الرسالة الخامسة
(بعد مرور ثمانية اسابيع)
عزيزتي بورشيا
انقضى شهران منذ ارسلت اليك خطابي اﻻخير. على كل كنت في شغل عن الكتابة، طيلة هذه المدة، لوجود فيولينا زوجة مرقس اوفيدس معنا. لقد اعتدت على احتمال طباع مرقس نفسه، ويبدو لي انه عجوز طيب القلب. ولكن زوجته.. آه من هذه المرأة! لكأن بها تعتقد ان العالم كله خلق لراحته وسعادتها. ولقد ازدادت مشاغباتها في اﻻيام اﻻخيرة، بصورة ﻻ تحتمل، بسبب اضطرارنا للبقاء في اورشليم. انها تقول انتم تقصدون مضايقتي ببقائي هنا. ولك من منا يريد ان يمكث يوما واحدا في هذه البلاد البربرية! ان الحرارة تزداد يوما بعد يوم. والرائحة الكريهة تتصاعد من اﻻحياء الشعبية. والمنزل هنا غير مصمم للاقامة المستديمة، فالحمامات على الطراز القديم، والحديقة صغيرة. اما السبب في بقائنا في اورشليم وعدم عودتنا الى قيصرية حيث وسائل الراحة الكافية ونسيم البحر المنعش، فهو انه قد حدث اضطراب في المدينة، منذ اعدم النبي الذي اخبرتك عنه في الرسالة الماضية، والذي يلقبونه بالمسيح!
اعود فاقول ان اضطرابا حدث واني اتعجب ان القصة لم تنته بصلبه.
لقد عاد تلاميذه واشاعوا انه قام من اﻻموات وانهم راوه باعينهم وتحدثوا اليه، انه جنون وﻻ شك! وبينما كنت اتناول طعام الغداء قلت لعمي “لماذا ﻻ تأمر ثلة من الجند، فتذهب وتفتح القبر وتخرج الجثة امام عيون الجميع، وتقضي على تلك الخرافة الباطلة”. ولكن عمي عبس في وجهي على غير عادته، واجاب بحدة “ﻻ اريد اثارة هذه الموضوعات يا ﻻفينيا، فأنت تعرفين ان قيافا اكثر اهتماما ﻻظهار خداع الرجل. وقد اتخذ كل اﻻحتياطات الممكنة – فوضع حجرا كبيرا على باب القبر، وختمه بخاتم الدولة واقام حراسا حول القبر. ولكن من الغريب ان جماعة من الجند توجهت الى القبر في صباح اليوم الثالث، واذا بباب القبر مفتوح والجثة ليست هناك”.
وفغرنا افواهنا في دهشة، وجلسنا صامتين نتطلع الى عمي. بينما استمر هو يقول “بلا شك ان تلاميذه سرقوا جثمانه، ولسوء حظنا ﻻ ندري اين اخفوه..”.
عزيزتي، هذه هي مشكلتنا في وقتنا الحاضر. لقد كنا نظن ان اﻻمر انتهى بموت هذا الرجل، ولكن ها نحن نرى مجموعة من الرجال يثيرون اضطرابا وبلبلة بين الشعب، وانقسم الناس تبعا لذلك الى فريقين – فريق منها الى تلاميذ الرجل، بينما صدق الفريق اﻻخر ما قاله الكهنة. ولقد كان عمي محقا في تاييده للاغلبية وانحيازه للكهنة في قولهم بأن تلاميذ الرجل سرقوا جسده من القبر. وهذا هو الحل الوحيد للخروج من هذه المشكلة. ولكن بقيت هناك بعض اﻻسئلة التي تحتاج الى جواب. فالقبر في حديقة عامة بجوار طريق عام يكثر مرور المسافرين به، واعتقد ان السرقة من هذا المكان ليست سهلة. وكيف يمكن لمجموعة ان تذهب الى القبر وتفض اﻻختام ويسرقون جسد ميت دون ان يراهم انسان! وهناك ايضا الحراس، فكيف يمكن لتلاميذه ان يسرقوا الجسد والقبر تحت الحراسة! ثم لماذا تركوا اﻻكفان ملفوفة كما هي وموضوعة في مكانها؟ وما السر في اخذ الجسد عار؟ يوجد امر اخر ﻻ استطيع ان استوعبه بالمرة، وسأعرض له بشئ من التفصيل، ففي ثان يوم لحادثة صلب هذا اﻻنسان، كنت في ضيق نفسي قاس، لم ادرك سببه، حتى انني ثرت في وجه لوسيوس لسبب تافه وابتدرته بكلمات عنيفة. ولم اجد لي مخرجا من هذا الضيق اﻻ بالقيام بجولة في ربوع المدينة.
