ابو يوسف شيخ القرية الجليل الحكيم، وما اكثر ما جاءه شباب القرية طلبا للنصح والمشورة! وقد اضفت تقواه على شيخوخته مهابة كبيرة، ولم تقتصر معرفته على الشريعة، بل كان يدرك روح الشريعة، لانه كان يعرف الله معرفة قلبية، وكثيرا ما نقل افكاره الى سامعيه بقصص مان يذكرها.
انفتح الباب ودخل رجلان يحملان بينهما رجلا، وحدث في البيت جلبة جعلت ابا يوسف يخرج من حجرته ليستطلع الامر، فراى رجلا بالغ الضعف بادي الشحوب يلبس الهلاهيل، وحول عنقه ورقة كتب عليها “في سبيل الله“.
سال ابو يوسف:
“ماذا جرى لهذا الرجل؟
انه من اولياء الله يا ابا يوسف، امتنع عن الطعام واكتفى بالمشروبات 42 يوما لانه يبحث عن معرفة اعمق بالله.
ولقد اشرف على الموت فحملناه اليك يا ابا يوسف، لاننا نعتقد انك قادر على معاونته.
واعتنت الاسرة بالغريب بضعة اسابيع: قدموا له اولا الحساء الدافئ، وعندما عادت القوة الى جسده اخذ ابو يوسف يجلس معه ويحاوره، وادرك ابو يوسف مشكلة الرجل فسأله:
“سأوجه اليك سؤالا لا الحّ عليك في جوابه: لماذا اوقعت العذاب بجسمك، فمنعت عنه الطعام كل هذه المدة؟“
اردت ان اعرف المزيد عن الله.
وهل تعلمت شيئا؟
لا شئ! لا شئ اني في حيرة: الناس يقولون اني احفظ الكثير من كتاب الله، ولكنني اشعر بفراغ قاتل في داخلي، كأني غير حي، لقد صمت ولكنه ما زال بعيدا عني جدا.
قال ابو يوسف: احكي لك قصة قديمة تحوي درسا عظيما، واعتقد انك ستحب هذه القصة لانك تشبه بطلها، ولو ان النهاية التي وصل اليها بطل القصة تختلف عما وصلت انت اليه“.
وابتسم الغريب عندما عرف انه سيسمع قصة. فبدا ابو يوسف يحكي:
يريد كل انسان ان يحقق الذروة في هدف حياته، وهدف حياتك الدين:
مرة كان هناك انسانا يهدف الى جمع لالئ ، فقد كان تاجر لالئ ممتازا ولكن كان ينقصه شئ، كان مثلك يشعر بفراغ داخلي.
وكان شعوره بالفراغ يضايقه وذات يوم ذهب ليزور عزيزا احب الاصدقاء اليه وناقش معه مشكلته.
قال لصديقه:
“قد يبدو كلامي غريبا يا “عزيز“، ولكنك تعرف مجموعة اللالئ التي عندي، انها افضل مجموعة في بلدنا. والذي املكه يدخلني في عداد الاثرياء وكان يجب ان اكون مكتفيا اشعر بالشبع“.
“هذا صحيح“
“نعم، يجب ان تشعر بالاكتفاء، ولكن ما فائدة كل هذه الاسئلة الغريبة؟“.
“قد ابدو سعيدا، ولكني في اعماق اريد ان ارمي كل جواهري في اعماق البحر، لاحصل على لحظة واحدة من الاكتفاء!”.
وظهرت على عزيز علامات الدهشة وفال:
“لست تقول الحق! هذا غير معقول!”.
فقال تاجر اللالئ:
“بل اقول الحق كله! فماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله، ولم تكن له حياة في داخله؟“.
هذا صواب. اعتقد انك تفتش عن “لؤلؤة السلام“
هذه خرافة قديمة!
ربما، ولكن ان كانت اللالئ تشعرك بالخواء والفراغ – فلماذا لا تفتش عن شئ افضل؟ لقد وصلتني اخبار عن شخص يقيم في جزيرة “تمبور” يقول انه يمتلك “لؤلؤة السعادة“.
