عن كتاب : متحف القلوب الكسيرة – قصة طبيب يفقد ايمانه بالله في المستشفى ثم يجده هناك ايضا في متحف الالم
مؤلف هذا الكتاب طبيب ناجح، كان يحتل كرسي الادارة في احد المستشفيات الكبرى بمدينة لندن. وفي بداية حياته الطبية اصطدم بمشكلة الالم التي تقع تحت لمسه وسمعه وبصره بين جدران المستشفى الذي لقبه بمتحف القلوب الكسيرة. وامام تلك المشكلة الازلية، مشكلة الالم، فقد ايمانه في طبيعة الله الصالحة، وحتى في وجود الله. وكف عن الذهاب الى الكنيسة.
ولكن الاحداث عينها التي عصفت بايمانه الاول اعادت اليه ايمانه مرة اخرى.. ومن خلال غيوم الالم الحالكة السوداء استطاع ان يرى قوس قزح محبة الله مرتسما في الافق.
نرجو ان يجد القارئ الحبيب في هذه القصة اجابة على السؤال الذي كثيرا ما تردد: لماذا الالم في هذا الوجود؟
***
-1-
كنت اعمل طبيبا باحدى المستشفيات. في احد المرات كانت هناك اسرة كثيرة امامي. واسرعت الى سرير منها، كانت ترقد عليه طفلة صغيرة ذات شعر ذهبي وعينين ضاحكتين، وهي تضم الى صدرها دمية في شكل دب تكاد تصل الى حجمها. ولقد بدا لكل انسان انها خلقت للضحك والحياة. استمر في القراءة
أرشيف التصنيف: روايات
صوت في الريح
همست يونا “هلم نرجع الى الرب، لانه هو افترس فيشفينا، ضرب فيجبرنا. يحيينا بعد يومين، وفي ثالث يقيمنا فنحيا امامه”.
فتابعت هدسة من حيث توقفت تالية كلمات النبي اشعياء “لنعرف، فلنتتبع لنعرف الرب. خروجه يقين كالفجر. يأتي الينا كالمطر، كمطر متأخر يسقي الارض”.
امسكت يونا يد هدسة. “لماذا في الظلام فقط نتذكر ما نسيناه في النور؟ ما فكرت في كلمات النبي منذ الطفولة والان في هذه الظلمة توافيني بصورة اوضح منها يوم سمعتها تقرأ”. وبكت بهدوء. “لابد ان يونان شعر بمثل هذا اليأس القاتم في بطن الحوت”.
قالت هدسة بدون تفكير “كان النبي هوشع يتكلم عن يسوع والقيامة”.
افلتت يونا يد هدسة وحدقت في الظلام. “انت مسيحية؟” وكان لهذه الكلمات وقع لعنة. فارتاعت هدسة، ولم تجب. لقد احست بحقد يونا البارد كان الصمت الذي نشأ بينهما اثخن من جدار.وارادت هدسة ان تقول شيئا، ولكنها لم تجد الكلمات المواتية. ثم قالت لها: “كيف يعقل ان تؤمني بأن مسيحنا قد جاء؟ هل انقذنا من الرومان؟ وهل الهنا يملك الان؟”. لقد صدمت يونا و صارت ترى العالم ظالما مظلما. و فكرت انه لا يمكن لهذا الوضع ان يدوم. لا يمكن للاغنياء ان يسحقوا الفقراء دائما، و لا ان يستمر قهر الغرباء للبلد دائما. يجب ان يتغير هذا يوما. فالظلم في الارض يصرخ نحو السماء، و الله يرى كل شئ و يسمعه. فلماذا يسمح بهذا ان يدوم، لماذا لا يقلب الاوضاع.. لماذا لا يأتي الله بنفسه ليمارس سلطته. وشرعت تبكي.
همست هدسة: “لقد جاء يسوع لكي يكفّر عن خطايانا”.
فامتقع وجه يونا حقدا وحزنا، وقالت: “لقد عشنا بمقتضى شريعة موسى طول عمري. فلا تحدثيني بشأن الكفارة”. ثم نهضت وابتعدت .. انها لن تنجر الى جدال حول امور الدين. ليس الان. لقد عاشت دائما بحسب الشريعة، فلماذا ينبغي ان تشعر بالذنب؟ ..
اسندت هدسة رأسها على ركبتيها، وكافحت اليأس.
كانت يونا قد قعدت بقرب نساء اخريات، حيث حدّقت الى هدسة لحظات، ثم اشاحت بوجهها. لا احد يشعر بما يعتلج روحها حقا، فهي طالما عاشت كفتاة مدللة، و طالما نظرا ابوها وامها اليها عبر غمامة من توقعاتهما الذاتية، وقضيا كثير من الاوقات محاولين ان يقولباها بمقتضى تلك التوقعات.