ولم يكن ذلك التصرف تهورا مني. فقد كان اليوم سبت، لذا كانت الشوارع خالية تقريبا. كما ان زلزلة اليوم السابق دفع الناس الى المكوث في بيوتهم. ولم استطع ان اطلب الى لوسيوس بالخروج معي، فطلبت من خادمتي ان تجهز ما يلزم لمثل هذه الرحلة القصيرة، فاقترحت عليّ ان اضع على كتفي معطفا اسود من ملابسها الوطنية حتى ﻻ يلتفت اليّ احد. وقد وافقت على اقتراحها، ولست ادري كيف كان منظري. ولكنني كنت اشبه بامرأة يهودية هاربة من المدينة.. كانت اورشليم هادئة. ورأيت اثار الزلزال في البيوت الصغيرة التي تهدم بعضها، واصبحت اكواما من اﻻحجار، وقد جلس اصحابها امامها في صمت، ودهشت لذلك. فسألت مريم “لماذا ﻻ يبحثون عن ملابسهم واشياءهم الضائعة؟” فاجابت “اليوم سبت. ممنوع العمل”. واتجهت الى بوابة في الجانب الجنوبي متجنبين الخروج من الطرف الشمالي، حيث كانت حوادث اﻻمس، وتنفست الصعداء، وانا اتطلع الى اسوار المدينة. ولكنني حيث تلفتّ حولي وجدت مناظر البؤس والشقاء. فجانب البوابة كانت بركة سلوام وقد التفّ حولها العجزة والعميان والمجذومين بقروحهم الرهيبة والمفلوجين وغيرهم. وعندما مررنا بينهم مدوا ايديهم طالبين احسانا. واخبرتني مريم ان النبي الذي صلبوه بالامس شفى احدهم، وان هؤﻻء ينتظرون مجيئه مرة اخرى ليشفيهم جميعا، وحانت منى التفاتة مرة اخرى، فرأيتهم يتمتمون بكلمات غير واضحة، وكانهم يستجلبون انتقام السماء على اولئك اﻻثمة المجرمين الذين صلبوا رجاءهم.
وعندما دخلنا في سلسلة التلال التي تحيط بالمدينة، انحرف الطريق الذي كنا نسير فيه، وسط اشجار الزيتون والكروم، وشعرت بالضيق بسبب معطف مريم فألقيته اليها، ودار الطريق نصف دورة متجها الى الشمال، وفجأة رأيت رجلا تحت شجرة من اﻻشجار، وقد اسند رأسه على يديه. ولقد ظننته في بادئ اﻻمر نائما، ولكن حينما اقتربنا منه بادرني بالتحية “السلام لك يا مريم”. وارتبكت مريم قليلا، ونظرت اليه ثم اجابت بعد جهد “السلام لك يا سمعان”. وانحنت قليلا وهمست له “ان سيدتي ﻻفينيا تعرف اﻻرامية”. فبدا عليه الخوف، ولعله ظن انني اتيت من قبل بيلاطس، وفي حركة عصبية لمس جبهته وحيّاني بأدب – وظننته في بادئ اﻻمر متسولا. فالقيت اليه بقطعة فضية كانت معي. فاخذها وقال “اه ثلاثين قطعة فضية مثل هذه.. وبدا عليه الحزن البالغ ثم غطى وجهه بيديه”.
واستأنفنا المسير. وفي الطريق سألت مريم وقد كانت في ارتباك “تري من يكون هذا اﻻنسانن احد معارفك، ام واحد من اقاربك؟”.
وبع تردد اجابت “ﻻ هذا، وﻻ ذاك، انه واحد من اتباع النبي الذي صلبوه باﻻمس”.
