شجرة الدم

شجرة الدم
تاليف: القس موسى وهبه


احتقنت في وجهه الدماء، ولمعت عيناه بخليط من الغضب والرغبة والحب، وضاق صدره بالمشاعر التي التهبت في قلبه. وقد وقفت امامه ثيؤدورا بقامتها المديدة، مرفوعة الوجه. وقد ازداد وجهها الجميل شحوبا على ضوء السراج، الذي كان يحمله الحارس، وقد وقف على بعد خطوات قليلة من اجريبا حافظ السجن. كان اجريبا يغلي كالمرجل، وتخرج الكلمات من فيه هادرة كموج البحر الصاخب. تارة يخبط بقدميه على اﻻرض، ويطوح يديه مهددا متوعدا . وتارة اخرى يتصنع اللطف محاوﻻ ان يخفف من غلوائه وهو ينتحي جانب السياسة واﻻغراء والوعيد.
وارتطمت يده بفراشة جميلة، لعلها كانت تتابع النور ، فطوح بها بين طبقات الظلام الذي اكتنف ارجاء السجن.
وفي زاوية من زوايا القبو المظلم، انكمشت اﻻم مرثا تراقب الثلاثة، ينتقل بصرها من اجريبا الروماني المتغطرس الى ثيؤدورا الوادعة الى الحارس الذليل الذي وقف كالتمثال. ثم تعود وترفع بصرها الى زاوية امتد فيها نسيج العنكبوت. ولمحت بين خيوطه اجنحة الفراشة تلمع في ضوء المصباح، فتجهم وجهها المتغضن، وشاع في قسماتها دبيب الحزن. كانت الفراشة تجاهد بقدر ما تملك من ضعف. ويبدو ان صدمة كف اجريبا التي طوحت بها في قلب النسيج جعلها خائرة. كانت تحاول جاهدة التملص، لكن خيوط العنكبوت اللزجة امسكت بها .. وتتخبط الفراشة وسط هذا الفخ الجهنمي حتى تجد نفسها في متناول العنكبوت يمد اطرافه اللينة في خبث. ويجذب الفراشة الى حضنه في هدوء. ويجن جنون الفراشة وتستجمع كل قواها للخلاص من هذا الموت لرهيب. والعنكبوت يتحرك في تؤدة الواثق من نفسه، فتلتف اطرافه حول الفريسة التي اصابها اﻻعياء.
ولم تستطع اﻻم مرثا ان تكتم صرخة خرجت من اعماقها، ورفعت يدها تخفي عينيها. والتفت اجريبا وقد سرت في جسده رعشة من المفاجاة وصرخ في عنف:
ما هذا؟ لماذا تصرخين هكذا ايتها العجوز الشمطاء؟
ثم تقدم في عنف ودفعها بيده بشدة وهو يصيح :
ساعلمك كيف تصمتين؟
وتدحرجت العجوز حتى ارتطمت بالجدار وهي تتمتم: يا رب ارحم.. ارحمني وارحم المسكينة ثيؤدورا!
كان العرق يتصبب من وجهها وقد اعتصر القلق قلبها وهي تجلس القرفصاء. .. متى ينتهي هذا؟ ان الموت امره سهل وهين، لكن هذه العذراء الجميلة.. وهذا الذئب المتوحش، وهذه المطاردة التي بدات منذ ان دخلا السجن معا.. ما هي الخاتمة؟ وتتسارع دقات قلبها، وفي اثرها تسرع حركة شفتيها تردد الصلوات، وتهمس بقلقها الى اﻻب السماوي حتى ينقذ هذه الحمامة الوديعة من براثن الشر والدنس. ان الموت مع العفة اجمل الف مرة من الحياة في جسد نجس..
واستراحت عيناها على وجه ثيؤدورا الرقيق..
