يا يهوذا، اين سيدك؟

منذ اكثر من عشرين عاما انتشر بارض الصعيد عصابات من “المطاريد” نشرت الرعب والفزع في قلوب كثير من الناس. واتخذت كل عصابة زعيما لها. تتسمى باسمه ، وتاتمر بامره.. حاذية في ذلك حذو العصابات اﻻخرى.
وامتدت سطوة العصابات عبر الجبل الغربي الذي يحف بمدينة اسيوط.. لم تبق قرية امنة، ولم ينعم ثري براحة البال.. وكان لكل عصابة اذناب “ومحاسيب” تتخذهم رسلا لها لدى مصدر رزقهم الحرام. ولم يكن هناك اخذ ورد او فصال. الكلمة واحدة والفرض واجب!
يذهب الرسول للثري يسلمه وريقة كلماتها معدودة “عليك مئة جنيه تصلنا اليوم عند الجبل..”.
كانت عصابة “عواد” تضم عددا كبيرا من طريدي العدالة ممن صدرت عليهم اﻻحكام غيابيا اقلها اﻻشغال الشاقة المؤبدة.. وعواد هذا كان رجلا قوي البنية غليظ القلب، اشتهر بين “المطاريد” بان يده “طائلة” وﻻ تخطئ الهدف.
ويوما ما جاء احد محاسيب عواد الى ثري يدعي المقدس “فهمي” بوريقة مكتوب عليها: “عليك 500 جنيه. ارسلها مع احد رجالك عند المغارة”. اذا لم يصلنا المبلغ في ظرف 3 ايام فقدت حياتك او احد اوﻻدط!”.
ولكن فهمي الذي ورث الشجاعة عن ابيه كما ورث المال، هز راسه في تؤدة وارتسمت على جبينه ابتسامة هادئة تلاشت بعد حين وهو يحدج الرسول بنظرة قاسية “قل لزعيمك انني لم احن الراس ﻻنسان على اﻻرض! قل له ان سولت نفسه اقتحام اﻻرض بانني سادفنه فيها”.
وعاد الرسول بالرد، فجن جنون عواد ورجاله، كيف يجرؤ فهمي على رد الرسول خاوي الوفاض اﻻ من ذلك التهديد اﻻرعن؟ واقسم عواد ليتارن لشرفه وليحفظن للعصابة سطوتها وهيبتها.. وقال وصوته يجلجل جنبات المغارة “ماذا يقول الناس اذا وصلهم رد فهمي..؟ اذا سكتنا عليه لسوف يتمرد الجميع، ونصبح رهينة للجبل، يقتلنا الحر والجوع والعطش .. وانتفض واقفا وثبت مدفعه الرشاش بكتفه ، وسارت العصابة تتبعه بينما يزار:
هلموا بنا. اني لقاتله الليلة بين اهله وصحبه.
نزلت العصابة الى السهل.. وقصدت بيت “سعدان” احد محاسيبها بالقرية، وعقد افرادها على قتل فهمي. وراحوا يرسمون خطة الهجوم. وحشت العصابة بنادقها السريعة الطلقات ومدافعها الرشاشة بالذخيرة، ثم توجهت في جنح الظلام الى بيت فهمي..
ووضع افراد العصابة سلما خشبيا الى الجدار الشاهق.. وبداوا يتسلقونه في حذر. وفجاة نبح كلب . وجاوبته النباح بقية الكلاب، وهب الخفراء الذين يحرسون المكان الى مصدر النباح يتبينونه . واتخذوا من الجدران الشاهقة ساترا وامطروا افراد العصابة وابلا من رصاصهم .. فما لبث هؤﻻء حتى ﻻذوا بالفرار في مزارع الذرة المتاخمة.
واصر عواد على اقتحام الدوار رغم عنف المعركة. ولكن سعدان الذي يعرف مدى قوة الحراسة نصحه بالعودة قائلا “نحن في الواطي وهو في العالي، والجدران لهم ساترا، نرجع الليلة فالليالي كثيرة”.