ان لك من الذكاء ما يمنعك ان تصدق مثل هذا الكلام“
وضحك الصديقان وغيّرا موضوع الحديث.
***
وعندما رجع تاجر اللالئ الى بيته في المساء فكر كثيرا في كلمات عزيز، ما اروع لؤلؤة السلام التي تمنح حاملها سلاما!.. ثم نفض عنه هذه الافكار وقال بغصة في حلقه:
“قصة فارغة!..”
ولكنه عاد يقول: “وما الضرر من محاولة الوصول اليها؟.. ربما كان الامر صحيحا، يستحق ان افتش عنه.. وخصوصا اني تاجر لالئ“.
وفي اليوم التالي رتب اموره، واستاجر قاربا ياخذه الى جزيرة “تمبور” .. وجد الرجل هناك، لكن اللؤلؤة التي عنده كانت مجرد لؤلؤة غالية الثمن ورائعة، تستحق ان يضيفها الى مجموعة اللالئ التي عنده، ولكنها ليست “لؤلؤة السلام“. على ان فكرة “السلام” دفعته لان يفتش عن شئ ذي معنى لحياته.
وجعل يدرس الكتب ليجد الطريق الى لؤلؤة السلام، وقرا عن اشخاص وصلوا اليها فعلا وحصلوا على تاثيرها في منحهم سلام النفس، فقال لنفسه: “يجب ان اجد اللؤلؤة ! يجب ان احصل عليها!”. وحصر الاماكن المختلفة التي قيل ان اللؤلؤة فيها، وودع اصحابه وسافر حول العالم يفتش عنها.
ورجع الى بيته بعد سنة، متعبا واكثر قلقا، لم يجد اللؤلؤة ولم يعرف: لماذا كان مندفعا وراء طلبها، وبعد سنة من البحث المضني العقيم فقد الامل، واصابه الاكتئاب، لان الفراغ القاتل كان يملا قلبه.
وذات يوم وهو يجلس في غرفته في غاية الياس قرع باب بيته قارع، ففتح الخادم الباب، ثم ذهب اليه في غرفة اللالئ. وقال:
يا سيدي، شخص بالباب يقول..
الم اقل لك: انني لا اريد ازعاجا من احد. قل له اني لست موجودا.
ولكن الرجل يا سيدي يسأل هل حقا تريد لؤلؤة السلام؟
هل قال هذا؟ اذن فليدخل. سأستمع الى قصة غبية اخرى.
وانصرف الخادم ، فقال التاجر في نفسه: “هل يدري الزائر ما يقول؟“.
ودخل رجل لم يره التاجر من قبل، وذهب الخادم ليجهز الشاي، وحاول التاجر ان يكلم الزائر، ولكنه لم يجاوب. وبعد وقت من الصمت لم يطق التاجر الانتظار. فقال:
قال لي الخادم انك تعرف شيئا عن لؤلؤة السلام. هل هذا صحيح؟
انا لا اعرف فقط عنها، لكني املكها ايضا!
ومع ان التاجر اندهش لانه وجد اخيرا من يقول انه يعرف اللؤلؤة وانه يملكها، الا انه احتفظ بهدوئه وتطلع بحذر الى ضيفه الغريب. وقال:
هل انت جاد فيما تقول؟ هل حقا تمتلك اللؤلؤة؟
انني امتلكها واريد ان ابيعها لك.
تبيعها لي؟ هل تعني حقا انها معك الان؟
نعم، انا اعرف انك كنت تفتش عنها من مدة طويلة، فجئتك بها. هل تود ان تراها؟
فقال بشغف: “دعني اراها ارجوك!”.
كانت اضاءة الغرفة ضعيفة، فقام التاجر ليحضر نورا اقوى، ليرى اللؤلؤة رؤية افضل، فقال الزائر:
“لا حاجة لمزيد من ضوء. عندما ترى اللؤلؤة ستفهم ما اقصد“.