صلت هدسة في سرها: “الله انها تحتاج اليك! انها تظن انها تعرف الحقيقة.. انها لا تريد ان تسمع ، كما اني اشعر اني غير نافعة تماما.. كيف يمكن ان تختار يونا الحق ان لم يكن لها اذنان تسمعانه؟ كيف يمكن ان تطلب السيد المسيح ان لم تشعر باحتياجها الى مخلص؟ فان يونا لم تفهم، رغم انها تحفظ اجزاءا كبيرة من التوراة بحكم انها نشأت في عائلة يهودية متدينة”.
هزت هدسة رأسها اسفا. وتساءلت: “كيف نصل الى اشخاص لا يشعرون بحاجة الى مخلص او برغبة فيه؟ رباه، ماذا افعل لاجعلها تدرك انك ههنا بالقرب منها، وانك مقيم في بيتها، ان لم يكن في قلبها؟ اني عاجزة. اني اخذل يونا. يا رب، اني افقدها، فوراء الابتسامات والضحكات ، هي هالكة. يا الهي ، ما اعظمك! يا من تقول لكل واحد “الكلمة قريبة منك . في فمك وفي قلبك، اي كلمة الايمان التي ينادي بها كل محبيك”.
لم تكن ملامح يونا تنم انها مطمئنة او تشعر بسلام. كان مصباح الزيتت في غرفتها ما يزال مضاء..
(عن رواية “صوت في الريح)
افرومنتيوس #2
مرت الايام وفرومنتيوس لا يكف عن الصلاة من اجل صديقه الذي لا يعرف الى اين اخذوه وماذا اصابه، كما كان يصلي من اجل هذه القبيلة ان يعطيه نعمة فيجد نعمة اكثر في اعينهم. كما يستطيع ان يتعلم لغتهم ليقدم لهم بشارة الانجيل المخلّصة.
اعطى الله نعمة وذكاءا خاصا لفرومنتيوس فبدأ يفهم الكلمات التي يتفوهون بها ويستوعب معناها.. شيئا فشيئا بدأ يتحدث معهم قليلا، وهذا اثار اعجاب افراد القبيلة، وسروا بهذا، حتى الاطفال شعروا بمودته، فكانوا يقتربون اليه ويضحكون معه، اما الامير “ارغاديو” بن الزعيم “اركاديو” الذي شابه اباه في الضخامة فقد صار صديقا حميما لفرومنتيوس وكثيرا ما كان يجلسان يتسامران، ولا سيما ان ارغاديو حاول ان يفهم بعض الكلمات بلغة فرومنتيوس، وقد قرّبت المحبة المسافة بينهما..
في احد المرات انطلق الصديقان الى قلب الغابة معا. كانت ثمة ذئاب تعوي في وسعك ان تسمعها اثناء النهار وفي اواخر الليل تعوي غاضبة، واحيانا تزمجر في صوت عال بالتناوب، وفي كثير من الاحيان كانت تظهر على اطراف منطقة الاكواخ. واخيرا وصلا الى قمة تل حيث كان يمكنهما ان يشاهدا الى اسفل من مسافة بعيدة ، مجموعة من الصخور تشبه عمالقة متحجرين ، تتألق مثل ياقوت اذا ما سقطت اشعة الشمس عليها .
اشعل اركاديو بعض الافرع الجافة. توهجت النيران عندما اشتعل فرع اخر غليظ، فتألق وجه فرومنتيوس وان كانت بقية المكان يكتنفه الظلام.عاون فرومنتيوس اركاديو فغذى الموقد بكميات اخرى من الافرع الجافة. جلس صامتا لبعض الوقت وهو يصيخ السمع لاصوات قريبة وبعيدة. كان الوادي مسكونا يبدو وكأنه مسكونا بالارواح. وفيه مخلوقات لا يزيد حجمها عن حجم حبة الارز، ولكنها كانت قوية وخطرة. كانت الطيور قد عادت الى اعشاشها بينما خرجت الحشرات والحيوانات الليلية من اوكارها وكنت تسمع اصوات بعضها وهو حتى ينط في الماء او يدب في الارض. لكل شئ لغته الخاصة به، العواصف الرعدية وقطرات الندى الصباحية والنمل الزاحف .. لم يحب فرومنتيوس شيئا في حياته قدر حبه للاخرين. كانت النار المتأججة تشبه حياته ، متأججة في اعماقها، له قلب يشتعل حماسا ويحمل نورا ودفئا للمحيطين، وهذه الايام القليلة التي عاشها بين افراد قبيلة النمنم بدت وكأنها جمرات تشتعل وتتحول الى مشاعل لها القدرة ان تبدد ظلام المكان او تبث الدفء في اوصال مرتعشة عانت طويلا من برودة ليلة تكاثر فيها الصقيع.

