
الم بي اليوم احساس قابض، نوع من ذلك العجز الصبياني المتهيب واﻻمانة المناقضة لنفسها، مزيج منهما يتجاوز العقل ويسلبه على مهل ويراوغ المسؤولية والواجب، يرافق ذلك كله تسامح كلف، كتسامح جد مع اطفال مزعجين.
وصلت الى المحطة في الموعد . واذ جعل القطار يشق طريقه وراحت عجلاته تصدر شخللة رتيبة يرافقها مشهد الجبال اﻻزلى تتلاشى في الفضاء الكثيف، رحت افكر..
مار فرنسيس يحدث عن الموت ويدعوه للمجئ بقوله “هلمي يا اختي المنية”. ذكرني بذلك الراهب الذي كرها في النوم كان يستحضره كل مساء بقوله “هلم يا عبد السوء”. ﻻ يمض وقت طويل حتى يدرك المرء انه ليس بحاجة الى شئ. اه لو كانت اﻻمور تنهي نفسها بنفسها.. اه لو يستطيع المرء ان يتنصل من كل شئ. ولسوف انظر يوما وارى عظامي وقد استحالت الى رماد. لن يستطيع الناس ان يتبينوا حتى العظام على الرمال البكر الموحشة حتى يقول الله يوم القيامة “قوموا”. لن يطفو على السطح اﻻ من اسعفته اعماله .. كلا، فاعمالنا كفيلة ان تدفع بنا الى موارد التهلكة، وان تهوى بنا الى قاع جهنم. واهم من اﻻعمال الاقوال. فالقول ينتج فعلا. وما اجمل ان تكون الكلمات قوية و رقيقة في ان واحد.
لم يزعج نفسه بالحظ؟ لن يؤذيه الحظ في قليل او كثير.. اذن لماذا غيروا اسمه ان لم يكونوا يحاولون اسعاف حظه؟
لقد حاولت معه والدته ان تثنيه عن عزمه، لكنه ركب رأسه هذه المرة بعناد، ونزل بثياب كالحة ظهرت بلون احمر في ضوء الشفق. وخطى بقدميه نحو المجهول، سار مسافات طويلة، وتسلق كثبان من الاكثاب الرملية حسبها جبالا شاهقة الارتفاع . وفي النهاية حين هدأ الى نفسه بعد ان دخل الى مغارة منحوتة جزئيا في تجويف جبلي متوسط الانحدار ، همس “ثمة فجوة بيني وبين رغباتي لم يعمل اي شئ ﻻجل ردمها. اﻻبواب جميعها كانت موصدة في وجهي .. كن رجلا بمعنى غنيا ولبقا وسريعة البديهة، ذكيا مهندما… الخ من المتطلبات التي فوجئ انها لن تجتمع اﻻ في سوبرمان.
وعلى مدى اسابيع وشهور وسنين كان يصلي. لقد تعلم ان كل مفهوم للبطولة يتصدع امام الواقع وامام رغبات متنازعة. كان ذلك مفقودا في مكان ما في الظلمة خارج دائرة النور وحان اﻻن وقت الصراحة. ففي الصراحة راحة.
همس لذاته مشفقا: اﻻ توافقين معي على انني لن اكون يوما ما تحلمين به؟ لن احقق ما وعدتك به، فما العمل؟ فهل لم اكن يوما رجلا؟ .. لست اتخيل انني اقرر لوحدي.. مضى وقت طويل قبل ان اتعلم انه ما عاد لي الحق ان اختر لوحدي او اقرر شيئا بمفردي.. لابد لي من مشير! وابتسم، لابد لي من معين نظير!
اني اكره كلام الشفقة على الذات. هذا يدفعني الى الاشمئزاز يصل الى حد التقيؤ. كنا انني لا ارغب في جلد الذات. كنت صارما مع ذاتي لسنوات، فلم لا ارق لها الان؟
لقد ارتايت ان اخرج من هذا الوضع باقل خسارة وباي ثمن حتى لو ادى ذلك الى ان اشطب على كل ما قلته بجرة قلم، وان امحو كل ما انتويته بممحاة.
مضت ايام اتخيل نفسي اسير في نفق مظلم من كثرة تقارب الافكار المتناقضة وتماهيها الى حد التعقد ..
عشت مراحل الصبا والشباب والرجولة اعمل واعمل. اما المتعة بحد ذاتها لم يكن لها ويجب اﻻ يكون لها مكانا في حياتي.
قلت سوف امنح لذاتي فرصة ثانية ، فهل فشلت؟ وان كان فباي رجاء ارغب في ان امنحها فرصة ثالثة؟
امامي رتل طويل من متطلبات الحياة واﻻعداد.. اخال انه لن ينتهي ابدا.
اصبح اترابي في اعلى الهرم وانا اسفله وان كنت لم اهوى بعد الى القاع. نعم نعم.. كم هو جميل ان يخال المرء نفسه صاعدا الهرم، في قمته .. لكنه يعمى عن رؤية اخرون نازلون. هذه سنة الحياة، لن يتبوأ احد القمة ان لم ينزل عنها الاخرون.
ثمة غمامة كثيفة تتدلى فوق حياتي وتعمي عيني وتغشي بصيرتي.. جعلتني حائرا.. اي قرار اتخذ واي طريق اسير.
قلت يوما لنفسي: لتراجع نفسك.
قد ابدو ابلها وان الفظ تلك الكلمات او اخال نفسي ندا لنفسي.. اعتبرها خصما في معركة، ﻻ رفيقا محبوبا.. !