بقلم: كليمانت فوتيل
-1-
قسيس واسقف ومطران:
انحنى الخادم العجوز، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة على سبيل التحية بالضيف، وسأل:
ماذا اقول لنيافته؟
قل له: اني القسيس بلجرين خادم كنيسة سابلوز، وقد جئت بناءا على دعوة نيافنه.
وانحنى مرة اخرى، وقد ارتسمت على جبينه علامات الامتعاض، وسار سيرا وئيدا الى باب عليه ستار من المخمل فازاحه ودخل مكتب الاسقف.
وظل القسيس بلجرين وحده في تلك الردهة الكبيرة التي كانت تزينها صور القديسين قد طال عليها القدم حتى بهت لونها، وارتمى على مقعد وهو ممسك مظلته بيده ثم اطلق لافكاره العنان وطفق يناجي نفسه قائلا:
لماذا يستدعيني يا ترى المونسنيور “سيبوي” اسقف قيصرية ووكيل مطران “مريفيل” ولماذا يستدعيني للمجئ على عجل؟
وكان للاسقف “سيبوي” نفوذ كبير وسلطة واسعة على الابروشية كلها لان الكردينال قد تقدم في العمر جدا، فاطلق للاسقف كل مسؤلياته.
وطفق قلب الاب بلجرين يخفق في صدره وكأنه جناحا طير يصفق من الالم والخوف. ولبث يناجي نفسه قائلا:
ماذا فعلت يا ترى حتى يستدعيني الاسقف؟ وظل يستعرض الحوادث ويبحث عن هفوة يكون قد ارتكبها واخيرا هز كتفيه وخاطب نفسه همسا:
سنرى ولا يجوز التفكير الان.
وفي هذه اللحظة رفع الستار وظهر قسيس اخر حسن الهندام متأنق وخاطب الاب بلجرين قائلا:
عجبا، هل العزيز بلجرين هنا؟
ومد يده ليصافحه. ولم يكد يراه الاب بلجرين حتى بادله التحية وقال:
اه. الاب لانتييه الصديق القديم!
وتصافح لقسيسان بشوق وطفق كل منهما يهز يد الاخر بحرارة ثم سال القسيس بلجرين صديقه:
وهل انت في الاسقفية؟
نعم، منذ ايام فقط، وقد عينت سكرتيرا لنيافته.
انها مسؤلية كبيرة.
وقطب الاب لانتييه جبينه ثم ابتسم على مضض واجاب:
اني استطيع وانا في هذا المنصب ان اقوم بخدمات قد تكون لها قيمة في الابروشية. بل تكون اكثر نفعا مما كنت اقوم به وانا في كنيسة صغيرة.
من غير شك. بل ان للمنصب في حد ذاته اهمية ولو كانت اعماله قليلة.
فاجاب الاب لانتييه وقد ظهرت عليه علامات الجدية.
اعتقد انك لم تمارس مهام منصبك حتى الان.
بلى. ولكني مارست بعض الاعمال الاعتيادية – عماد الاطفال وتزويج الفتيان وسماع الاعترافات وتجنيز الموتى وتوزيع الصدقات.. والقائمة تطول.
وامتعض الاب بلجرين لانه ادرك ان اخاه في الخدمة يمزح. وادرك لانتييه بدوره انه اساء الى صديقه واغاظه. وعاد يلوم نفسه لانه عد المزاح باردا ثقيلا واعتذر وقد احمر وجهه وقال:
اني امزح معك فهل لا تريد ان تراني!
لا اريد ان اراك؟ لماذا؟ لقد قلت لك اني شديد الفرح بلقائك، وان هذه المرة الاولى التي نتقابل فيه منذ عقد الهدنة. ولقد كنت افكر فيك دائما. ويجب علي اليوم ان اهنئك بما ابليت في وقت الحرب.
ولكني لم اعمل شيئا غير الواجب نحو اخوتى وزملائي. اذ لم اكن غير حامل للجرحى للذين يسقطون في حومة الوغى.
وانت! الم تجرح؟
نعم جرحت جرحا خفيفا. وانا ارى اننا نضيع الوقت في الحديث عن الحرب وويلاتها.
واشار القسيس لانتييه باصبعه الى شريط صليب الحرب الذي كان القسيس بلجرين يزين صدره به وقال:
ولكنك نلت هذا الوسام.
لقد ناله كثيرون قبلي وليست له اهمية تذكر.
وعلت ابتسامة عريضة شفتي سكرتير الاسقف وظن الاب بلجرين انه نسى مزاحه وعفا عنه وقال:
ولكني جئت للارى نيافته.
ان نيافته سيقابلك بعد قليل لاني مشغول الان مع اعضاء نادي النهضة.
ولم يكد يتمم كلامه حتى عاد الخادم وازاح الستار وقال:
فليتبعني الاب.
وكان الاسقف ينتظر في مكتبه وقد تكدست فيه الاوراق وظهر خلفه “ماكيت” لكاتدرائية لورد موضوعا على منضدة، وعلقت على الجدار صليب من العاج صور عليه المسيح مصلوبا.
قال الاب بلجرين:
لقد دعوتني نيافتكم!
نعم ايها الاب وسأعرفك السبب حالا.
ووضع الاسقف نظارة على عينيه ثم حدق في وجهه وقال بصوت متهدج وهو يتمهل في حديثه:
اعرف انك من خير الكهنة، وانك تقوم بخدمتك الكهنوتية على اكمل وجه. ومما لا ريب فيه اني اجدك جديرا بالمديح ولكن.. وكلمة “لكن” كما تعرف توجد في كل امور الحياة.. ولكن اراني مضطرا للفت انتباهك..!
انا؟ .. اني احسب ان مسلكي لا تشوبه شائبة.
من غير شك. الامر لا يتعلق مطلقا بمسلك، ولكنه يتعلق بعظاتك. بالالفاظ التي تتمسك بها في عظاتك.
واشتد احمرار وجه القسيس وقال بصوت متهدج:
وماذا قلت يا صاحب النيافة مما تعده خاطئا؟
لقد قلت ان الله يهزأ بصلوات (– ) الاشرار ويهز كتفيه احتقارا لها.
اه . اه.
وملكت الرعدة الاسقف وعاد فملك عواطفه بعد جهد جهيد ثم قال:
ان مثل هذا القول يعد تجديفا على الله.
ان الله – تبارك اسمه – لا يهان بهذا القول.
لقد بت لا تحترم من تخدمه.
كلا يا صاحب النيافة ، بل اني احبه من كل قلبي و لا اظن ابدا – وحاشا لله – انني اهنته بما قلته عن رفضه لتلك الصلوات .
ونهض القسيس واراد ان يضرب ميطانية للاسقف ويستغفره ولكنه قال:
كلا. كلا! بل اخرج من هنا. لا اريد ان اراك.
وسار الاب بلجرين يجر نفسه جرا، مطرقا حزينا ولم يكد يصل الى الباب حتى اردف الاسقف قائلا:
وسارفع الامر الى قداسته.
**