عابر سبيل

ظلام الليل وبرد الشتاء ووحشة الطريق لم يكن يحس بها ، كيف يشعر بكل هذه العوامل المضنية وهو مدبر عن الدنيا بغير رجعة! ان قا النهر اكثر وحشة وبردا وظلاما! ولكنها لحظات تمر ، تخمد اﻻنفاس بعدها في المجرى الرطب.. ان احدا من اهل بيته ﻻ يدري ما انتوى.. حتى امه التي تحس خلجات قلبه وتستشف بغريزة اﻻمومه افكاره لم ير بخلدها ان الحياة هانت على قلبه وهي تساله وهو يهم بمغادرة البيت:
الى اين يا ممدوح؟
اجابها وقد نجح في اخفاء ما قد اضمر:
الى رافت زميلي.. اذاكر معه بعض الدروس.
صدقته اﻻم، او هكذا تظاهرت، فما كان لها ان تزيد همه باسئلتها.. حصيلة عام من الدراسة ضاعت لحظة اعلان النتيجة.. السهر والتعب .. ثم اﻻمال الباسمة التي علقها على نجاحه في الليسانس .. التوظف وتكوين اسرة.. كلها ضاعت!
لم يكن يتوقع نجاحه. ورغم انه المرة اﻻولى التي يرسب فيها في كلية اﻻداب.. اﻻ انه ﻻ يستطيع ان يتحدى القدر.
ظل ساعات بعد ان ادثه صديقه عزمي في التليفون:
حظ سئ يا ممدوح.
اطرق هنيهة في اسى ثم سأل صديقه..
وسهير؟!
سهير تخرجت!
ظل ساعات بعد هذه المحادثة الخاطفة وعيناه على التليفون تستجديان رنينه حتى نفذ صبره.. فرفع السماعة وادار القرص وردت عليه هي بنفسها واجابته بحدة:
اسفة يا ممدوح ! ارجوك انتبه لدروسك واعتبر خطوبتنا منتهية..
ثم فجاة سمع صوتا يهدر:
دعيني اكلمه انا
انتظري يا ماما . لقد كلمته بما فيه الكفاية!
اسمع يا ابني . ﻻتطلب هذا الرقم ثانية. و ﻻ تتعرض لسهير بنتي.. انتهى لعب العيال.. ان خطوبتها ﻻبن عمها ستعقد غدا.
احس بقلبه يهبط مع السماع التي سقطت من يده.. كان يتصور ان يحدث معجزة وﻻ يحول بينه وبين سهول عزول..
ومضى في الشارع .. ذكريات اﻻسى امست كالضباب يحجب الرؤية .. يرى الشتاء تحول الى لفح يحرق اعصابه.. صور الماضي تدق راسه فلا يسمع اﻻت تنبيه السيارات المارقة او صافرات الترام تخترق الميدان الكبير. لقاؤهما اﻻول كان في مدرج السنة اﻻولى تجسم له كالخطية .. ذلك اﻻحساس المشبوب الذي جذبه اليها من اول نظرة .. ذلك اﻻحساس لم يكن اﻻ وهما..
ومضى الى مطعم لكنه لم يجد شهية للطعام .. ودخل السينما لكنه غادر في منتصف العرض.. وراح يفكر: طيف يتحول الحب في طرفة عين الى عدو غادر.. كيف تحولت بورشيا المخلصة الى شايلوك اليهودي اﻻثم.. تريد نهش لمه وادماء قلبه؟ انه عصر اﻻلة .. انه الجنون بعينه.. لماذا احيا في هذا العالم المتقلب؟ لماذا ابقى طرفا في هذه المعركة التي تفتقر الى المبادئ ؟
هل انه حياتي بموسى حلاقة امزق به شرايين يدي؟ موت بطئ نوعا ما. قد يسعفني عابر سبيل.. ثم احاكم بتهمة الشروع في القتل! اقراص الترامادول؟
ﻻ.. ﻻ .. ان الطبيب الشرعي سيمزق حتما امعائي..
النيل اذن.. نعم النيل هو خير مثوى لي. لن اكلف احدا بشراء كفن لي، ولن اقسر احدا على تشييع جثماني، في القاع تكون نهايتي، في القاع يكون خلاصي وقبري!
ومضى في شارع الكورنيش، ورى مكانا مظلما ووضع معطفه على السور وتاكد من الورقة التي خطها ﻻهله في جيبه .. وابتسم في مرارة وهو يطيل النظر الى بطاقة هويته التي حان موعد تجديدها. وزفر متنهدا:
ما عادت بي حاجة اليك..
وتلفت حوله واذا سيارة تمرق المكان المظلم .. بعدها سيارة اخرى توقفت وظهر من زجاجها اﻻمامى فتى وفتاة وانتظر.. لكنها لم تغادر لعلهما عاشقان ﻻ يريدان انهاء اللقاء.. وتمتم ساخرا:
مجنون واحمق.. غدا تخونه .. ويلقى نفس مصيري!
لم تلبث السيارة ان غادرت.. وتاهب ﻻلقاء نفسه في النيل ولكن سيارة اخرى اخذت تقترب . انها لبيست سيارة خاصة هذه المرة كان عليها هلالا احمر.. ما للاسعاف والراميات!
ولكن الصوت المنبعث من السيارة ليس همس وغزل.. انه صوت حائر ﻻنسان يستنجد وانين انسان يتوجع.. وخرج ممدوح من دائرة الظلام يدفعه فضول غريزي للاستطلاع .. وما كاد يلمحه السائق حتى بادره:
من فضلك.. البطارية فرغت. اريد منك دفعة.. ووجد نفسه يدفع من مؤخرة السيارة يدفعها للامام بكل قوة.. قفزت السيارة ثم توقفت.. وتمتم السائق ساخطا:
الهي يلعنك..
ودفع ممدوح السيارة فقزت مرة اخرى ثم توقفت وعلا صوت السائق لاعنا..
متطوع اﻻسعاف اين ذهب..
ودفه ممدوح.. واخيرا دار المحرك..
الف شكر يا استاذ!
ممدوح..
لقد ارسلك القدر رحمة بي..
تفضل اركب معي..
شكرا..
لقد جاوزنا منتصف الليل ولن اتركك للبرد.
… ههه