ان الطبيعة لم تكن يوما هي السبب! ان السبب هو الجهل! السبب هو انه لم تصلهم بعد نور معرفة الله
غشى ذهن فرومنتيوس سحابة قاتمة وهو يفكر في نفسه: لقد عاش افراد النمنم هنا لقرون عديدة وتناقلوا اساطيرا وعادات شاذة كثيرة عن اجدادهم. ان طبيعة المنطقة الموحشة وتضاريسها الصعبة القاسية يتخللها الكآبة، وتتغلغل في كل نسمة تهب عليها روح الشر، لابد انها هي السبب في ان سكان هذه المناطق اضحوا بعد مدة من الزمان شبه الاماكن التي قطنوا بها ، فنجدهم قساة ومكتئبين. ثم تنهد وهو يقول: لا، هذا ما يبدو على السطح، ان الطبيعة لم تكن يوما هي السبب! ان السبب هو الجهل! السبب هو انه لم تصلهم بعد نور معرفة الله، وبشارة الانجيل المحيية. لكن كيف يمكنني ان انقل لهم بشرى الخلاص؟!
مظهر فرومنتيوس الحزين وذهنه الشارد دفع ارغاديو لسؤاله:
– هل انت حزين لانك صرت اسيرا في قبيلتنا؟
– لا، ولكنه لم يستطع ان يشرح له السبب الاخر ، وهو انه فقد اعز ما يملك، وهو كتابه المقدس اثناء غرق السفينة. كتابه المقدس الذي يمثل الغذاء والعزاء له في هذا المكان الموحش.
وفي احد الايام وبينما فرومنتيوس كان يتجول في الغابة يجمع بعض الثمار رأى رجلا كهلا من القبيلة يسند ظهره الى جذع شجرة وفي يده كتاب يقلب صفحاته.. اقترب منه فرومنتيوس وتعرف على الكتاب انه الكتاب المقدس.. تحدث فرومنتيوس معه ليعرف كيف وصل اليه. بدى ان الرجل يريد ان يقول له انه وجده على شاطئ البحر. ترك افرومنتيوس للرجل الثمار التي تعب في جمعها طوال اليوم كهدية.. اراد الرجل ان يرد له الجميل فسأله ان كان يقبل الكتاب؟ تسلم فرومنتيوس كتابه المقدس وبلغ به التأثر ان تساقطت دموعه وعانق الكهل وقبله، وشكر الله الذي لم يحرمه من مصدر عزاءه وغذائه الروحي.
لاحظ اركاديو ان فرومنتيوس يتغيب عن القبيلة وقتا ليس بقليل، فاراد ان يعرف السبب.. وفي يوم تتبعه الى مكان بعيد في الغابة.. ووجده يجلس ويفتح كتابه ويقرأ لوقت طويل ثم يحني ركبتيه ويبسط يداه..
جذب هذا المنظر اركاديو فاقترب من فرومنتيوس المستغرق في صلاته، ولم ينتبه لاركاديو .. لاحظ اركاديو دموع فرومنتيوس وهي تنساب على خديه في صلاته. فاقترب منه واخذ يربت على كتفه قائلا:
– لا تخف يا فرومنتيوس. اننا لم نأكلك، ولن نأكلك يوما لاننا احببناك كما انك صرت واحدا منا.. وقريبا عندما نقتنص شخصا اخر ستشاركنا الاكل والاحتفال.
اراد ان يعرف من ارغاديو ماذا حل بصديقه ديسيوس ، هل اكلوه ام هل بيع عبدا، لكن ارغاديو لم يجبه. وتناهي الى سمعه صوت طائر من بعيد : بومة، يصفها افراد القبيلة انها ام الخراب، وانساب الى مسامعه الصوت من جديد ولكنه كان اقوى من المرة السابقة. كان قد اتخذ مجلسه الى جذع الشجرة مغمضا العينين مشتت الافكار فعلى الرغم من الصعوبات والمشقات تقافز الى ذهنه بعض الخواطر المعزية. فتح فرومنتيوس عينه ليجد ارغاديو يحملق فيه سائلا: ما خطبك؟ هل تعاني من ألم ما؟
– لا، لا شئ. انني في خير. ثم اردف: ” سيدي اركاديو! ان الذي خلق الانسان على صورته ومثاله لا يرضى ابدا ان يأكل الانسان اخيه الانسان.”