وعندما وصلوا الى بيت سعدان هالهم ان زعيمهم كانا مصابا بطلق في ذراعه اليسرى والدم ينزف بغزارة. وترك عواد ذراعه لحلاق القرية يضمخها بتراب الفران ويكبسها بالبن، ثم قال بعد ان فرغ الحلاق من عمله وانصرف..
“لم نعمل حسابا للكلاب! لولا نباحها لما احس بنا احد. لولا نباحها لقتلناهم جميعا وهم نياما.. اﻻن ما السبيل ﻻخماد نباحها؟
فقال سعدان دون تردد:
ندس لها السم في الطعام. او نضع المخدر في “البتاو”.
قال عواد وهو يغالب اﻻلم:
ومنذا الذي يصل الطعام اليها؟”
قال سعدان في خبث:
واحد من رجاله..
فقال عواد” مستهجنا:
وكيف السبيل الى ذلك؟
قال سعدان واثقا:
نشتريه بالمال.
فقال عواد متشككا:
انا اعلم ان فهمي يغدق على كل من يعمل معه. فكيف نشتري الذمم وهي لك احسانه؟
ومرت ساعات نسج الفجر خيوطه بعدها.. وافراد لعصابة ﻻ زالوا يتشاورون .. ومر في الطريق رجل يجر خلفه عنزة عجفاء وجديا اجرب.. فناداه سعدان على الفور.. فنهره عواد متسائلا:
ومن يكون هذا؟
فضحك سعدان ساخرا:
هذا حبشي يعمل عند فهمي.
واقبل حبشي وساقاه ترتعدان عندما لمح عواد..
الى اين والشمس لم تطلع بعد؟
اجابه وفرائصه ترتعد:
انا ذاهب الى السوق، ابيع الجدي والعنزة، فالعيال من شهر مرضى.. وساقدم الثمن للحكيم ليداويهم.
قال سعدان متهكما:
تبيع الجدي والعنزة ﻻل الدواء، وفهمي لماذا ﻻ يعطيك وماله كمال قارون؟
واجابه مترددا:
عم الشيخ اعطاني الكثير.. جزاه الله خيرا. لقد اخذت اجرة عام مقدما. لذلك خجلت ان اطلب مرة اخرى”
قلكزه سعدان ببندقيته :
ولماذا تخجل؟ انه عرق جبينك، وجباه الخانعين امثالك”.
وهم حبشي بالنهوض، ولكن سعدان امسك بتلابيبه وهو يجذبه ارضا:
اقعد يا مغفل. القلوس التي تطلبها موجودة!
وعلت الدهشة وجه حبشي وهو يسال:
اتشتريهما يا عم سعدان؟
فضحك سعدان وهو يتفحصه بنظرة فاحصة:
اسمع يا حبشي. لقاء خدمة بسيطة توفر العنزة والجدي..
وتهدج صوت حبشي:
اي خدمة يا عم سعدان؟
واعتدل عواد واتكا على مدفعه بينما عيون افراد العصابة تحيط بحبشي قيزداد خوفه. وقال عواد متوعدا:
اسمع يا ولد. ان سيدك نهش سمعتنا .. كلمة واحدة وافرغ الرشاش في صدرك.
امرك يا عم عواد . امرك يا سيد الرجال.
حاجة تاخذها من سعدان وتطعمها للكلاب.
وتساءل حبشي مترددا والخوف يجند اطرافه:
وما هذه الحاجة؟
وابتسم سعدان وهو يقول:
ﻻ شان لك بهذا! .. اسمع كلام سيد الرجال، وعليك فقط التنفيذ!
ولم يكن يخفي على حبشي ما يعنيه سعدان.. وتذكر ما حدث للشيخ عبد الصبور بعد ان تخدرت كلابه .. وهجم عليه افراد العصابة فسرقوا ماشيته وقتلوه هو ورجاله .. وانتفض حبشي وهم واقفا يبكي:
تريدو قتل سيدي:
فجذبه عواد والقى به ارضا .. ثم ركله بحذائه الغليظ وهو يزار:
وقتلك انت ايضا يا ابن..
ارتمى حبشي كالكلب الذليل ي ركن من اركان الغرفة المظلمة.
