس لانهم يريدون الاحتفاظ بتقاليدهم او مثلهم نقية من التدنيس والاختلاط بالتقاليد والتعاليم لاخرى ولكن لانهم ضعفاء، فقد تعاقبت عليهم امم كثيرة. فقد كانوا عبيدا للمصريين ثم حكمهم الاغريق والآن يرزحون تحت نير الرومان. كما انهم قد وقعوا قبل ذلك فريسة للاشوريين والبابليين والفرس وهذا هو سر عداوتهم لكل غريب.
وفي بعض الاحيان كنا نشاهد الاطفال وقد اقتربوا منا، وهم يشيرون الينا ضاحكين ساخرين والبعض منهم يتجاسر ويتبعنا ولكننا سرعان ما نرى ذويهم، وقد خرجوا من الدور كالمجانين واختطفوا ابناءهم ولا يلبث ان يعلو صوت بكائهم وعويلهم، والضربات تنهال عليهم. وفي مرة اخرى التقينا بمشهد جنائزي، كان مكونا من ستة رجال، وهم يحملون نعشا على اكتافهم ويتلون بعض الالحان الجنائزية، بينما تهتز الجثة تحت اغطية النعش بسبب حركة الذين يحملونها وفجأة لمحنا البعض منهم فتوقفوا في سكون، وتوقفت الجثة عن الاهتزاز، وتوقفت الاغاني في الأفواه، وتوقفت النسوة عن العويل، وساد السكون. ولما ابتعدنا مائة ياردة عاد كل شئ كما كان. وكأن الزمن قد توقف بمرورنا بهم. كان مشهدا يثير الضحك!
ولقد استغرقت رحلتنا ثلاثة أيام كاملة، عسكرنا خلالها للمبيت مرتين. في المرة الاولى استضافنا احد قواد المئة، وهو احد أبناء الفلاحين في ليكأونية وكان عنده الكثير من الاخبار عن يوحنا المعمدان الذي قبض عليه هيرودس مؤخرا. قال لنا ان يوحنا افضل الف مرة من جمهور اليهود بأجمعهم، ولعله قد راى النبي مرارا، لان وادي الاردن الذي عاش فيه هذا النبي يقع في منطقته. وقال ان نجاح يوحنا في دعوته واجتذاب الجماهير قد اثار حفيظة هيرودس. ولق بدى هذا الرأي غريبا في بادئ الأمر، فما الذي يخشاه ملك جبار من ناسك يعيش وحيدا بين الجبال يقتات بالجراد والحشرات الاخرى، وهو ينادي بقيامة الاموات ونزول الالهة بين البشر!! ومع ذلك فقد قال لنا قائد المئة ان هيرودس قد اهتز رعبا وامر بمضاعفة الحرس حول قصره.
ولقد فهمت السبب بعد ذلك. فان يوحنا لم يراع اصول الدبلوماسية، بل هاجم بكل عنف هيرودس لعلاقته غير الشرعية بهيروديا زوجة اخيه. فلم يكن زواجه منها شرعيا كما انتشرت الشائعات منذ اعوام. ولذلك ثارت ثائرة هيرودس وامر بالقائه في السجن وقد قطعت رأسه بعدها بفترة وجيزة. ولكن سرعان ما نسينا الامر حينما اعلن هيرودس باقامة حفلة كبرى بمناسبة ميلاد سالومى، وكانت بالحق حفلة كبرى، ولو ان وجودي هناك قد تسبب في بعض الحرج، لانه لم تجر عادة هيرودس ان يدعو السيدات الى مثل تلك الحفلات، ولكنه لم يستطع ان يوجه الي اية اساءة. فقد كان مقامي كضيفة بالقصر يمنعه من ذلك. وحضر الحفل جمهور من الاشراف والاغنياء، معظمهم من الاغريق وعدد قليل من اليهود الاثرياء.
والحق انه ليثيرني يا عزيزتي تصرفات اليهود حتى في مثل هذه الحفلات الرسمية. فقد كانوا منعزلين لا يشاركوننا في الحديث في كثير من الاحيان، ولا في الطعام. وملت على واحد منهم كان يجلس بجواري، وقلت له “لماذا لا تشترك معنا في تناول الطعام؟”. فاجابني “انه ليست في عادتنا ان نأكل مع اناس يخالفوننا في العقيدة؟”. ومع اننا على النقيض من جهلة اليهود، اذ نود ان نزيد اصدقاءنا ونختلط بالاخرين، الا اننا نخشى من ثورة الشعب.
