رسائل من فجر المسيحية #٦

مضت سنوات ست على الرسالة السابقة، وفي تلك الفترة حدثت تطورات كثيرة في حياة ﻻفينيا اذ تزوجت من لوسيوس واستمرت تعيش في قيصرية في بيت الحاكم.. ولم تتحسن اﻻحوال السياسية في اليهودية. اما من جهة المسيحيين فان عددهم كان كل يوم في اضطراد، اﻻ ان السلطات لم تكن ترى فيهم اﻻ هيئة دينية منحرفة من فرق اليهودية. ولقد كان يميزهم حرصهم على اتباع وصايا الناموس بكل امانة، وحياتهم الهادئة – في ممارسة العبادة. وكانت المجامع هي اﻻماكن التي يجتمعون فيها مع غيرهم من اليهود، مما جعل معظم اليهود يغضون الطرف عنهم، ويتغاضون عن اعتناقهم الدين الجديد. اما السلطات الرومانية فلم ترى فيهم عنصرا مشاغبا كبقية اليهود. اذ كانت تعاليمهم تبعدهم عن مجال التحرشات السياسية والقلاقل العنصرية، ولذلك فقد عاشوا في انزواء، وكان هذا لازما كل لزوم للدين الجديد الوليد.
وفي عام 35م حدثت حادثة صغيرة، فقد قامت جماعة من السامرة بالبحث والتنقيب في اوان فخارية اكتشفت في جبل جرزيم، قيل انها ترجع في تاريخها الى عهد موسى. وظن بيلاطس ان في اﻻمر تجمعا سياسيا فأرسل جنوده وذبح بعض العلماء. فتقدم السامريون بشكوى الى طيباريوس قيصر، فاصدر امره باستدعائه الى روما للتحقيق معه عام 36م، ومع ذلك فقد مات طيباريوس قبل ان يصل الى هناك.

عزيزتي بورشيا،
سيكون هذا الخطاب مفاجأة لك، فقد غادر بيلاطس فلسطين، كما تعلمين، وبقيت انا وزوجي لوسيوس وحيدين. ولقد وصلت تعليمات من قيصر بأن

يتولى لوسيوس مكانه حتى يصل الوالى الجديد. انه ﻻمر محزن يجعلني اكاد ابكي. اما عن مركز لوسيوس الجديد، فهو امر ﻻ يحسد عليه. ان عليه ان يتحمل كل مسئوليات الوالي، بدون ان يكون له حتى لقب الوالي. زيادة على ذلك انت تعرفين خبث الشعب اليهودي، وشعورهم بان لوسيوس نائب الوالي سوف يقلل من احترامهم له، ويدفعهم للبحث عن ثغرات قانونية ينفذون منها لخلق المشاكل له، والتهرب من العقاب، والتمرد على احكامه، وتأليب قيصر عليه. انت تعرفين انه منذ استعراض الكتائب الرومانية والشعب كله ناقم علينا. والهوة تزداد كل يوم بين دار الوﻻية ومجلس السنهدريم.
اخشى ان عمي المسكين لن يستطيع ان يدافع عن نفسه امام قيصر. فانت تعرفين ان اﻻخبار تصل مشوهة الى القيصر. اما عن مذبحة جرزيم، فمع اني ﻻ ابرئه من المسؤلية، اﻻ اني اقول ان المسؤول اﻻول هو القائد القليل الخبرة الذي ارسله عمي الى هناك. وكانت اﻻوامر له ان يحفظ السلام. ويبدو ان الظروف اضطرته الى تصرفه اﻻحمق هذا الذي جلب الينا المتاعب.
كم اكره متاعب السياسة وتقلباتها! لقد اضطررنا للعوة الى اورشليم حيث اعيش انا ولوسيوس شبه سجينين في دار الوﻻية، وماذا سأفعل غير هذا؟ اننا ﻻ نستطيع ان نبقى في قيصرية ونترك عاصمة البلاد حيث تتكدس اﻻحزاب السياسية اليهودية المتنافرة. صحيح ان بعض هذه اﻻحزاب يساندنا لكن الاغلبية تناصبنا العداء وخصوصا طائفة الغيورين.