كان وجهه يتصبب عرقا وهو ﻻ يدري ما يقول، واقترب منه سعدان زاحفا كالثعلب:
اسمع يا حبشي . فاك فقرا وذﻻ ومهاننة. لقد تفتحت امامك ابواب الرزق. اﻻ تريد ان تكون من محاسيب سيدك عواد .. فكر يا عبيط!..
وتلفت حبشي وهو يمسح دموعه بكم جلبابه، يرقب وجه عواد الذي علته ابتسامة قيها شئ من الرضا واﻻرتياح.. ثم قال:
اسمع يا حبشي.. اني ارى فيك رجولة وشهامة اود اﻻنتفاع بهما. انك من اليوم من رجالي. سيكون لك بندقية.. وكلمة مسموعة في البلد!
وزحف سعدان حتى التصق به. ثم دس 5 جنيهات في يده وهو يقول في هدوء:
هيا عالج حريمك. وموعدنا يوم الجمعة. نكون قد جعزنا للموضوع.
ومضى حبشي الى بيته تتنازعه افكار كثيرة.
وجاء يوم الجمعة .. وكان يوم “الجمعة الحزينة”.. واجتمعت العصابة في بيت سعدان . واقبل عليهم حبشي في خطوات ثابتة.. وسلمه سعدان طعام الكلاب. وساله عن سيده فاخبره انه في الكنيسة يصلي..
وامره سعدان بالتوجه حيث يكون سيده.
ومضى حبشي الى الكنيسة كانت مزدحمة، ونور الشموع يشق طريقه ﻻهثا بين سحب البخور، وظلام الغروب. ولم يجد مكانا يجلس فيه، فاتخذ له شبر من ارض الكنيسة وقف فيه. وراح يجول ببصره لكي يتبين سيده من خلال سحب البخور. ووقع بصره عليه مصليا..
وظل حبشي ينتظر نهاية الصلوات .. ولكنها كانت طويلة مما اثقله.. ووقف القسيس الى منصة القراءة. وفتح اﻻنجيل وراح يقرا:
“وبينما هو يتكلم واذا جمع والذي يدعى يهوذا اﻻسخريوطي يتقدمه .. فدنا من يسوع وفبّله. فقال له يسوع : ابقبلة تسلم ابن اﻻنسان.. حينئذ لما راى انه قد دين ندم ورد الثلاثين من الفضة ومضى وشنق نفسه”.
وتكاثفت سحب البخور في سماء الكنيسة، واطبق الصمت لرهبة الساعة. ثم انطلق صو الراعي يعظ:
“لماذا خنق يهوذا نفسه؟ هل استيقظ ضميره غجاة فجسم له جرمه؟ ام تراه كان يخاف اضطهاد الناس واحتقارهم له، عندما يسالونه في عرض الطريق .. يهوذا.. يهوذا.. اين سيدك؟ .. فيجيبهم.. كلكم تعلمون اين هو.. لقد صلبه اليهود فوق الجلجثة!..
ولكن الشعب المؤمن ما كان ليرحمه. سيمطره اللوم كصخر الجبل.. بل انت صالبه يا يهوذا.. اما عد تذكر قوله وانت تشاركه الصحفة .. يا نجس! .. “ان ابن اﻻنسان ماض كما هو مكتوب. ولكن ويل لذلك اﻻنسان الذي به يسلم ابن اﻻنسان. كان خير له لو لم يولد”.
عليك لعنة قايين ونار سدوم.. يا يهوذا.
وعلا الوجوم الوجوه المتعبدة. وتدحرجت الدموع.
وعاد القس يتساءل:
ولماذا خنق نفسه؟
لقد مضى بطرس بعد ان اخطا بدموعه المرة، ونبضات قلبه المفعم باﻻيمان يجتاز طرقات اورشليم والسامرة ويافا وقيصرية وانطاكية وروما يبشر باسم سيده ويصنع المعجزات .. من حوله عيون متربصة ، يسالونه امام رؤساء الكهنة وفي بلاد القياصرة: “باي قوة تصنع هذا..”. ويجيبهم هو: “انه باسم يسوع المسيح الذي صلبتموه انتم!”.
ومضى يهوذا وخنق نفسه..
