لم يكن راهباً .. كلا، ولكنه انتحل صفة راهب. تردد بين أعمال مختلفة ولكنه لم يوفق فى أى منهم، واختفى من بلدته تماماً ليظهر فى بلدة أخرى تبعد جداً عن قريته، واختار لنفسه كوخاً يقع فى منتصف الطريق من محطة القطار حتى القرية.
واتخذ هيئة راهب، وفى بداية تعرفه على الناس، وقف أمام الكوخ فى حياء مصطنع، فلما مر به بعض الناس، نادى على أحدهم وانتحى به جانباً، ثم أعطاه بعض المال ليشترى له به شيئاً من الخبز والخضر، فأحضره له فى المساء فى اليوم ذاته فشكره كثيراً فى وقار كثير مع بعض الدعوات غير التقليدية، وعرض عليه ذلك الشخص أن يقضى له حوائجه، كلما أتسع الوقت لذلك، فتمنع قليلاً قبل أن يظهر فرحه ورضاه بذلك.
وأحبه وصار صديقه …
فى البداية سأله كثيراً عن السبب فى مجيئه إلى ذلك المكان، ولماذا يسكن هذا الكوخ؟ فلم يجب بشئ وآثر الصمت، فاحترم مشاعره.
وسمع به الناس مع مرور الوقت تساءلوا عن هويته، وراحوا يمسحون كوخه بأنظارهم كلما مروا من قدامه، وبين آن وآخر كان يخرج ليسأل بعض المارة عن الوقت .. أو عن الشخص الذى يخدمه، وعرض عليه آخرون الاشتراك فى احتياجاته، واستجاب بحياء مصطنع لبعض منهم.
وفى إحدى مسامراته مع البعض عرف منهم عرضاً، أن زوجة أحدهم لا تنجب وأن لهذا الأمر أثراً كبيراً فى تعاسة تلك الأسرة مما قد يهدد استمرار الزواج، وتجاهل ذلك .. وكأنه لم يسمع شيئاً.
ومن بعد عدة أيام أرسل بيد ذاك الذى يخدمه شيئاً صغيراً ليسلمه للرجل الذى حرم من النسل، وكان ذلك الشئ هو ورقة صغيرة طويت بطريقة خاصة، وطلب منه أن يحرقها ثم يضع رمادها فى كوب ماء تشربه زوجته وستنجب ولداً تسميه (. . . .) وفعل الرجل وأنجبت زوجته طفلاً أسمته على اسم ذلك المحتال، تكريماً له!!
وانتشرت الأخبار بين الناس، ونسبوا إليه من المعجزات والأشفية ما لم يحدث مطلقاً، فينظرون إليه نظرتهم لقديس أنعم الله به على قريتهم ويتوافد عليه الناس ومعهم الهدايا والمال، وتسأله إحدهن:
– هل يعود زوجى من الجبهة ؟
– يعود .. (ثم بعد صمت قصير) ولكن بعد فترة .. الزوج بعد فترة يعود .
وتسأله أخرى : هل تلد البقرة؟ وينظر إليها طويلاً دون أن يجيب … فتقفل راجعة من عنده وهى متشائمة.
وتقاطر عليه الناس من كل جهة يسألونه فى أمور مختلفة، فها هوذا (رامى) يطلب إليه أن يفتح له الكتاب على الإمتحان يجئ من الموضع الذى يفتحه عنده .. وهوذا بعض التجار وبعض الحرفيين والمزارعين .. وهو يجيب بإجابات مختلفة حسبما تنزلق الكلمات على لسانه، فيصيب بعض الكلام ويخفق الآخر .. وعندما يراجعه البعض فى عدم تحقق نبؤته، يرجع ذلك إلى خطايا وشرور السائل!!
ويصدق نفسه.. يكذب ويبالغ كثيراً حتى يصدق أنه عالم بالغيب !!
وتتهمه بعض الأصوات بالاحتيال والخداع، فتهب أصواتاً أخرى لتدافع عن قداسة الرجل، ومصداقيته، فأحاط به السذج والجهال وتزداد سطوة الرجل.