– ومن الذي خلق الانسان يا فرومنتيوس؟
الله هو الذي خلق الانسان والحيوان والجماد. خلق كل شئ، السماء والارض والبحر وكل ما في جميعها، لانه يحب جميع الناس.
– اين هو الله الذي تتحدث عنه؟ اه لو رأيناه في قبيلتنا النمنم!
ابتسم فرومنتيوس وقال:
– ان الله الذي احدثك عنه ليس انسان مثلنا .. لكنه روح غير محدود بمكان او زمان.. هو يرانا ونحن لا نراه.. انه يحدثنا من خلال الكتاب المقدس ونحن نتكلم معه في صلواتنا.
وضع اركاديو يده على الكتاب الذي بيد فرومنتيوس وهو يقول:
– لكن، هل هذا هو كتاب الله يا فرومنتيوس؟
نعم، انه كتاب الله العجيب، الوحيد الفريد.
– وهل الله هو الذي كتب هذا الكتاب؟
– لقد كتبه 40 رجلا من رجال الله القديسون.
– وهل الاربعون رجلا عاشوا في قبيلة واحدة مثل قبيلتنا؟
– لا، انهم عاشوا في ازمنة مختلفة . اول واحد من الكتاب هو موسى الذي كتب الاسفار الخمسة الاولى ثم جاء بعده يشوع الذي كتب خبر موته في نهاية سفر التثنية وكتب سفر يشوع وهكذا الثالث والرابع الى الاخير وهو يوحنا الحبيب الذي ختم الكتاب بسفر الرؤيا.
– ياه! قد يكونوا استمروا في كتابته عشرون عاما.
– اكثر من هذا بكثير جدا. لقد استغرق كتابته الف وستمئة عام.
– معنى هذا ان معظم الكتّاب لم يروا بعضهم بعض.
– نعم، لم يروا بعض لهذا السبب ولسبب اخر، هو انهم كتبوه في اماكن مختلفة: موسى كتب في صحراء سيناء، ويشوع كتب في ارض كنعان، وسليمان كتب في بابل، ومرقس كتب في مصر، وبولس كتب في دول مختلفة من اوربا بل ان بعض ما كتبه كتبه في السجن، ويوحنا كتب وهو منفي في جزيرة منعزلة تدعى بطمس.
– حقا انه كتاب عجيب!
– ومن العجيب يا اركاديو ان كل كاتب له عمله المختلف وثقافته المختلفة عن الاخرين. موسى كان عالما وحكيما بكل حكمة قدماء المصريين، وداود كان ملكا، ودانيال كان وزيرا ، وبطرس كان صيادا، ولوقا كان طبيبا، وعاموس كان مثلكم.
– كان مثلنا يأكل الغرباء؟
وفي هذه اللحظة حط عصفور على بعد بضعة اقدام منهما. كان مخلوقا غاية في الجمال، تحيط عينيه هالات صفر فيها مسحة من لون قرمزي، وبريق كالياقوت على جناحيه. غرّد مرة على استحياء وفي رقة ولكنه كان تغريدا مفعما بالحياة. شد انتباههما للحظات، وخطر لفرومنتيوس هذا الخاطر: ان الطبيعة تشبه انسانا قاسيا يخفي في صدره فؤادا رقيقا. ثم اطلق انّة خفيفة وهو يقول:
– لا، لم يكن مثلكم في هذا، ولكنه كان مثلكم يجني اثمار الاشجار، كان يجني ثمار الجميز.
– وهؤلاء عندما كتبوا في اماكن وازمنة مختلفة هل كتابتهم اختلفت ام اتفقت مع بعض ؟
– الكتاب كله منسجم مع بعضه البعض، لا يوجد اي تناقض في موضوعاته، رغم ان 32 كاتبا عاشوا قبل الميلاد..
– ميلاد من؟
– ميلاد المسيح. لقد تنبأوا عنه وعن فدائه للبشر ، كما ان ثمانية كتبوا بعد ميلاد المسيح وسردوا لنا قصة حبه للبشر.. كتاب العهد القديم يحوي 46 سفرا تحكي عن قصة خلق العالم والاباء الاولين و التاريخ القديم لشعب الله، وكتاب العهد الجديد يحوي 27 سفرا تحكي لنا عن حياة المسيح والكنيسة التي اسسها والسعادة الابدية التي تنتظرنا في السماء.
تنهد وتمتم ارغاديو ببضع كلمات. عندما تمعن فيها فرومنتيوس ادرك انه كان يدعو الالهة ان تدرء عنه البلية وسوء الحظ بالتأكيد، حزن فرومنتيوس اذ فكر ان الارواح الشريرة تسكن في اماكن الادغال هذه وتحضهم على هذه الافعال الشنعاء وتدفعهم دفعا نحو الهاوية.