عزيزتي بورشيا
نسيت ان اقول لك، ان الرجل كان في قمة الياس والحزن. كان يغطي رأسه بالرماد شأن اليهود في احزانهم، وكانت الدموع تنهمر من عينيه. كان قوي الجسم، مفتول العضلات، وكأنه فلاح آت من الحقل، او صياد سمك من بحر الجليل. وقلت في نفسي، لعل بقية تلاميذ ذلك المعلم، يشبهون هذا الرجل، وهل يمكن ان مجموعة مثل اولئك البسطاء يتجاسرون ويواجهون جنود اﻻمبراطورية ويعرضون انفسهم لطائلة العقاب في سبيل سرقة جسد ميت؟
ولقد رأيت نهاية هذه القصة منذ ايام قلائل. فقد كنت اتجول في المدينة، ولكن في تلك المرة مع صديقي لوسيوس، وقد كان خروجه لمهمة رسمية، للتفتيش على حامية عسكرية لمعسكر على بعد عشرة اميال من المدينة. كان اليوم صافيا والشمس ساطعة مع اننا خرجنا مبكرين. وبدأت المدينة تدب فيها الحركة والحياة، وقد اتى الفلاحون من القرى المحيطة بدوابهم المحملة بالقرب المنتفخة الممتلئة بالالبان، وهم يعلنون عنها بنداءات اقرب الى الغناء، وبرزت النساء من النوافذ لينفضن الغبار عن الطنافس والسجاجيد، بينما كان بعض الرجال يغطون في نوم عميق بجوار الجدران، وقد توسدوا احذيتهم وتدثروا بارديتهم. وكان يتبعنا في المسير خادم لوسيوس اليهودي، واثنان من الجند على ظهور الخيل، وكنا نرى الناس ينكمشون في زوايا الجدران اثناء مرورنا في الطرقات، وفجأة اعترض طريقنا جمع كبير يتكدس حول عتبة احد المنازل، ولم يبتعدوا رغم صياح لوسيوس فيهم. ولما تقدمنا منهم رأينا رجلا على درجات السلم، يلقي خطابا فيهم. ودهشت ﻻنه كان الرجل عينه الذي شاهدناه انا وخادمتي مريم في رحلتنا الاولى. ولكن اي تغيير قد طرأ عليه! لقد كان يبدو لي كئيبا بائسا حزينا حينما رأيناه اولا، ولكنه الآن يقف معتدل القامة مرفوع الرأس متدا بذاته وكأنه عضو في مجلس الشيوخ في روما، يلقي بخطاب هام على المجلس. لقد كنت اؤمن بما يعتقد به اليهود، من ان بعض اﻻرواح السابقة يتقمص اجساد اﻻحياء، ولعل روحا علويا قد حلّ في ذلك اﻻنسان فخلقه من جديد. حتى الآن لم اصغ الى ما قال، فقد بهرني منظره، ولكنني عدت الى نفسي شيئا فشيئا، واصغيت الى ما يقوله. لقد كان يتحدث باللاتينية، وكأنه مواطن من بلادنا، تلقى العلم في اعلى مدارسها. هل تتصورين هذا اﻻمر؟ ان الرجل لا يزيد عن كونه فلاح يهودي او صياد سمك جليلي ومريم اخبرتني انها تعرف عائلته المتوسطة الحال. فمن اين له معرفة باللغة اللاتينية وكيف تأتى له اتقانها؟ ثم التفت الى لوسيوس وسألته، هل تعتقد ان هذا الجمع يفهم ما يقوله هذا الرجل؟ فاجابني “بالطبع اعتقد ذلك، انظري كيف حولوا وجوههم اليه في انصات شديد..
وبعد برهة سرت موجة من التذمر بين الجمهور وما لبثوا ان صاحوا في وجهه مقاطعين، وكأنهم ﻻ يستحسنون ما قال. وتفرست في وجوه الجمهور. كانوا خليطا عجيبا. بعضهم من اليونانيين، والبعض من السوريين، والفرس والسكيثين. وكان منهم اثنان من جنود الرومان، والطلبة اليهود، وجميعهم بدا عليهم انهم يفهمون ما قيل.