واخرج من حقيبته الصغيرة علبة صغيرة عندما فتحها ادرك التاجر: لماذا قال الزائر انه لا يحتاج لمزيد من النور؟.
انها تعكس الضوء ببهاء كبير كانها هي مصدر النور!
هل تسمح ان امسكها؟
تفضل!
وعندما امسك اللؤلؤة مان كان الحياة تدب منها الى كل بدنه، وفجاة وجد السلام والبهجة يملان كيانه كله! كان هذا فعلا ما فتش عنه .. لؤلؤة السلام..
يجب ان احصل عليها بأي ثمن.
احذرك انها ثمينة جدا!
لا يهمني! لقد فتشت عنها طيلة عمري! كم ثمنها؟
واخذ الزائر اللؤلؤة واعادها الى علبتها، ثم اعادها الى حقيبته، ثم قال: انها تكلفك كل ما تملك!
ولم يقبل التاجر بسهولة ان يعطي كل ما يملك.
كل ما املك؟ مستحيل! لا توجد لؤلؤة تستحق كل هذا!
اؤكد لك ان هذه اللؤلؤة تستحق انها ليست كغيرها من اللالئ.
غيرها من اللالئ لا تشبع حاجة الانسان الداخلية. لكن عندما يبيع الانسان كل ما عنده، ليشتري هذه اللؤلؤة، ويحصل على الحياة التي تنحها فانه لن يعود يطلب مزيدا من لالئ.
نعم.. نعم.. اني اعرف شهرة “لؤلؤة السلام” ولكن كل ما املك؟! اسف. الثمن اكبر مما احب ان ادفع.
اعتقد انك ستغير فكرك. سأعود اليك بعد ثلاثة ايام، لاسالك من جديد، وقتها تكون قد فكرت بما فيه الكافية“.
وافترق الرجلان ومضى الزائر.
وشعر التاجر باحساس غريب بالوحدة، لقد جاء الاكتفاء بين يديه، ولكنه سمح له ان يغادر باب بيته! وجافاه النوم، فخرج الى الشارع قاصدا دكانه.
وجلس في الدكان يفحص لالئه كلها، ويفحص محل تجارته.. “الرجل يطلب كل شئ ثمنا للؤلؤته! الثمن غير معقول!”.
ونظر الى الجانب الذي يشمل معظم لالئه، واخذ ملء حفنته وجعل يفحصها!
وراح يفكر: ولكن هل حقا الثمن كبير؟ ان منظر اللالئ رائع، وهي غالية الثمن، ولكن ما فائدتها ان كانت لا تعطيني الاكتفاء والشبع الذي اريده؟
هذه اللالئ لا قيمة لها في الواقع! بل انها تمنعني عن الحصول على اللؤلؤة الحقيقية التي تهب السلام.
وفي ياس طوح اللالئ الى الحائط وقال: “هذه خداع باطل. لقد تعبت من “نصف الحياة” التي تمنحها لي.
ولبس معطفه واغلق دكانه وعاد لبيته وقد عزم على امر.
وفي اليوم التالي بدا التاجر يبيع كل ما عنده. وعندما عاد الغريب ليسال التاجر عن قراره الاخير. اجاب بابتسامة:
“افضل الفقر مع السلام على الغنى مع الباطل“.
ووفق التاجر في بيع كل ما يملك، واعطاه للغريب واخذ لنفسه لؤلؤة السلام، ولم يعد قلبه يتوق الى لالئ اخرى، لانه وجد في اللؤلؤة الوااحدة السلام الحقيقي الذي لم تقدر اللالئ الاخرى ان تمنحه، وبقى السلام معه بقية ايام حياته.
وبعد ان انتهى ابو يوسف من رواية القصة سأله الرجل:
“انا لا افهم: قلت ان تاجر اللالئ يشبهني. كيف؟“
يا ولدي، انت تقول انك متدين، وبرغم ذلك لا تملك سلاما ولا فرحا في حياتك. ان ما تؤديه من عبادة يشبه اللالئ الاخرى. وانت محتاج لان تجد “لؤلؤة السلام” التي يعطيها الله وحده للناس.