كان الوادي يغفو تحت عباءة الظلام، مكشوفا ومجردا من كل شئ الا من الاعشاب والتربة التي تراكمت عليها اوراق الشجر المتساقطة. نهضا الاثنان ثم هبطا التل معا . كانت ثمة نسمات رطبة تهب و تحمل معها عبق الزهور البرية والاعشاب الطرية والنباتات المزهرة اليهما، طوال سيرهما، حتى وصلا الى منطقة الاكواخ .
افرومنتيوس #1
هتف الربان بالملاحين والركاب معا:
“حظ سعيد يا رجال، أنتم بصدد خوض رحلة طويلة، لكنكم في أيد أمينة . سأحسن قيادتكم، لكن عليكم ان تتنبهوا، أن من يحسب نفسه قادرًا على عمل كل شيء يعرض الجميع للاخطار.”
بعدها أعطى بعض الأوامر بالتحرك . رفع البحّارة مرساة السفينة فابتعدوا ببطء عن رصيف ميناء صور وهي تصر محدثة صوتًا وهي تشق الهواء ببطء. بدى ان السفينة تتحرك ببطء شديد في الماء، وكأنها لن تغادر ميناء صور قط.
اما الربان الذي كان يبدو صارمًا صلبًا قوي البنية فبدا وكأنه تمثال نحت من صخر، بشرته غليظة سمراء من أثر إمضاء عدة سنوات تحت الشمس، حمل الجانب الأيمن من رأسه ندبة بيضاء طويلة،
وقف في مقدمة السفينة ممسكا بالدفة وقد سدد نظره صوب البحر، مستغرقًا في التفكير، لا يتكلم ولا يأبه بمن حوله، ولا يحدثه أحد . بدا أن لا احد يعرف إلام كان ينظر، فلم يكن إلا ماء البحر يمتد بلا نهاية. وما هي الا لحظات حتى بدأت السفينة تأخذ سرعتها بفعل قوة الرياح. علت وجه الربان نظرة كانت ستتحول على وجه أي رجل آخر إلى ابتسامة. فقد ازداد الجو دفئًا مع اتجاه السفينة جنوبًا الى الحبشة. كان الاستمتاع بضوء الشمس على ظهر السفينة يشعر المرء بالسرور، حتى الربان آثر الهواء الطلق على البقاء في حجرته قائلا: “لدى النزول إلى حجرتي المظلمة اشعر كأنني أهبط إلى قبري”.
في اليوم الثاني من الابحار نشبت مشاجرة بين اثنين من الملاحين ولم ينتبه ربان السفينة وطاقمه أثناء انشغالهم بتعنيف الطرف الذي اعتبروه مخطئا ان احد الحبال التي تثبت صاري السفينة – الذي حمل عبئًا ثقيلًا – بمكانه والتي ربطت حوله بإحكام شديد منذ بدء الابحار قد حدث به فتق. تأرجح الصاري بقوة. بدا أن الكل لا يدري كيف يتصرف. وقف الملاحون يشاهد الصاري وهو يتأرجح على ظهر السفينة إلى الأمام وإلى الخلف على نحو لا يمكن السيطرة عليه، والحبال التي ثبتته بموضعه تتأرجح معه ضاربًة الهواء كالسياط. خشي الملاحون أن يقعوا خارج المركب إن اقتربوا كثيرًا من الصاري.
وهذا هو ما حدث بالضبط. اقترب احد الملاحون منه ليلقي نظرة عليه عن كثب، لكنه أدرك بعد فوات الأوان أن القيام بذلك كان خطًأ؛ إذ ارتدت عارضة السفينة إلى الخلف فطار في الهواء من على ظهر السفينة.
فسارع الربان، عثر على حبل آخر وربطه حول عارضة السفينة واوقف حركتها باحتضانها والثبات في موقعه ثم انخفض تحت العارضة وربط الحبل بجانب السفينة الآخر فاستقرت العارضة في موضعها. ولكن هذا لم يدم الا دقيقة اخرى بعدها انخلعت العارضة وما هي الا لحظات حتى كان جميع الركاب في البحر يكافحون الامواج المتلاطمة.. نجا افرومنتيوس ورفيقه اديسيوس الى شاطئ جزيرة لا يدرون ما هي.
عندما افاق فرومنتيوس ركع ليصليا شكرا لله ثم انشغل اديسيوس باعداد حطب للتدفئة وللانارة ليلا:
ولم تمر الا لحظات قليلة حين سمعا اصواتا غريبة. حدث كل شئ بسرعة عجيبة، حين وجدا انفسهما مقيدين بواسطة اناس شبه عراة. انهم افراد قبائل النمنم اكلي لحوم البشر.