ويسمع به بعض اللصوص فيهاجمونه ليلاً، ويصيبونه بجرح بسيط قبل أن يستولوا على المال الذى عنده ويفروا هاربين، ويسمع بهذا بعض الذين يترددون عليه من القرى المجاورة، فيقوموا ببناء حجرة له من الطوب ويجعلون لها باباً من الخشب!! .. ويستنفر فى البداية من السكن فيها، قبل أن يوافق مسروراً فى أعماقه، فقد تثبتت مكانته بينهم وقداسته قد شاعت، ومن ثم فقد وجد من يهتم بإعاشته وينقل إليه ألواناً من الطعام والشراب والفاكهة والهدايا، بل ويدافع عنه!!
وأصبح يمتهن ذلك النوع الحقير من العمل، بدلاً من أن يعمل فى مهنة شريفة، يبذل جهداً وعرقاً فى سبيل الحصول على قوته، ولكنه رأي فى ذلك مالاً يأتى بسهولة وكرامة بغير وجه وورعاً لا يكلفه إلا بعض النفاق، فراح يخدع الناس وينظاهر بالقداسة، فاستفحل أمره وتزايدت سطوته.
وسأله أحد السكان ذات مرة عما يجب عليه أن يفعله تجاه جيرانه الذين يزعجونه ويتربصون به.
فصمت طويلاً قبل أن يصف له وصفة غبية، قال له ضع هذه الورقة فى كوب ماء مدة ساعتين وبعد ذلك رش الماء على حائط جيرانك وبجوار الباب.
ولمحة جيرانه وهو يفعل ذلك فثارت ثورتهم وجذبوه إلى الداخل وراحوا يضربونه حتى كادوا أن يحطموا أضلاعه، وأما الورقة التى أخذها من المحتال فقد كانت فارغة وبيضاء!!!
واختلف الناس بخصوص رأيهم فيه وبعض المثقفين الشبان بدأوا فى محاورته ومعارضته، ولكن ذويهم راحوا يحذرونهم من مغبة معاداته، خوفاً عليهم من الأذى فقد يغضب عليهم!! بل أن بعض البسطاء من الأمهات، رحن يعتذرن له عما بدر من أبنائهن تجاهه، وقال لهن :
– كلنا خطاه.. الله يغفر للكل.. أنا أصلى لأجلهم ..
ولم يقل ذلك إلا ليزداد كرامة وتبجيلاً فى أعينهن فيقولون عنه أنه القديس ومتسامح مع أعدائه…
وخاف على مكانه .. وخاف على مكانته .. وراح يفكر فى حيلة كبيرة يجذب بها أنتباههم ويجمعهم حوله .. فيأمر فيهم وينهى .. وفاجأهم ذات صباح، وهو يقف أمام باب الحجرة يصرخ بأعلى صوته:
“من لم يتب فليتب .. ومن هو شرير فليتعظ .. قولوا لنسائكم وأولادكم .. استعدوا .. لقد راحت أيام المرح واللعب .. لينظر كل منكم إلى نفسه وإلى حاله.. عند تمام الشهر ينتهى العالم ويأتى المسيح !!
وذعر الناس وتقاطروا عليه يلتمسون مزيداً من التفاصيل ويمطرونه بوابل من الأسئلة والاستفسارات، وبدأ هو جامد الوجه، جاد القسمات، يقول بثقة وبالحرف الواحد:
“عند نهاية الشهر ينتهى العالم وتنقلب الدنيا ويأتى المسيح”. واختلطت أصوات سامعيه وسألوه؟
– كيف .. فى أى ساعة .. لماذا .. ؟
فأعاد ما قاله كلمة كلمة :
“عند نهاية الشهر ينتهى العالم .. تنقلب الدنيا ويأتى المسيح.”
وانتاب الناس قشعريرة وخوف ورعب لا قبل لهم بمثله، وتوقف الكل عن أعمالهم ولزموا ديارهم، وكست وجوه الناس مسحة من الكآبة، حتى الأطفال شعروا بالخوف، فتوقفوا عن اللعب والتصقوا بأمهاتهم.
قال إميل لأمه:
– حقاً يا أمى يأتى المسيح؟ هل سيهدم بيتنا وأين نذهب؟..هل ألعب.. وآكل الشكولاته…؟
فنظرت الأم بحسرة والدموع تترقرق فى عينيها، فأعاد سؤالها، وحينئذ ضمته بقوة إلى صدرها وبكت فخاف وبكى هو الآخر..
وتوقفت الأعمال فى البلدة، فقد ترك المزارعون زراعاتهم وجلسوا فى بيوتهم إلى جوار زوجتهم وأطفالهم، وأمتنع التلاميذ عن الذهاب إلى مدارسهم، وأغلق الباعة حوانيتهم، وتوقفت النساء عن إعداد الطعام وأكتفوا فى المنازل بالخبز وبعض الجبن والبقول، قالوا:
– لماذا نطبخ ونعمل ونزرع ونغسل .. إنها أيام وينتهى كل شئ ..
