ابونا القسيس -٣

صوت يرن في الكاتدرائية:
بالرغم من فصاحة الاب بلجرين لم يستطع ان يتغلب على الرعدة التي اكتنفته اولا .. حتى اذا اعتلى المنبر ليعظ، شعر بالطمانينة والهدوء.. فالقى نظرة على الجمع الحاشد واحس كانه في كنيسته الصغيرة
ورسم الاب بلجرين علامة الصليب ورفع صوته وقرأ من الانجيل بلهجة مؤثرة:
“وقال يسوع لقوم واثقين بانفسهم انهم ابرار وبحتقرون الاخرين ..”.

كان الفصل يتحدث عن احد امثال الانجيل الشهيرة- مثل الفريسي زالعشار.
وسكت الاب بلجرين هنيهة لياخذ لنفسه راحة ثم رفع صوته عاليا:
كم من الناس بيننا ولا استثني احدا مثل ذلك الفريسي؟ بل كم من الناس بيننا هنا في الكنيسة وهو يقول لنفسه ان اله لابد ان يسر بي لاني لست مثل الاخرين من اللصوص والطغاة والزناة، فان كنت اسرق فاني لا اسرق الا القليل. واذا كنت اظلم فليس الذنب ذنبي، بل لان العدالة تطلب مني وتفرض عليّ ان اعمل كذلك حتى تتايد هذه العدالة، واذا كنت اخون زوجتي واخدعها، او اخون زوجي واخدعه فلان الظروف قضت بهذا ولا يعرف احد شيئا عن جريمتي، وفضلا عن ذلك فاني اعيش باباء وشرف رافعا راسي الى السماء، واني ادفع للحكومة ما علي من الضرائب، واتمم لله ما علي من الصلوات والايات والمزامير وانا جالس على مقعدي، واعطي للفقراء بين الاونة والاخرى. وماذا يريد الله مني اكثر من هذا؟ الم اكن من رجال الفضل والنبل، ومن المسيحيين الابرار؟
هذا ما يقوله كل منكم ايها الفريسيون ، وتعتقدون بانكم افضل من هذا العشار الذي يضرب صدره وهو واقف وقد اتخذ له مكانا قصيا في الكنيسة وليس له كرسي قد نقش عليه اسمه كما تفعلون بل ربما لم يدخل الكنيسة منذ زمن طويل ولكنه يركع كل يوم في بيته وهو يضرب صدره ويقول ارحمني يا الله واغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تاخر.
اجل رانكم تعتقدون انكم من الابرار. كلا انكم لا تعدون من الابرار بل ستلقون العذاب في الاخرة وبئس المصير.
ونطق الاب بلجرين هذه العبارات بحماسة وبلاغة ولهجة خشنة قاسية ارعبت الذين كانوا جالسين على المقاعد الامامية. واسودت وجوه الاغنياء وكبار لموظفين كمدا، ورفعوا عيونهم الى ذلك الواعظ، وجعلوا ينظرون اليه بغيظ وحنق لانهم لم يعتادوا ان يسمعوا مثل هذا القول الجاف. واما السيدات اللواتي كن واقفات بجوار المنبر فان اعينهم احمرت من الغيظ، وجعل بعضهن يتبادلن الحديث فيما بينهن وبالطبع لم يكن ذلك الحديث في مصلحة ذلك القسيس.
كان الاب بلجرين بعد حديثه بالامس مع الاسقف قد عزم ان ينقي عظته من الالفاظ الجافة التي تثير غضب السامعين وان يحضهم على الفضيلة بلهجة غير حادة او خشنة ، ولكن الطبع غلاب فلم يستطع ان يهذب حديثه بل جعل يلقي كل ما جال بخاطره باللغة التي اعتاد الحديث بها ونسى وجود الكردينال ارنولد والاسقف سيبوي والعظماء والوجهاء. فكانت عظته تشبه عظات القرون الوسطى.
وصاح باعلى صوته:
ايها العبد الاناني الذي تعتقد ان الله اشبه بموظف كبير يجب عليه ان يسهر على مصالحك الخاصة وانه مكره ومجبور على ان ينجيك من الكوارث والنكبات، وان يرزقك بعروس غنية لابنك، وان يهئ لك الفرص لتكون من ارباب الملايين، وان يضمن لك النعيم في الاخرة لتشرب الماء الزلال في اقداح من الذهب. انك مخدوع بل اثم لانك تتصور الله على هذه الصورة.
ليس لك – ايها الشقي- ان تبرر نفسك امامه اذ هو يعرف ما في الضمائر والقلوب ولا تخفى عنه خافية، ولكن الانانية تدفعك الى الا تطلب الخير الا لاهلك فيجب عليك اذن ان تدع الخلق للخالق، وان تكف عن هذيانك ، فلا تقول له ما اعتدت ان تقوله، لا تقل له يا الهي انك لم تحسن الي مع اني ذاهب للصلاة في يوم الاحد، بل اني اصلي في المساء ايضاواحرم نفسي من التمتع بمشاهدة الصور المتحركة (السينما). كلا. فهل تظن الله اشبه برجل الشرطة عيّن لحراستك، وحراسة خزانتك الحديدية. كلا. والا فاعلم ان الله القادر على كل شئ ليس مثل الذين يشتركون في الصحف لارضاء اربابها ولا مثل الذين يحاولون الجلوس على مقاعد البرلمان او مجلس الشيوخ. وليست له لحية كما يصورون. بل ان الله يعطف على الفقراء كما يعطف على الاغنياء وكلهم سواء امامه. لا فرق بين غني ولا فقير، ولا بين امير وحقير.