اني اتسلى في وقت فراغي بزراعة الورود، وقد استحضرت انواعا نادرة من الزنابق من سورية وكبادوكية. ولما عرف الناس عني هذه الهواية، تزاحموا على الدار يحمل كل منهم ما جمعه من الزنابق الجبلية. وكل يوم يطرق باب الدار جماعات من البدو يحملون لي ما يريدون بيعه. واجد سلوتي ايضا في ولدي بروتس، انه يبلغ اﻻن الخامسة، اما طفلتي كولوديا فبالكاد نصفت سن الرضاعة – انهما كل شئ في حياتي.
ومن اﻻمور التي تثير الدهشة هنا ظهور طائفة جديدة تطلق على نفسها المسيحية. لقد اتخذت لها هذا اللقب من اسم منشئها الذي صلب من ست سنوات. لقد ظننا حينذاك ان امره انتهى بموته. ومع ان اﻻمر بدا بحفنة من اتباعه فأنهم في هذه الفترة القصيرة تكاثروا حتى اصبحوا يعدوا باﻻلوف. ولقد كان كل شئ على ما يرام، لكن من تسعة اشهر بدأ نزاع مع السلطات اليهودية الدينية. فهناك شاب من يهود اﻻسكندرية يدعى استفانوس، وقد اعتنق معتقداتهم وظن انه يستطيع بقوة منطقه وحججه ان يقنع السلطات الرسمية في اورشليم ويستميلها الى جانبه. لقد كان اتباع المسيح الى هذه اللحظة من الجليليين الذين يهتمون بنشر دعوة معلمهم في ربوع الجليل ويتحاشون اﻻصطدام بالسلطة الدينية. ولكن يبدو ان انتشار هذه الدعوة في كل مكان قد فرض عليهم ذلك. قصارى القول ان ذلك الشاب بعقله المتسع وفكره المثقف، نجح الى حد كبير في نشر معتقده بين يهود الشتات مما اثار كهنة اليهود. وقد كان ممكنا ان تمر العاصفة بسلام ، لوﻻ ان اﻻشاعات تواترت انه يهين الناموس وينادي بان بعض اجزائه استبدل بشريعة اسمى، هي شريعة المسيح. وقد استغل الكهنة هذه الفرصة وبدأوا يشنون حربا شعواء على الطائفة الجديدة، في وسط هذه البلبلة قبضوا عليه.
لقد سمعت هذه اﻻخبار من قيافا اثناء احدى زيارته لدار الوﻻية، ومع انه اقصى عن رئاسة الكهنة وحل محله يوناثان منذ عامين، اﻻ انه منذ ذلك الحين لم يكف عن قدومه الى هنا. ولقد تعرفت على رئيس الكهنة الجديد اثناء محاكمة المسيح.. انها صفقة غريبة تحدث في تلك العائلة التي يتوارث افرادها رئاسة الكهنوت وعلى رأسهم حنّان، ومع انه يعيش الآن في عزلة عن المجتمع، اﻻ انه يدير من وراء الستار، كل صغيرة وكبيرة، من امور الكهنوت، انه يحرك باصابعه اليابسة اوﻻده واصهاره، حتى صهره قيافا نفسه وهو اكثرهم خبثا.