انهم قبائل النمنم اكلي لحوم البشر
بعد فترة سمعا قرع الطبول قرعات متتابعة سريعة. جاء رجال اشداء و فكوا قيد اديسيوس واخذوه ومرت ساعات طويلة حتى غابت الشمس. بينما بات افرومنتيوس مقيدا الى شجرة . في صباح اليوم التالي فك قيد افرومنتيوس واوقف امام زعيم القبيلة ويدعى “اركاديو” كان رجلا اسمر ذو شعر اشعث تعلو وجهه ندبة طويلة اثر اصابة بالة حادة ما، حاول اركاديو ان يفهم افرومنتيوس انه قد صار له عبدا ولكنه لم يستوعب هذا الامر الا عند الظهر حين سمح له بتناول الطعام مع اشخاص اخرين.
داخل الكوخ الذي تراصت فيه كل مقتنيات الزعيم من هدايا مزركشة وتحف ثمينة.. كانت لغة التفاهم بين فرومنتيوس واركاديو لغة الاشارات. كان اركاديو يحذر فرومنتيوس خوفا من الانتقام والغدر والخيانة لعدة ايام، ولكن بعد ان لمس هدوءه ووده ومحبته وتفانيه وامانته اطمئن اليه ووثق فيه واصبح يحبه ويستريح اليه.. لقد وجد فرومنتيوس نعمة في عيني اركاديو.
مرت ايام قليلة واذا بيد فرومنتيوس تمتد الى كوخ اركاديو القذر المزدحم ببواقي الطعام، والذي علقت في احد جنباته جماجم كثيرة، فهدمه واعاد بنائه في شكل هرمي رباعي جميل.. خصص ركن للطعام اقام به مائدة بدائية صنعها من الاغصان الجافة.. فرح اركاديو بالكوخ الجديد، غير انه طلب من فرومنتيوس ان يعيد الجماجم – التي حاول افرومنتيوس القائها بعيدا- اعتقادا منه انها تطرد الارواح الشريرة.
كان هذا الكوخ بمثابة قصر الحاكم الذي استقر فيه اركاديو بمفرده، اما زوجاته واولاده فقد كان لهم اماكن اخرى يعيشون فيها وهو يتردد عليهم.. انهم لا يعيشون على الارض، ولكنهم مثل باقي افراد القبيلة صنعوا عششهم فوق الاشجار بمهارة بالغة اذ اختاروا الفروع المتشابكة وربطوها جيدا جاعلين منها فرش لهم.. كل عشة بها الزوجة والاولاد، اما الرجل فانه يملك اكثر من عشة .. اما طعامهم فكان يعتمد اساسا على ثمار الاشجار بالاضافة الى ما يصطادونه من الحيوانات، فجميعهم صيادون مهرة.

بعد بضعة ثوان من التلاوات الخاصة يومئ رب العائلة برأسه لزوجته او زوجاته فيبدأن في الطهي، وفي هذه الاثناء كان الاولاد يلعبون بمرح
كان الاولاد في العادة يمرحون طوال النهار في الاماكن الظليلة بالقرب من النهر الذي يبتعد قليلا عن منطقة الاكواخ. مناسب وكان كل رب عائلة عليه ان يدعو لارواح الموتى ويستأذنهم قبل اشعال النار لاعداد الطعام عند الظهر، ولحسن الحظ كان الموتى يجيبون بالايجاب على الدوام. وبعد بضعة ثوان من التلاوات الخاصة يومئ رب العائلة برأسه لزوجته او زوجاته فيبدأن في الطهي، وفي هذه الاثناء كان الاولاد يلعبون بمرح ويدمرون مستعمرات النمل ويطاردون الضفادع ويؤدون دور الموتى المبعوثين الى الحياة، وفي العادة يعدن عندما يشعرون بالجوع، واحيانا يعدن مبكرا عندما تبدأ رائحة الطعام بالنفاذ يندفعون تجاه ذويهم اذ ان الوقت حان لتناول الطعام.
تأثر افراد القبيلة بطباع افرومنتيوس الوديعة وشخصيته الجاذبة فاحبوه، وصاروا يحادثونه بلغتهم. صحيح انه لا يفهم كثير مما يقولونه ، ولكنه يدرك انهم يقدمون له الترحيب والاعجاب والتشجيع، ولا سيما عقب كل عمل يقوم به ويحظى باعجابهم. وخطر له هذا الخاطر: ربما بدى انهم اناس قساة من شكلهم وممارساتهم الغريبة ولكنهم مع ذلك يخفون في صدورهم قلوبا رقيقة.
