يوميات كاهن #٣

عن كتاب؛ مذكرات كاهن في الارياف للانبا يوحنا قلتة

مضى شهر والكاهن الشاب يحاول التاقلم مع حياة القرية، اعد سكنه بقدر المستطاع ، لكنه لم يستطع التخلص من “الكنبة” لانها عهدة. والامر الغريب انه حتى اليوم – وبعد اربعين سنة – لا يزال يحن الى النوم على هذه الكنبة، ويبدو ان علاقة حميمة تتاصل مع الزمن بين الاشياء والانسان، وجمع بضع كتب حملها معه من القاهرة، منها الكتاب المقدس طبعة اليسوعيين، وقد عشق عشقا هذه النسخة لانه اهديت له يوم سيامته كاهنا، وعشقه لها ليس لانها عمل عظيم لليسوعيين ولكنها لانها ترجمة عربية من اجمل ما كتب العالم “اليازجي” – انا قطعة من الادب والشعر واصالة اللغة العربية، واحتفظ بكتاب “الاقتداء بالمسيح”، لم يذكر مؤلف الكتاب اسمه تواضعا وزهدا، وهو انشودة روحية في كلمات بديعة، وهناك بضع كتب اخرى في الادب العربي يذكر منها ديوان ابي العلاء المعري، يذكر منها بضع ابيات خالدة، مثلا:
خفف الوطء فما اظن الاديم الارض الا من هذه الاجسام

الا يذكره هذا بقول الحكيم “باطل الاباطيل وقبض الريح”. ان الحياة في القرية غرست فيه نوعا من الزهد، فتعلم ان الاشياء ليست مصدرا للسعادة، فسرير من الذهب لا يجلب النوم، وتعلم من الفلاحين ان للسعادة مصدر هو فن الاستغناء او فن القناعة او ما يسميهالرهبان حياة النسك. .
مضى شهر وحان موعد “الاجتماع الشهري للكهنة” وهذا تقليد روحي يلتقي فيه الكهنة بالاسقف المسؤل ع الايبارشية.
استقل اتوبيسا يطلق عليه “سانت كروفت” ينقله الى “مطاي” المركز والحديث عن هذا الاتوبيس يحتاج الى صفحات، فهو ليس اتوبيسا تماما، وليس سيارة على الاطلاق، انما هو صندوق ضخم كان يوما اتوبيسا ولكنه الان لم يتبق منه الا الموتور الذي يسمع صوته من اقصى القرية الى اقصاها، المقاعد الخشبية قد تمزق الجلد الذي يغطيها، النوافذ بلا زجاج، يسير الاتوبيس راقصا كواعظ امريكي، تارة يحتك بالارض المرتفعة وتارة يصدر اصوات حشرجة، والسائق يغني، والفلاحون مكدسون وقد رصت قفف الخبز والدقيق واقفاص الطيور.
مضت ساعة حتى وصل الى مطاي، ولم يكن الكاهن يدري انه جلس وفوق راسه على الرف قفة بها دقيق كست ملابسه السوداء لونا ابيضا ناصعا. نزل ولملم عباءته ونفخ في عمته وركب سيارة اجرة لتقله الى المنيا ليلتحق باخوته الكهنة في الاجتماع.
تقدم الكاهن ليحصل على تسعة جنيهات هي مرتبه. حيّاه الاب الوكيل بابتسامة عريضة وساله هل برنوها رعية رائعة. اجاب: طبعا، اشكر الله، وخدمة الفلاحين رسالة رائعة.
قدم له الوكيل ايصالا ليوقع عليه، الايصال بتسعة جنيهات. وقّع الكاهن، ولكن الوكيل لم يسلمه الا بعة جنيهات فقط.
ساله الكاهن: سبعة فقط؟!!
قال الوكيل: اثنين جنيه خصم لمساعدة فراشين المطرانية.
صمت الكاهن للحظة، ثم تجاسر وقال (وقد عرف عنه انه يثير الاسئلة ويميل للاعتراض):
هل سادفع ايضا لعمال المطرانية؟
اجاب الوكيل برقة:
اصلهم يتعبون يوم السيمنار الشهري، وهذا عادة منذ زمن.
قال: ولكن يا ابي، انا انفق على اسرتي،..
قال الوكيل: انت كاهن من القاهرة، يعني ضيف ولا داعي لاثارة الموضوع.
ولكن هذا المبلغ يؤثر في ميزانيتي.
انه فعل محبة
نعم، لكنها محبة بالاكراه. انه ربع المرتب تقريبا.
لا عليك. عود نفسك على الحياة بما تملك.
سمعا وطاعة. البركة في ربنا. يمكن تفرج بعقد خطوبة او اكليل.
انصرف الكاهن مهموما. لم يفهم الامر. ثار في ذهنه تساؤلات. الكاهن والمال؟ الكاهن والعدل؟ الكاهن والمساواة.
مضى الى عائلته وقد عزم الا يكون المال عقبة في حياته. عليه الا يسعى للثراءوان يكون حريصا دوما الا يكون كاهنا مترفها..
**

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s