وقد راجت اشاعات عن قيافا، انه كان اباحيا مستهترا في الفترة التي قضاها في روما، لكن مظهره ﻻ يعكس ذلك.. اليوم، كنت اداعب اطفالي في حديقة منزلنا، حينما رأيته قادما، كان متجهم الوجه، ولو انه حاول اﻻ يظهر ذلك. وحياني قائلا: “ما الطفك يا عزيزتي ﻻفينيا! لاشد ما تذكرينني بقول ارسطوطاليس “هيا بنا الى حديقة الورود، نضيع الساعات المرحة في الرقص”. سرنا معا في الحديقة وحينما كنت احادثه في المعتقدات اليهودية، كان يقهقه ضاحكا ويهز كتفيه في استخفاف. ولكنني انتهزت الفرصة وقلت له “يا للغرابة.. ان حياتك تبدو مليئة بالمتناقضات”. فقطب ما بين حاجبيه وقال “ولماذا يا سيدتي؟”. واجبته في تحد “اﻻ تذكر ما حدث منذ ست سنوات، حينما وقفت هنا في بلاط الدار، حيث كان يحاكم ذلك الجليلي المدعو يسوع؟.. اراك تريد ان توهمني اﻻن انك غير متزمت في تمسكك بتقاليد دينك”. فخبط قيافا جنبه بحركة مسرحية واصطنع اﻻبتسام وقال “ولكنك تعرفين يا عزيزتي انني غير مسؤول عن صلب هذا الشاب المضلل، والمسؤول اﻻول هو غمك الذي فقد اعصابه مثلما حدث فيما بعد في جرزيم. ومع ذلك، هذه ارادة الله، وارادته هي اﻻفضل. وقد سبق وابديت رأيي امام السنهدريم انه خير ان يموت واحد وﻻ تهلك امة باكملها. اما عنه فاني اقول انه كان رجلا طيبا لوﻻ تعاليمه التي كادت تسبب كارثة. على ان العاصفة لم تمر بسلام”. “ولماذا؟”. “بسبب هذا الشاب الذي قبض عليه منذ ايام. استفانوس. انه فيلسوف متحرر الفكر ولكن ماذا نفعل ازائه ان كان ينادي بنقض الناموس. ان الناموس هو اللجام الذي يكبح شعب عنيد. ماذا يفعل الجواد اذا لم نلجمه؟ انه سيجمح وستنتشر الجرائم وستكون متاعب جمة لصديقنا لوسيوس. اﻻ ترين انه من الحكمة ان نئد تلك الظواهر في مهدها؟”.
واستفسرت من لوسيوس عما سيفعل. فقال لي ان استفانوس سوف يحاكم امام السنهدريم خلال ايام. ثم اضاف “ولكني في حيرة من امري، فقد اخذني هؤﻻء اليهود الخبثاء على غرة. لقد اعلنوا امام الجميع بانهم سيقومون بمحاكمة الرجل، وهذا كما تعلمين ليس في سلطانهم، وفي نفس الوقت طلبوا مني ان احضر المحاكمة، انهم يريدون ان يسبغوا عليها صفة القانونية. كان امامي طريقان: اما ان ارفض وارفع تقريرا بالحادث للجهات العليا، او اتجاهل اﻻمر، وادعهم يستمرون في مؤامراتهم. ولكن رأيت ان الحل اﻻخير هو اﻻكثر صوابا.
واحسست بشعور غريب يدفعني ان ارى الرجل اﻻسير، وان احضر محاكمته. فافضيت برغبتي الى لوسيوس، ولكنه اعترض قائلا ان الشعب لن يسمح بان تحضر سيدة مثل هذه المحاكمة, فقلت له استطيع ان اراقب المحاكمة من غرفة مجاورة، كما انهم لن يرفضوا طلبا لكن خوفا من ان تتمسك بحقك في محاكمة الرجل.
ولقد كان اﻻمر كما توقعت، وكان رئيس الكهنة متلهفا على ارضاء لوسيوس بكل وسيلة، فوافق على ان يدبر لي فرصة حضور المحاكمة، والشئ الوحي الذي طلبه بالمقابل هو ان اسمح ان يشاركني المقصورة شاب من الغيورين يريد ان يشفي غليله برؤية مصرع الرجل. ولم يعترض زوجي على ذلك. وفي صباح اليوم الموعود عرفت زميلي في المقصورة. انه شاب يدعى شاول ، جامد الملامح، ثاقب البصر. نسيت كل شئ عن الرجل حين تطلعت لأرى الحرس يقتادون الشاب اﻻسير. كان يبدو ضخم الجثة قوى الملامح، لوحته الشمس، وفي مشيته بدى هادئا واثقا بنفسه.