كانت الدقائق تمر ببطء ، وجو الزنزانة اصبح خانقا ﻻ يطاق.. الهواء الرطب العطن ثقيل يرهق اﻻنف والقلب. وتحس اﻻم بالدوار، ولكن اعصابها مشدودة تراقب وتتابع الحوار بين اجريبا وثيؤدورا..
كانت ثيؤدورا في العشرين من عمرها ، جميلة الملامح وكانها تنافس الهة الجمال عند اليونان..
تقدم اجريبا خطوة نحو ثيؤدورا ، واتضحت معالم وجهه في ضوء السراج، وثبت عينيه في عيني ثيؤدورا التي ما كادت تلمح نظراته حتى طاطات براسها الى اﻻرض. واخذت صرامة وجهه تزايل قسماته ليفسح مجاﻻ ﻻبتسامة ترتسم على شفتيه في وجل واستجداء ثم قال: ثيؤدورا العزيزة .. انت تعرفين كل ما في قلبي نحوك. وتستطيعين ان تقرئي في عيني اعجابي بجمالك، واعترافي بشجاعتك. لقد تنقلت في بلدان كثيرة وعرفت الكثير من النساء، ولكن واحدة لم تستطع ان تاسر قلبي كما فعلت. انا مندهش كيف قبلت على نفسك وعائلتك ان تنضمي الى جماعة المسيحيين البغيضة. ان اسرتك من العائلات القليلة في مصر التي تتمتع بالرعوية الرومانية، .. ﻻ اعرف ما اقول عندما ياتي الوالي.. انت تعرفين شغف ليونيدس برؤية الدماء ..
ورفعت ثيؤدورا عينيها واجابت في هدوء: اما عن الخروج من السجن – واشارت الى جسدها – فلابد ان اخرج، ولن يستطيع احد ان يمنعني. كل ما يستطيعه ليونيدس هو قتل هذا الجسد، لكنه ﻻ يستطيع ان يفعل اكثر من ذلك.
وعاد اجريبا يقول في توسل: انت في زهرة العمر .. المستقبل امامنا.. سافعل كل ما بوسعي لكي اوفر لك اسباب السعادة.. ستكونين السيدة اﻻولى .. ستجلسين عن يميني .
لكن ثيؤدورا قاطعته: كفى يا سيدي! هذا الهراء! انت تتحدث عن سعادتك وحدك وليس سعادتي.
وارهف اجريبا اذنيه وهي تتابع:
ان سعادتي ﻻ ترتبط بهذه اﻻمور. “ماذا ينتفع اﻻنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”. اننا معشر المسيحيين ﻻ نخاف الموت بل نتوق اليه “لي اشتهاء ان انطلق واكون مع المسيح.. ذاك افضل جدا”.
واخذ اجريبا يتبرم وقال في ضجر:
ما الذي تقولين؟ انا اعرف ان المسيح صلب ومات ؟ فكيف تريدين الذهاب والعيش معه؟ العل السجن قد اثر على تفكيرك؟
ونظرت اليه نظرة طويلة، لم يستطع ان يتحملها فحول وجهه عنها، ثم ابتسمت كما تبتسم اﻻم المحنكة لما تراه من سخافات طفلها وعادت تقول:
من الصعب ان تفهم ما اقول ان لم تعرف المسيح بنفسك. عندما تعرفه ستتغير افكارك تماما.. حاول ان تتجرد من تقاليدك الوثنية العتيقة.
واستدار اجريبا واتجه نحو باب القبو المظلم، لكن عندما وصل اليه وقبل ان يدلف الى الممر، التفت الى الوراء، ولوّح بيده منذرا متوعدا: ثيؤدورا! سوف تندمين على عنادك! يمكنك ان تطلبيني في اي وقت قبل ان تشرق شمس الغد. ثقي ان لي من السلطة ما يمكنني من تخليصك. اني مستعد ان اهبك الحرية.

وترامت اليها اصوات مختلطة من تأوهات ..(يستكمل)

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s