مضى بخطيته او مضت خطيته به. فهو مسلوب اﻻرادة حتى النهاية.
مضى الة حبل غليظ تعلق به عنقه،
واختنقت به اماله ومطامحه،
فخسر بسلبيته وغبائه اﻻرض والسماء ابدا.
ونح ننكر على يهوذا خيانته ونذالته وجبنه وسلبيته. ونهرب من اسمه فما يجرؤ واحد منا على حمل اسمه. وننفر من صورته الدميمة ، حتى وان كانت رسما باهتا على غلاف.
ولكنه رغم طول السنين يطاردنا كالروح النجس. ويسعى بيننا بصورته وصوته واثامه، في كل مكان وعلى مدى اﻻيام ، يجوس ويحيا: في الشارع والحانوت والبيت. في العيادة والمصنع . في المعمل وفي المسكن.. بل وفي رحاب اقدس اﻻماكن!
انه ملء السمع والبصر.
وهو في المراة اذا تأملنا!
تطاردنا سيرته، وتخيقنا صورته ويفزعنا صوته.
ولكم رايته حين انظر للمرآة ساخرا، يكاد يخرج من اطارها فالمسه..
في طفولتي طافت بمخيلتي صورة النذل الخائن
وفي صباي عرفته الجبان الواهن
وفي شبابي اكتشفت فيه احمق واغبى مخلوق!

واعيد السؤال:
لماذا خنق نفسه؟
..ﻻنه ادرك ان نفسه احقر ما في الوجود فاهلكها!

وتكاثفت سحب البخور. وانتشر رذاذ من الماء المقدس على الجباه المتعبدة، بركة ورحمة وايذانا بانتهاء الصلاة.
ومضى الشيخ فهمي ال طريقه الى ال الري يحيط به بعض خفرائه، ومن خلفه حبشي يحمل صرة بها طعام الكلاب، والتفت اليه الشيخ مازحا:
طول عمرك همك على بطنك يا حبشي! صرتك غليظة مثل عقلك تماما!
وقال حمدان يدفع عن حبشي تهمة الشراهة:
انه صائم طيلة اليوم يا عم الشيخ.. والفرس الحمراء على وش وﻻدة، فهو ساهر الليلة ينتظر وﻻدة مهرها.
واقبل عواد ورجاله يلفهم ليل حالك السواد ، ووجدوا المكان ساكنا، واسندوا السلم الخشبي الى الجدار وبداوا يرتقونه. وفجاة دوى في الفضاء طلق ناري.. نبحت على اثره الكلاب كما لم تنبح من قبل.. واقبل الخفراء من كل صوب ، ودارت معركة حامية بين الخفراء وعصابة عواد. ولم يجد عواد بدا وقد راى الرصاص ينهال عليه من كل جانب اﻻ ان يلوذ بالفرار.. وبعد ان استرد الخفراء يتساءلون .. قال حمدان:
اول عيار ضرب من هنا، في المليان.. هل اطلقته انت يا محمود؟
قاجابه:
انا كنت في البر الغربي ووصلت اخر واحد فيكم.
ومضى الخفراء الى البناء الخلفي، وهناك راوا حبشي خلفه متشبثا ببندقية، قابضا على زنادها.. وتلفت الجميع في دهشة:
هل نحن في حلم! هل يمكن ان يكون هو؟ كيف تصبح اليد التي ما انفكت تحمل التبن والدريس وتعلّف الحيوانات يدا تحمل السلاح وتضرب في المليان؟
وتدافعوا نحوه يسالونه:
اي سر حل فيك يا حبشي؟ منذ متى تحمل السلاح؟
اجابهم وهو يدفع الجرار لكي تبتلع البندقية رصاصة اخرى!
منذ عرفت انني احقر من يهوذا!
ول يفهم الواقفون بماذا يهذي الرجل. ولكنم راوا ملامحه تغيرت فنفض عنه البلاهة والوجل.. وراوه يتجه نحو الجدار فيتخذ منه ساترا وعيناه على مرمى البصر ويده فوق الزناد وكلاب الحراسة حوله تزار كاﻻسود.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s