اسطورة ميداس:
كنت انزل الى الطابق السفلي وادخل غرفة الذهب، ثم اغلق الباب خلفي وافتح صناديق الذهب واحمل ذلك المعدن النفيس الى ركن قصي تدخل من ثقب صغير فيه شعاعة صغيرة من الشمس فتتوهج تلك القطع الذهبية كما لو كانت لهيبا مشتعلا. وكنت املي العين بهذا المنظر الباهر كما كنت امر بيدي اتحسس ذلك المعدن الجميل وكنت اظل افعل ذلك حتى تحتجب شعاعة الشمس من المكان ويشتد الظلام!
ولقد عشت في تلك الغرفة التي تشبه اردأ السجون، فقد كانت شديدة الظلام. كل شئ فيها مقبض، ليس فيها اثر للحياة. اقول عشت في المكان لاني كنت اقضي اكثر وقتي فيه ، وبقية الوقت كنت ارسل فكري فيه. كان قلبي هناك لانه كان هناك كنزي. كنت بعد تناول طعام الافطار مع ابنتي انزل الى البدروم واتلفت هنا وهناك لاتاكد من ان احدا لا يراني ثم ادلف الى الغرفة واسرع باغلاق المزلاج خلفي. واسحب صندوق الذهب الى الركن المعهود وامد يدي واملاهما بحفنة من القطع الذهية واتركها تتسرب من بين اصابعي فتنزل في الصندوق كانها الشرر اذ كانت شعاعة الضوء تمر بها فتحيلها شعلات مضيئة.
وكنت احس باعظم سعادة وانا املا عيني منها. ما اسعدني بها. كانت شعاعة النور جميلة لا في ذاتها لكن بسبب ما تضفيه من الضوء على قطع الذهب. كم احببتها! وكانت اشجى موسيقى سمعتها اذناي هي رنين تلك القطع الذهبية وهي تتساقط الواحدة على الاخرى. كنت اقضي امام كنوزي ساعات لا امل النظر اليها، ولا امل تحسسي لها وجمعها كتلا كتلا وتفريغها قطعة قطعة .. كنت كالطفل الصغير ابنيها بيوتا ثم اهدمها. واخيرا بعد ان اشبع منها وبعد ان تشبع عيناي ويداي اعيدها الى صناديقها واغلق عليها. ثم اتنهد وانا اقول: ميداس – ميداس.. يا ميداس الغني ما اسعدك!
على ان كنت احس بالرغم من هذه السعادة اني لست سعيدا بالكفاية . نعم اني املك الذهب الكثير ولكن هذا الذهب كان اقل من ان يملا اشواقي. كلا لن اكون سعيدا الا اذا ملكت ذهبا اكثر الا اذا تحول العالم كله الى قطعة هائلة من الذهب!
***
وحدث في احد الايام بينما كنت اغترف قطع الذهب واسقطها من بين اصابعي لاتملى بجمالها في ضوء الشعاعة الصغيرة واستمتع برنينها حدث اني لاحظت ظلا على الشعاعة ورفعت عيناي فابصرت في وسط الشعاعة شبح انسان.
هل كان انسانا حقا ام خيل الي انه انسان؟ هذا ما ساور فكري في اول الامر، ولئن كان انسانا فكيف دخل الى الغرفة المغلقة؟
لم اشعر بشئ من القلق لان الشبح كان يحمل صورة انسان يحمل طابع الود. كان وجهه جميلا وقد بانت ابتسامة حلوة على فمه. علمت انه رسول من العالم الروحي، ولكنه رسول يحمل لي خيرا لا شرا. ان وجهه ينم عن الطيبة، وابتسامته تنبئ عن خير!
وقف ذلك الانسان امامي وكأنه شعلة من النور، والتفت الى كل جوانب الغرفة وابصر اكوام الذهب التي لمعت في ضوء وجهه، ثم نظر اليّ باسما وقال:
انك رجل غني حقا ايها الصديق ميداس. لست اظن ان احدا في كل العالم يملك ما تملك، او ان كنزا في كل المسكونة يضم ما تضمه هذه الغرفة من اكوام الذهب!!
فقلت له دون ان يبدو عليّ اندهاش كيف عرفت اسمي؟ اعتقد اني حصلت على مقدار من الذهب لا بأس به.
ثم اردفت، وقد بان اثر عدم الاكتفاء على وجهي: ان ما حصلت عليه يعتبر قليلا اذا عرفت اني قضيت عمري كله في جمعه. لن اعتبر نفسي غنيا الا اذا اعطيت ان احيا الف سنة لاجمع ما يستحق ان يدعى غنى!!
وهتف الرجل: ماذا تقول؟ هل انت غير مكتف بما عندك؟
وهززت راسي وانا اقول: “كلا”
وسالني الغريب:
هل قلت لي ماذا يمكن ان يكفيك. اسال فقط لنوع من الفضول.
