هذه اقاويل سمعتها ممن كانوا اكبر سنا مني، ولكنها، رغم انني سمعتها منذ امد بعيد، ﻻ تزال عالقة في ذهني.
لم اكن قد اتيت بعد الى عالم الوجود، حينما كانت امي تقف مع خالتي في فناء احد المعابد في “تومباك”. وكانت خالتي عاقرا ﻻ تنجب اطفاﻻ. ونظرت امي اليها بروح الغطف، وقالت لها مواسية: “ﻻ تحزني يا اختي. اني اعدك ان اهب لك طفلي القادم”.
واوفت امي بوعدها، فعشت وترعرعت في بيت خالتي، وكان هذا من حسن حظي. فلم اكن احب بيت ابي. وكان اخوتي ايضا يشاركونني نفس الشعور، فيهربون من البيت، ويقضون معظم اوقاتهم معي. لقد اصبح والدي “قديسا”، وسوف تدرك ما اعنيه حينما تقراون السطور القادمة.
نعم، اصبح والدي قديسا. وفي هذا كانت متاعبنا. ولم نكن نستطيع – نحن اﻻطفال – ان نتحمل المتاعب الناشئة عن “قداسته”، فكنا نهرب من جحيم البيت، لنترك امي وجدتي تصطليان بناره وحدهما.
هكذا بدأت قصة قداسته..
في عام 1857 كانت الهند تغلي كمرجل بنيران اﻻضطرابات. وكان جدي ﻻمي رجلا محبوبا بين اقرانه في بلدة “ترمباك”. كان يعمل صرافا ﻻهل بلده، ولسكان الجبال التي تحيط ببلدته. وكان فوق هذا ذا مركز ديني ممتاز، فقد كان حارس خزانة احد الهياكل الهندوسية. ولكن نجاح اثار حقد اعدائه. فوشوا به فقبض عليه واتهم بخيانة الحكومة ونفذ فيه حكم اﻻعدام.
وكان ابي في ذلك الحين يحب حميه كانه والده تماما. ولما وصلته هذه اﻻخبار الحزينة غاد البلدة وهام على وجهه في قلب احدى الغابات القريبة..
كان الوقت صباحا. ولم يرجع والدي اﻻ بعد ان اسدل الليل ستاره المظلم. والتفتنا اليه وسالناه:
“اين قضيت النهار؟”
واجاب “كنت في غابة تابوان وتصادف اثناء مروري ان كان احد المنبوذين يغسل فمه بالماء. فحمل الهواء قطرة من المياه الى ثيابي. فتنجست. هيا صبوا ماءا وﻻ تلمسوني. ينبغي ان استحم مرة اخرى.
ومنذ ذلك الحين ولمدة 25 سنة كان والدي يفوم بواجبات التطهير على هذا النحو..
وجلبت قداسة ابي المتاعب له وللبلدة جمعاء. فقد كان يرفض ان يصافح حتى براهمي من طبقته. وحينما كانت نساء المنزل تعود من احدى الحفلات التي يسمون فيها كل امراة متزوجة بعلامة حمراء على الجبهة، كان والدي يصر على ان تغتسل كل واحدة منهن قبل ان تدخل المنزل.
وبمضي الوقت اندفع والدي في قداسته المجنونة. اضحى يرى كل شئ في الوجود نجسا.
في عام 1870 اي بعد 12 سنة من قداسة والدي ولدت انا..
ولما استطعت ان افتح عيني ﻻدرك ما حولي، كنت ارى والدي جالسا على الدوام في المحراب..
كان ابي مشغولا بفروضه وتدينه. وحتى ان كان له الوقت ليفكر بامر زواجي، فانه كان يعتقد انه ﻻ يوجد القديس الكثالي الذي يوافق مزاجه ليصبح زوج ابنته!!
سارت كل امور زواجي مضطربة الى ان اعترضتنا العقبة اﻻكبر. فقد كانت عائلتنا تنتمي الى سلالة “جوكهال” وكانت عائل خطيبي “تيلاك” تنتمي الى عائلة “كوشياب” ، فكيف يتم الزواج؟
واقترح عمي “جوفند” ان يتبناني قانونيا. وبحسب القانون الهندي يمكن ان تختلط السلالتان معا. وبقى ان يمهر ابي اﻻوراق. ولكن في اليوم المحدد ﻻقامة حفلة التبني بحثنا عن والدي ولم نجده. لقد ذهب الى قلب الغابة كعادته.
كاد العرس ان ينقلب الى مأتم، لوﻻ ان احد اقاربي هب لمعونتنا في الوقت المناسب. اقتبس قريبي اية من الكتب الهندوسية المقدسة (الفيدا) تغطي اﻻم مطلق الحرية في هبة ابنتها لمن تريد للتبني، تماما كاﻻب، وكانت هذه اﻻية كقطرات المطر على ارض ظماى.
***
انتم تعلمون ان عدو الخير ﻻ يسكت فهو يثير حول الشخص حديث اﻻيمان زوبعة قاسية. فقد عرفت الحق ولم يمض سنة. حول هذا اﻻنسان يجتمع لفيف من الكفرة والملاحدة والمتشككين والهراطقة ويصمون اذانهم فيصبحون كالحيات الصماء التي ﻻ تنفع فيها رقي ثم ﻻ تنفك تنقلب غادرة تنفث سمومها القاتلة.
ولقد ابتليت بمثل هذا الجمع منذ اﻻسابيع اﻻولى التي ذاع فيها خبر اعتناقي المسيحية. جعلوني هدفا لسخريتهم المرة. ثم تطور اﻻمر فبداوا يقارعونني بالحجة والمنطق. (يستكمل)
عن كتاب: نحو النور،
من مذكرات تيلاك الشخصية