باراباس #3
عند القبر الفارغ
كان باراباس يرقد وراء شجيرة على الجانب الأخر من الطريق، في مواجهة المقبرة . حينما يتسلل النور سيصبح قى مقدوره ان يتبين المقبرة .التي لا يراها بوضوح من مكانه هنا.
آه لو طلعت الشمس ققط !، هكذا حدث نفسه.
صحيح أنه يعرف أن ما من احد من قبل قد قام حيا من نفسه بعد موته، لكنه يريد أن يتحقق من هذا بعينيه، يريد ان يتحقق ان لا صحة لما قاله الناصري لتلاميذه من انه سيقوم بعد موته، وانه ليس للموت سلطان عليه. من أجل هذا بكر بالحضور الى هنا ، قبل شروق الشمس بفترة طويلة ، ولبث منتظرا وراء الشجيرة ٠ على الرغم من انه دهش، الى حد ما من نفسه ، من فعلته هذه ، من مجيئه الى هنا . وعلى العموم لماذا يشغل باله بذلك الى هذا الحد ؟ ما شأنه به ؟ وكان يتوقع أن يجد الكثيرين هنا ، جاءوا ليشهدوا المعجزة الكبرى . لهذا اختبأ كى لا يراه أحد ٠ لكن ، من الواضح أنه ليس هناك أحد غيره . ما أغرب هذا !
ولكنه تبين الآن شخصا يركع أمامه ، غير بعيد منه ، يخيل اليه أنه يركع فى الشارع نفسه ٠ ترى ، من يكون ؟ وكيف جاء ؟ انه لم يسمع قدوم أحد . ويبدو انه امرأة . لم تكن الكتلة الرمادية واضحة وهى راكعة على التراب الذى تشبهه .
وبدأ النور يتسلل ، وسرعان ما أرسلت الشمس اشعتها الأولى على الصخرة التى نحت فيها القبر . و حدث كل شئ في اسرع من لمح البصر لدرجة أنه لم يستطع ان يلاحقه – وهو الذى كان يتعين عليه فى هذه اللحظة بالذات ، أن يستجمع كل حواسه ! القبر فارغ ! الحجر متدحرج على الأرض والفراغ المنحوت فى الصحرة فارغ !
بلغ من ذهوله فى البداية أنه ظل يحدق فقط فى الفتحة التى رآها بنفسه يضعون الرجل المصلوب داخلها ، ويحدق في الحجر الكبير الذى رآهم يسدون به الفتحة . بيد أن الأمر كله اتضح له . لم يحدث شىء في الواقع . لقد كان الحجر مزاحا ، قبل أن يجىء هو الى هذا المكان . كذلك كان القبر فارغا . وليس من الصعب ان يتكهن بمن أزاح الحجر جانبا ، ومن الذى أخذ الميت . لا شك أن الحواريين فعلوا هذا فى خلال احدى ساعات الليل ، تحت جنح الليل هرعوا بجسد معلمهم الحبيب ، كى يقولوا بعد ذلك : انه بعث من الموت مثلما تكهن . لم يكن من الصعب تدبير هذا . من أجل ذلك لم يبد لهم أثر هذا الصباح ، وقت شروق الشمس ، اللحظة التى كان يجب أن تحدث فيها المعجزة بالفعل . لقد هربوا !
وخرج باراباس من مخبئه وذهب يفتش القبر عن كثب . واذ مر بالجسد الرمادى الراكع في الطريق ألقى نحوه ببصره ، وكانت دهشته بالغة حين وجد الفتاة ذات الشفة الأرنبية ، وتوقف بل وظل واقفا ينظر اليها . كان وجهها ، الذى أنهكه الجوع وكساه لون الرماد ، متجها ناحية القبر الفارع ، وكانت عيناها المنتشيتان لا تريان شيئا غير القبر . أما شفتاها فمنفرجتان . لكنها لم تكن تتنفس تقريبا . واستحال الجرح المشوه فوق شفتيها العليا الى لون أبيض .
ولم تنتبه لبارباس حين اقترب منها فقد كانت مستغرقة.
وداهمه احساس غريب ، احساس بالخجل ، وهو يراها على هذه الحال . وتذكر شيئا ، لم يكن يريد أن يتذكره – ملامح وجهها في تلك اللحظة . كذلك كان يستشعر الخجل من ذاك … وحرر نفسه من هذا الشعور .
وأخيرا لمحته ، بدا أيضا أنها مشدوهة للقاءها بالمعلم، متشوقة ان يجئ الى هنا .