سمعت سؤال الغريب فاهتز كل كياني. انه ليس شخصا عاديا. وسؤاله ينبئ عن نية طيبة واستعداد مقترن بسلطان. وكان السؤال مفاجئا. لم اكن مستعدا للجواب. ماذا يكفيني؟ فكرت ان يكون لي جبل من الذهب. ولكني احسسن ان الجبل اقل من ان يملا قلبي، جعلت اكوم جبلا على جبل حتى جمعت عددا كبيرا من الجبال . ولكنني ظللت ارى هذه الجبال اقل من ان تشبع نفسي . شعرت انني اطلب شئ اكبر. ترى ما الذي يكفيني؟
طال صمتي، والرجل الغريب ينظر اليّ مترقبا، كان وجهي مقطبا والانفعالات تتوارد على وجهي، على اني بدات الين، واظهر ابتسامة على شفتي. نعم فقد توصلت الى الاجابة. عرفت ما الذي يكفيني!!
رفعت راسي ونظرت الى وجه الغريب المتالق نظرة المستعد للكلام. فقال لي:
حسنا، ايها الصديق، يبدو انك وصلت اخيرا الى بغيتك.. الى ما سيجعلك مكتفيا. هيا، قلي ما تريد!
فقلت: اني اريد.. اريد شئ بسيط. لقد تعبت من جمع كنوزي وما لقيته من عناء. فانني بعد بذل كل جهودي رى ان ما حصلت عليه قليل بالنسبة لما تكبدته من مشقة، فلو اعطيت لي القدرة على تحويل اي شئ المسه الى ذهب فاني اذ ذاك ساكون مكتفيا!
اتسعت ابتسامة الغريب حتى خلت انها ملات الغرفة. قال: انت تطلب اذن اللمسة الذهبية، انك خليق بالاعجاب ايها الصديق. ان ما اردته هو فعلا “ضربة معلم”!! ولكن هل انت متاكد ان هذا سيشبع قلبك؟ فاجبت: وهل في هذا شك؟ فقال الغريب: وهل انت متاكد من انك لن تندم؟ فقلت اندم؟ اندم؟ لابد انني ساكون مجنونا حينها! كلا، كلا. اعطني طلبتي هذه وساكون كامل السعادة.
وطوح الغريب يديه مودعا وهو يقول: ليكن لك ما طلبت غدا. لحظة شروق الشمس ستكتشف انك حصلت على اللمسة الذهبية.
ابرت الغريب، واذ هو شعلة من النور فبهرني الضوء واضطررت ان اضع يدي على وجهي. ولما رفعت يدي لم ابصر الا شعاع النور من الثقب المعهود.. اختفى الغريب.
ترى هل كنت احلم، ام اني كنت ارى شيئا حقيقيا؟
هل جاءني هذا الغريب من السماء؟ .. هل ساحصل على اللمسة السحرية؟.. هل ساحول كل شئ الى ذهب؟
لم استطع ان انام. ولعلني نمت دون ان ادري تلك الليلة.
جاء الصباح بعد ليل طويل!
مددت يدي الى قائم المقعد الذي جلست عليه ممتحنا اقوال الغريب، ولكن المقعد ظل كما هو، كم كان حزني طاغيا! ضاعت امالي! تبخرت كاحلام الليل!
حاولت ان اقنع نفسي ان عندي ما يكفيني.. ولكنني احسست اي تعيس.. على اني تذكرت ان كلمات الغريب كانت ان اللمسة الذهبية ستجئ مع شعاعة الشمس الاولى لا قبل ذلك!
هدات نفسي وجلست انتظر.
ودخلت الشعاعة الاولى من النافذة. دخلت اشبه بقضيب من الذهب، وهنا مددت يدى الى عمود السرير الذي كنت جالسا بجواره. لم استطع ان احتفظ بوقاري عندما ابصرت النتيجة. لقد تحول العمود الى قضيب كبير من الذهب. صرخت صرخة عظيمة. ذهب. ذهب. وثبت من مكاني وجعلت ادور في الغرفة وانا امر بيدي على كل ما يقع عليه بصري. كان الكتاب الذي اقراه على المكتب القريب مني. مددت يدي اليه فتحول في الحال الى كتاب من ذهب. وتحولت اوراقه الى صفائح رقيقة من الذهب. اختفت الكتابة بالطبع. ما عدت انتفع من العلوم التي يحويها. لكن ماذا يهمني من ذلك. اليس كل ما نسعى اليه من حكمة وعلم هو مجرد وسيلة للحصول على الذهب؟
اسرعت البس ثيابي. لم انتبه في اول الامر الى التغيير، لكني لاحظت ان الثياب مع انها كانت لا تزال تحتفظ بليونتها صارت ثيابا من ذهب ثقيلة بالطبع! اثقل من الثياب العادية! امسكت بمنديل كان عزيزا عليّ..
(يستكمل)