وجال اﻻسير ببصره، يتفحص وجوه الحاضرين. كان عملاقا بالنسبة لرجال المجلس، ذوى الوجوه السمراء والعيون الغائرة واللحى الكثة.
ولقد كنت اتوقع من البداية انه لن تكون هناك محاكمة ﻻن الحكم مدبر من قبل ولكني لم اكن اتوقع مطلقا ان اﻻية تنعكس ويصبح المتهم مدعيا ويوجه اتهامه بقوة الى المجلس، لقد بدا اﻻمر وكأنها مسرحية غريبة بطلها الكبير ذلك المتهم اﻻسير.
وفهمت من الدقائق اﻻولى لماذا اثار هذا الرجال غضب كهنة اليهود. وبدون تردد انطلق الاسير يشرح عقائد طائفته بصوت جهوري وكأنه احد اساتذة جامعة اثينا، واستمر خطابه اكثر من نصف ساعة، عرفت منها الديانة المسيحية والفرق بينها وبين اليهودية اكثر مما عرفت بطول مدة اقامتي في البلاد. وختم بكلمة ساخرة قائلا: “انتم ورثة المواعيد”. وكأنه يقول لهم “تخيلوا انتم اﻻردياء ورثة المواعيد اﻻلهية؟”. وارتسمت علامات الغضب على وجوه اعضاء المجلس. وتململوا في مقاعدهم وكانهم يجلسون على جمر. وتوقعت ان يخفف اﻻسير من حماسته، ويقف عند هذا الحد لكنه صرخ قائلا: “يا قساة الرقاب.. انتم دائما تقاومون الروح القدس. كما كان اباؤكم كذلك انتم”. ثم ذكّرهم بماضي اجدادهم الدموي. اذ قتلوا منهم من قتلوا، وبحاضرهم الملطخ بالدماء وقد بدا اردأ ختام بقتل “يسوع البار” الموعود به منذ القديم.
وبلغ سخطهم حين سمعوا كلمته اﻻخيرة وصاحوا جميعا مهددين. ولكن ﻻ ادري كيف استطاع ان يسكتهم لبضع لحظات اخرى، وفي وسط السكون تألق وجه الرجل بنور غريب ورفع عينيه الى فوق وهو يقول “ها انا ارى السموات مفتوحة وابن اﻻنسان قائما عن يمين الله”. وسمعت جلبة وضجت القاعة باصوات كفحيح اﻻفاعي وساد الصخب منتهاه، والتفت بجواري لارى رد فعل شاول فلم اجده، ورأيته قد سعى خلفهم بقفزة واحدة، ونظرت لعلى ارى لوسيوس، ولكنى لم اعثر له على اثر. فتملكني رعب بالغ جعلني اركض للحاق بالجمهور الثائر المندفع قرب بوابة المدينة، ولم تكن البوابة بعيدة باكثر من خمسين خطوة. ورأيت كل واحد منهم يخلع ملابسه ويضعها عند قدمي شاول. وحانت منى التفاتة الى المشهد فرايتهم يلقون حجارة كثيرة..
وﻻ ادري ماذا حدث بعد ذلك. فقد كان يغمى عليّ من هول المشهد. وفي اللحظة عينها رأيت شخصا يجذبني من ذراعي فاذا به لوسيوس. واخذني بعيدا عن المشهد الوحشي الرهيب، وهو يقول متذمرا “ﻻفينيا! هل انت مجنونة؟ هذا ليس مكانك”.
عزيزتي، اكاد اتصورك وانت يكاد يغشى عليك ايضا. ان اليهود كالذئاب تثيرهم رؤية الدماء. وﻻ اتوقع ان تنتهي المعركة مع اتباع المصلوب قريبا.
المخلصة – ﻻفينيا

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s