على الطلاق لن اتركك.
ووجد نفسه تحت ضغط السائق يستقل معه السيارة. وبعد دقائق وجد نفسه يشارك في عملية انقاذ مصاب في حادث.
حسنا فصيلة دمه زيرو..
ردت الممرضة: اسفة يا دكتور ﻻ توجد لدينا.. انت تعرف ان هذه الفصيلة نادرة.
اطلبي من ي مكان بسرعة.
طلبنا يا دكتور..
اطرق الطبيب متحسرا:
مساكين اصحاب فصيلة زيرو. يعطون دمهم لكل الفصائل وﻻ ياخذون اﻻ من انفسهم.
واثار اسى الطبيب مناقشة هادرة محتدمة:
ماذا تنتظر.. الست من ذات الفصيلة؟
نعم، من الذين يعطون وﻻ ياخذون!
لذة الحياة في البذل والعطاء.
لن ابذل دمي ﻻنسان ﻻ اعرفه.
بل تعرفه جيدا.. وتعيش معه العمر كله.. انه اﻻنسان الذي تؤمن به..
لن اعرفه بعد اليوم ساحيا بذاتي ولذاتي !
اذن وداعا
ﻻ انتظرني.. اني احس بالدوار .. هل تتركني اموت؟!
ها اني معك..
نعم بدونك ﻻ اعيش.
تقدم اذن لقد تاخرت كثيرا.
واحس والدم ينزف من وريده الى اﻻنبوبة المعلقة بنظرات اﻻعجاب تطوقه .. وبسمات بيضاء تحتضنه .. واحس بنبض الحياة ومعنى الوجود

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s