لا غرابة في الأمر – لقد دهشه هو ايضا أن يجد نفسه هنا . ما شأنه ؟ احب باراباس لو استطاع ان يتظاهر بأنه كان يتمشى فى الطريق ، وأنه مر من هنا بمحض المصادفه . وانه لا يعرف ان به مقبرة . هل يستطيع أن يتظاهر ؟
ربما بدا الأمر مصطنعا ، ربما لا تصدقه . لذا فقد سألها اخيرا : لماذا تركعين هكذا ؟
ولم تنظر الفتاة ، الى أعلى ، ولم تتحرك ، وانما استمرت على ركوعها وعيناها شاخصتان تجاه الفتحة التى فى الصخرة .ولكنه سمعها تهمس لنفسها :
– لقد قام من الموت.. !
وأحس بشعور غريب وهو يسمعها تقول ذلك . وعلى الرغم منه أحس بشىء شئ لم يستطيع أن يتبينه . ولبث هناك لحظة لا يدرى ماذا يقول او يفعل ؟ ثم صعد الى القبر ، وكان قد اعتزم ذلك ، وتيقن خلوه – لكنه كان يعرف ذلك سلفا، لم يكن ذلك الامر جديد . ثم عاد الى حيث تركع هى . بلغ من التبدل البادى على وجهها ، والنشوة التي اكتسحته – انه أحس بالأسف عليها . ان ما يسعدها الأن لا أساس له من الصحة . وفى مقدوره ان يحكى لها ان قصة هذه القيامة لا اساس لها من الصحة.
لكنه لا يستطيع أن يطوع نفسه على قول الحقيقة لها . وسألها بحذر عن رأيها فيما حدث ، وكيف خرج الرجل المصلوب من قبره .
شرعت تصف.. كيف ان ملاكا ملتحف بعباءة من نار ..نار اندفع هابطا من السماء وذراعه ممدودة الى الأمام وكأنها رأس رمح . وهو قد غمد هذا الرمح بين الصخر والحجر ففصلهما
وتطلعت اليه لحظة وهى مشدوهة . ألا تعرف ؟ لكنها شرعت ، بصوتها الأخنف ، تصف بنشوة ، وبالتفصيل ، كيف أن ملاكا فى عباءة من نار اندفع هابطا من السماء وذراعه ممدودة الى الأمام وكأنها رأس رمح ثم غمد هذا الرمح بين الصخر والحجر ففصلهما . وبدا الأمر غاية فى البساطة ، على الرغم من أنه كان معجزة . هذا ما حدث . ألم يشاهده هو ؟
واطرق باراباس الى الأرض وقال : انه لم يشاهد شيئا . وفي أعمق أعماقه أحس بسرور بالغ لأنه لم يرى شيئا ، ومعنى هذا أن عينيه أصبحتا على مايرام الأن ، مثل عيون الآخرين جميعا ، ومعناه ايضا انه لم يعد يرى رؤى ، لم يعد يرى غير الواقع نفسه و لم يعد لهذا الناصري اى سلطان عليه ، انه لم يشهد احدا قام من الموت ولم يشهد أى شئ . بيد ان الفتاة ذات الشفة المشقوقة ظلت راكعة هناك ، وعيناها متألقتان بذكرى المعجزة التى رأتها !
ولما وقفت فى النهاية على قدميها آى تسير مبتعدة قطعا جزءا من الطريق معا ، متجهين الى المدينة . ولم يتكلما كثيرا ، لكنه اكتشف بالفعل – بعد أن افترقا هذه المرة – أنها باتت تؤمن بما تسميه ابن الله ، اوما يسميه هو : الرجل الميت
لكنه حين سألها عن حقيقة تعاليم هذا الرجل لم ترد عليه وأنما نظرت بعيدا وتفادت نظرته . وكان واضحا أنها ستتجه الى الطريق الهابط الى الوادى، فى حين فكر هو فى المضى متجها الى بوابة داود . ولما وصلا الى مفترق الطرق سألها من جديد عن العقيدة التى يدعو اليها ، والتى تؤمن بها ، على الرغم من أن هذا لا يهمه . ولبثت لحظة ناظرة الى الأرض ، ثم رنت اليه بنظرة خجلى ، وقالت ، بصوتها الممضوغ . ليحب كل منكم الآخر . على هذا
النحو افترقا .
ولبث باراباس وقتا طويلا يحملق فيها وهى تبتعد .
ظل باراباس يسائل نفسه : لماذا ظل فى أورشليم على الرغم من أنه ليس هناك ما يشغله فيها . انه لا يفعل شيئا سوى الطواف بالمدينة بلا غاية ، بلا عمل يزاوله . وخطر بباله انهم سيندهشون ، في الجبال ، لغيبته الطويلة . لماذا بقى في المدينة ؟ انه نفسه لا يدرى.