ولم يستغرق خطاب الرجل وقتا طويلا – بضع دقائق على وجه التقريب، وتبعه اخرون، وتركناهم، فقد كانوا يتناقشون في بعض الامور من ديانتهم الغريبة. وفي الطريق سألت لوسيوس “هل تعتقد ان كل الجمهور الذي كان واقفا يصغي الى ذلك ، يعرف اللاتينية؟” اجابني “لست ادري، فاني اراهم خليطا من امم متعددة، والذي يثير اﻻنتباه ان اثنين من اليونانيين سمعتهما يتحاوران. قال اﻻول “لقد كان يتكلم بلغة اهل تراقيا بلهجة مدهشة”. فاجابه اﻻخر “كيف هذا وهو يتكلم اﻻخائية؟ انك ﻻ تعرف انه قضى في مقاطعة اخائية جل حياته بحيث يبدو في حديثه كواحد منهم!”. وهتف فيه بانفعال “لوسيوس! ما هذا؟ لغة تراقيا! ولغة اخائية ؟ لقد كان الرجل يتكلم اللاتينية؟ ولعلك سمعت طرفا من حيثه؟”. فرد علىّ معتذرا “اوه يا عزيزتي. اتمنى ان طول بقائي في هذه البلدة المجنونة ق اثر على عقلي. وعلى كل حال، لندع الخادم اليهودي ونسأله عن اللغة التي يتكلم بها الرجل. ولنسمع منه ماذا فهم من خطابه”. .. وجاء الخادم اليهودي وألقى عليه لوسيوس السؤال، فبدا اﻻرتباك على وجهه، وابتسم ابتسامة خفيفة وكأنه يعتقد ان مسا من الجنون قد اصابنا. ثم احنى وجهه الى اسفل وتظاهر بانه ينادي الجواد. ولما كررنا عليه السؤال اجاب “ماذا يا سيدي؟ ان الرجل يتكلم اﻻرامية لغة الشعب، وسيادتكم تعرف هذه اللغة”. وصمت الخادم قليلا وكأنه خشى ان يثير غضب سيده فقال معتذرا “ما اغباني، لعلك يا سيدي تقصد اللهجة، ان الرجل من الجليل. ولذلك فلغته اﻻرامية تتضح فيها لهجة الجليليين. انا متأسف يا سيدي..” ثم انسحب في خجل، اقول لك يا اختي، انني اكاد اجن حينما اذكر تلك الحادثة، وﻻ افهم كيف ان كل واحد منا كان يسمع ذلك المتكلم الواحد يتحدث في لغته الخاصة بنفس الكلام وبنفس اللحظة!
ليس هذا كل ما عندي لاقوله لك، فقد نسيت ان اخبرك بموضوع حديث ذلك الرجل، فقد كان الرجل يتحدث عن قيامة النبي الذي اشرت اليه في البداية. ولما سألت لوسيوس عن رأيه في الموضوع قال لي باستخفاف “انها شائعات يا عزيزتي.. شائعات اخشى ان تسبب لنا المتاعب، فمن المنطقي ان اتباع ذلك الرجل سرقوا جسده كما يقول عمك. ومهما كان الرجل صالحا، فلم يحدث من قبل ان انسانا قام من الموت”. ولكن هذه الشائعات اتخذت مظهرا خطيرا. واتباع الرجل خرجوا من الجحور، وهم ينادون في كل مناسبة انه قام وانهم تحدثوا معه. واهدوه باعينهم ولمسوه بايديهم. وحينما وصلنا الى ذلك الجمع كان الرجل يقول ان ذلك المدعو بالمسيح اقامه الله، وانه يشهد بصحة ذلك، وحينما ثار البعض في وجهه معترضين بانهم سكارى اجابهم بان ما يشاهدونه ليس من الخمر بل من حلول الروح القدس عليهم. اما ذلك الروح القدس فلست ادري من هو. لعله احد اﻻرواح الشريرة التي تسيطر على عقولهم. ولم اتمالك نفسي من اﻻمتعاض بسبب جملته الاخيرة. فلو كان ذلك الذي يسيطر عليهم روحا شريرة، لما استطاعوا ان ينطقوا بكلمات صالحة. اما عن قول البعض انهم كانوا سكارى فكيف يستطيع اﻻنسان الثمل ان ينطق بكلمات الصحو والتعقل.
عزيزتي بورشيا، اخبريني بصراحة ان كنت تتضايقين من مثل هذه اﻻخبار، فاكف عن هذه اﻻحاديث. انني اعاصر هذه الظروف المزعجة التي اثرت كثيرا على صحتي. ولو اتيح لك مشاهدتي اﻻن، لرايت عوضا عن الفتاة المرحة الطروب، التي عرفتها في روما، سيدة ارهقتها المتاعب، وتجد بعض السلوى في رحلات لوسيوس واحاديثه.
اختك المحبة