والعجيب أن تلك الأخبار لم تجعل الناس يتوبون عن خطاياهم، بل لقد شغلتهم عن التوبة!! لقد شغلوا فقط بما سيتركونه… وفكروا فى الرعب الذى سيحل عليهم فى ذلك اليوم وكيف سيموتون…الخ
وسمع الأب الكاهن فى القرية القريبة والتى بها الكنيسة حيث يذهبون للصلاة، وتضايق، وبعد قداس يوم الأحد، وكانت الكنيسة قد امتلأت عن آخرها بالمصلين، قال الكاهن:
– إن فكر الكنسية الذى تسلمته من السيد المسيح، بالتالى فعلينا أن نكون مستعدين دوماً لملاقاة المسيح، وقد لا ينتهى زمننا هذا ولكن كل من يموت منا فسوف يلتقى بالمسيح هناك والأمر فى الحالتين واحد، ولذلك أرجو أن تعتبروا نهاية العالم كل يوم فتتخلصون من السلبيات فى حياتكم وتنتهى الخصومات من بينكم وتجتهدون فى تقديم التوبة عن خطاياكم ..
أما إعطاء مواعيد لمجئ المسيح، فمن شأنه أن يجعل الناس يتبلدون متى جاء الموعد المحدد ولم يأتى المسيح، كما أن قلقكم هذا وتعبكم إنما يدل على عدم استعدادكم لأبديتكم.. انصرفوا الآن إلى دياركم وعودوا إلى أعمالكم وحوانينكم وزراعتكم والأطفال إلى مدارسهم .. إن مخافة الموت ترعب الرجل الناقص كما يقول الكتاب المقدس. و قاطعه أحدهم:
– هل يكذب إذاً من قال لنا ذلك؟
– لا أقدر أن أتهم إنساناً ولكن أرجو أن تحتاطوا دائماً وتسلكون بتعقل ولا تضطربوا لأى خبر.. ولا تسعوا إلى معرفة الغيب إنما عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح واجتهدوا، ثم ثقوا بعد ذلك فى عناية الله بكم ومحبته لكم، فإن كل من يجعل ثقته فى الله ويتكل عليه، يكون الله له عائلاً وضامناً ومسئولاً عنه. ثم باركهم وصرفهم بسلام.
وصلت أخبار توعية الكاهن بالشعب إلى مسامع ذلك المحتال، فصار فى ضيق و تخّبط .. فها هوذا الأيام تمر واحداً تلو الآخر، وانقسم الناس إلى عدة فرق .. والبعض صدّق النبوة الكاذبة، فخرج من القرية قبل الموعد بيومين يمشى فى المدينة بلا هدف .. ويسأل الناس هناك.. هل سمعتم بأن المسيح قادم يوم السبت.. فيندهشون ومنهم من يستفسر منه، ومنهم من يتجاهل قوله وينصرف عنه، ويرى الحياة فى المدينة تسير كما كانت دائماً .. فيتشكّك ويتعجب .. والبعض الآخر تبلدت مشاعره.. وأصبح فى غير مبالاة أو اكتراث، والبعض الثالث.. يتردد على الراهب يراجعه فيما أعلن، فيؤكد لهم من جديد ما قاله .. ويتخذ هيئة الواعظ والنبى الذى يتحسر على الشعب وينذر بالكارثة.
ولم تثمر هذه النبوة ثماراً روحية ..
واقترب اليوم الموعود، والناس ما بين مصدق ومكذّب، ولزم الناس بيوتهم عشية ذلك اليوم، والتصق أفراد الأسرة بعضهم بالبعض الآخر، وراحوا يتمتمون بكلمات توسل المرعوب، وساد سكون رهيب فى تلك القرية ولم ينم أحد طوال الليل، حتى إذا ما بلغت عقارب الساعة منتصف الليل راح الناس يتوقعون الكارثة بين لحظة وأخرى.. ومر نصف اليوم بسلام ومازال الناس يتوقعون انفجاراً هائلاً، ودوت فرقعة صغيرة خارج أحد المنازل فصدرت عن أفراده صرخة مدوية سمعت فى البيوت التى حوله فتجاوب صراخ سكانه .. ثم ما لبث الصوت أن تلاشى ليحل محله ذلك الصمت الرهيب. حينما حل المساء سرت فى الأبدان بعض الطمأنينة، غير أنه كان ما يزال باقياً من اليوم أربع ساعات قضوها متأرجحين ما بين الراحة و الذعر .