ولقد اعمى الجهل بصيرتك فصرت تظن ان لقديسين يجب عليهم ان يكونوا من حماتك وانصارك. وان الكنيسة لم تبن الا من اجلك. وانه لابد ان يشاد فيها بفضلك وان ينشر القساوسة الدعاية لك فيتحدثون عما ستفعله من البر والاحسان. وانك لا تحب الله الا اذا حماك من الويلات واغدق عليك الخيرات.
اني اراك ايها الاناني لا تفرق بين الفضيلة والرذيلة، ولا بين الخير والشر. وان الغاية عندك تبرر الوسيلة، فتعمد الى ارتكاب الجريمة والاثم. الله – سبحا له – لا يحب المرائين ذوي الوجهين واللسانين، ولا المتكبرين الذين يمشون في الارض كبرا رافعين انوفهم الى السماء وقد ملكتهم الخيلاء.
هل تريد ان اقول لك الحق ايها الاناني المتعجرف. الله لا يسره ان يراك ماثلا بين يديه تصلي بلسانك لا بقلبك ، ولا يشمئز منك لانه لا يحب المرائين البخلاء الذين لا يجودون باموالهم الا سعيا وراء منفعة.
كانت علامات الدهشة والامتعاض ترتسم على بعض لوجوه، كما ارتسمت ايضا علامات الانشراح على بعضهم الاخر ومن بينهم احد القساوسة الذي طرب اشد الطرب من الموعظة التي القاها قسيس سابلوز.
واستانف الاب بلجرين قائلا:
وانت ايتها الاخت التي ارى وجهها ملونا بالوان ثلاثة. انك لم تات الكنيسة لتصلي لله ب ليراك الرجال وتتحول انظارهم اليك. وهل بعدئذ تريدين ان يكون لك مكانا في النعيم؟ بل الا تستحقين ان يقذف بك الى جهنم؟ وان ياخذ مكانك الفقيرات المعوزات اللاتي لا يجدن ما يكفي اطفالهن بل لا يجدن ما يسترن به انفسهن ويقيهن من شر البرد. كلا. ان الله لا يابه للجميلات ولا للجمال. ولن يمكن للدجاجة ان تكون حمامة ولا للغراب ان يكون طاووسا. ان الله لم يخلق المراة لتعف على الزينة والتبرج ولا لتقول السوء عن جارتها. ولا لتظهر زينتها للرجال بل لتكون عونا له وعاملة من عاملات الرحمة. واذا لم تقم بواجبها فهي خادمة للشيبطان . اذكري ايتها الاخت ان هذا الجسد سياكله الدود ويدب فيه البلى وتجزع الابصار رؤيته .
انك تظنين ان الدين عادة او انه اشبه بوثيقة التامين على الحياة- وثيقة تامين ضد الحريق الخالد. وان الصلوات التي تتممها شفتاك الجميلتان كافية لان ترضي الله وان الركعات التي تركعينها على الارض تجعلك من الصالحات. وتظنين ان الكنيسة مسرح يجمع الناس، فيرى بعضهم البعض ويقضون به اوقات فراغهم.
ثم اتكا الاب بلجرين على المنبر وصاح بصوت عال يدخل الرعب في قلوب السامعين وقال:
“ايها الفريسيون ، اذا كانت الكنيسة قد هجرها الناس واذا كان كلام الله لا يسمع اليوم فان الذنب كله واقع على رؤسكم لانكم ابدلتم الدين – دين التضحية وحولتموه الى اداة للسيطرة على عقول البسطاء والفقراء لتشبعوا بطونكم وتملاوا خزائنكم .
ان الله لا يطلب منكم الا البر والتقوى .. ايها الفريسبون يجب عليكم ان تعودوا الى الحق والفضيلة وان تكونوا جنودا للمسيح، تقدمون له كل ما تملكونه حتى حياتكم لتضمنوا الغلبة والظفر.
وكانت حماسة الاب بلجرين تزداد رويدا وحميته تزداد شيئا فشيئا حتى فاق من سبقوه. ولكن هذه العبارات الحادة الخشنة لم تكن ملائمة لعصرنا الحاضر. لان الحقيقة دائما مرة بل اشد مرارة من العلقم ولا يمكن للناس ان يسمعوها الا اذا نطقت بالكلام اللين، تمما مثلما لا يستطيع المرضى ابتلاع الدواء المرير الا اذا كان داخل غلاف يخفي مرارتته.
**

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s