لا ارى ان هذا النفاق الاجتماعي يختلف كثيرا عما نراه في بلادنا وخاصة بين الطبقة المثقفة. فانت ترينهم يذهبون الى الهياكل مقدمين القرابين للآلهة، مشاركين الشعب في معتقداتهم في الظاهر فقط، وهم لا يؤمنون باى كلمة مما يتلوها الكاهن. انهم يخشون المجتمع الذي يعيشون فيه، ومع ذلك فاني أرى انه خلف هذه المطاهر التي اراها نختفي العقيدة الاساسية التي لم يتطرق اليها الفساد، وهو ان اله اليهود هو الإله الاوحد لذلك يميزهم عن باقي الشعوب ويمنعهم من الاختلاط بغيرهم.
على انه من الامور التي تحير الانسان هو ان ولاية اليهودية لا تجمع اليهود كلهم في نطاق واحد. فهي ليست سوى مركز لجميع اليهود المشتتين في كل العالم. ان اليهود يا صديقي كالسرطا ينتشرون في جسم الامبراطورية الرومانية ويحتفظون بعاداتهم وهويتهم. فلا يتطرق الظن لك اننا حطنا اليهودية في العالم بتحطيم اليهود في اورشليم. ان اليهود يستغلوننا باكثر مما نستغلهم نحن.
ولأرجع الآن الى الحديث عن الحفل.
كان الطعام جيدا. وكان مكاني الى جوار هيرودس الذي بذل ما بوسعه لارضائي. كنا نستند على ارائك من الحرير وكانت الارض مفروشة بالورود ولو انها كانت ورودا ذابلة. وشكرته على الخمر الجيدة التي قدمها الينا.. لكنه يبدو انه كلما ازداد في الشراب فقد سيطرته على نفسه.. بلغ الهرج ذروته بحضور الراقصات. كان عددهن اثنى عشر تتقدمهن سالومى، وقد شغف بها هيرودس، وطلب منها اعادة الرقصة مرارا ولاحظت ان شعوره قد تغير نحو الصبية الراقصة وفهمت اذ ذاك سبب ثورته وضيقه من لوسيوس وهو يتحدث معها، واعاد هيرودس الطلب من الفتاة وهي تبدي دلالها، وفي سورة من سورات السكر قال لها انه على استعداد ان يهبها ولو نصف المملكة. واية مملكة يملكها هذا الاحمق؟ انها لا تزيد عن ولاية من اربع ولايات مستعبدة!! ولكن الفتاة غمزت بعينيها وقالت: “وما حاجتي الى الممالك. اريد الآن رأس يوحنا على طبق، لكي نكمل الاطعمة على المائدة”. وظننت ان المسألة لا تزيد عن كونها نكتة او مداعبة لطيفة، يضحك لها الحاضرون. ولشدة دهشتي رأيت هيرودس كان يقصد ما يقول حينما وعدها انه سيقدم لها ما تطلبه. فقد خيّم الوجوم عليه وعلى الحاضرين، واحمرّ وجهه في غضب شديد. ورأيته يتوسل اليها ان تطلب اي طلب اخر. ولكنها كالضفدعة العنيدة اصرت على طلبها. وهمستّ انا في غيظ وقلت له في اذنهيرودس: ان الذي يشفيها هو صفعة على وجهها، وارسالها الى حجرتها! ولكن هيرودس كان قد ثمل فلم يسمع كلمة مما قلت. ولو كان رجل اخر في هذا الموقف لتصرف باكثر حكمة. ولكن هيرودس الضعيف اراد ان يبرهن امام الحضور انه يحفظ وعده، فاعطى الامر للجلاد ان يأتي برأس يوحنا المعمدان الى الفتاة. كا صوته مختنقا ولاحظت دمعتين تفران على وجهه الحانق. وبعد نصف ساعة عاد الجلاد بطبق من الفضة وعليه رأس بشعر كثيف، وشعر لحيته كثيف ايضا، وكأنها رأس حيوان من مكان جزار! واغمى على ضيفين من الرومان ولكن هيرودس كان قد تثقل من الخمر، وراح يغط في نومه، وخرجت الفتاة فرحة وهي تحمل الرأس الى امها.
وهكذا انتهت حياة المعمدان، ولكن لا اعتقد ان المتاعب قد وصلت الى نهايتها. فقد ترددت بعد موته شائعات بأن نبيا قد ظهر بالجليل، وبدأ يجتذب اهتمام الناس، وان الجموع التفّت حوله، وان يوحنا نفسه قد تنبأ عنه قبل ان تقطع أسه. ولست ادري الى اي حال تتطور الامور. فانت تعلمين ان اي اضطراب ينتقل صداه الى روما. اخشى على مركز عمي بيلاطس بسبب هذه الامور..
سأوافيك بكل ما سيحدث..
وداعا والى اللقاء في الرسالة القادمة.
بنت عمك المخلصة – لافينيا

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s