+++
وراح هو يسترجع سنين حياته منذ كان طفلاً والتعاسة التى مر بها في طفولته، والخلافات المستمرة فيما بينه وبين والديه من جهة، وبين كل من والده ووالدته من جهة أخرى. إنه يتذكر الآن الليالى التى قضاها مطروداً من بيته، والليالى التى مرت عليه دون طعام. ويتذكر ايضا الحرمان الذى ذاقه، وكيف أنه ترك تعليمه واتجه إلى العمل، فلم يستمر فى عمل واحد أكثر من أسابيع معدودة، وكان أصحاب تلك الأعمال يعذبونه كثيراً، ومنهم من أتهمه بالسرقة وسلمه إلى الشرطة التى اودعته فى مؤسسة الأحداث لمدة عامين، خرج بعدها ليتلكأ فى الطرقات يلتمس قوته فى مهانة وذلة.
كان كل مطمعه أن يصير غنياً مشهوراً غير أن ذلك لم يكن له ما يؤهله إليه من علم أو كفاءة أو حتى قوة جسدية، حقيقي أنه كان بديناً وطويل القامة لكنه كان مترهلاً من ذلك النوع الذى يميل إلى الاسترخاء، إلى أن سمع عن أحد النساك الذى يحيا فى مغارة بالجبل وكيف يحبه الناس ويوقرونه وينظرون إليه بكثير من الإحترام والوقار، بسبب قداسته الحقيقية. فحسنت فى عينه الفكرة، وجاء إلى هذا المكان ونجح كثيراً فى خداع الناس، غير أن شيئاً ما كان ينغص عليه حياته، وهو شعوره الدفين بأنه كاذب .. وليس له الحق فى هذه الكرامة وتلك الهدايا والأموال.. وعجز عن أن يواجه نفسه وينصرف إلى العمل الشريف، ولكنه سريعاً ما يطرد عنه أفكار التبكيت ليهنأ بمجاملات الناس وحبهم.
وها هو اليوم متورط فيما لم يحسب له حساب من قبل .. هل الله يريد أن يفضحه للناس ويكشف سره، وقد قارب ذلك اليوم من المجئ.. وعذبته الأفكار ولم يستطع الهرب من المكان.. فإلى أين يذهب…. واظلمت الدنيا فى عينه.. ولم يسع إلى التوبة واصلاح حاله.. فقرر التخلص من حياته.. فتناول السم فى عشية ذلك اليوم.
ومر اليوم بسلام و تنفس الناس الصعداء، غير أنهم خرجوا من بيوتهم فى الصباح واجتمعوا جمعاً غفيراً وهم مصممون على مواجهة ذلك المضل، وبالفعل فقد اتجهوا إلى حجرته على الطريق، ولشدة ما كانت دهشتهم عندما اكتشفوا هناك أنه قتيل فى حجرته!!
وأنتشر الخبر كالبرق بين الأخرين، وتقاطر الناس إلى هناك وأبلغ البوليس فجاء ثم تبعته النيابة، وبدأت التحقيقات.. واستدعى الطبيب الشرعى الذى أثبت أن الوفاة جاءت نتيجة الانتحار، وقرروا دفن الجثة هناك فى نفس الحجرة بعد أن رفض أى من الأهالى دفنها فى مقبرة عائلية أو مقابر الصدقة، ومن ثم فقد وضعت الحراسة على المكان الذى دفن فيه ولمدة ثلاثة أشهر.
لقد قرر التخلص من حياته، لأنه لم يكن قادراً على مواجهة الناس، متى جاء ذلك اليوم الذى حدده لنهاية العالم دون أن يحدث شئ فقتل نفسه، وهدأت مشاعر الناس بعد أن ثبت لهم كذبه وتحقق لهم خداعه.
واليوم يشيع بعض من مريديه ويصرون على قولهم بان قديسهم (ذلك المحتال) قد صلى بحرارة إلى الله لكى ينقذ العالم ويهب البشرية فرصة أخرى علهم يتوبون، وفى مقابل ذلك يموت هو بدلاً من الناس ليهبهم فرصة التوبة!!!
وهكذا استمر مخادعاً حتى بعد موته .