حق البكورية

كان رئيس العصابة شابا في العشرينيات، لحية صغيرة مدببة، و شعر اسود مسترسل يتدلى على ظهره، نظرة الي يعقوب نظرة حادة ثم قال:
قل لي ما هو عدد الحملان الجيدة؟
اجاب بسرعة: مئة وثلاثون.
وكم هو عدد ﻻناث بينها؟
تلعثم في البداية ثم قال بصوت اجش ربما ليخفي اضطرابه:
اربعون!
كان يجول ببصره، ثم التمعت عيناه فجأة حين وقع نظره علي احداها:
انظر الى هذا الكبش. انه كالقائد. ارى انه ﻻ يضيرك ان تستبدله باخر.
وتابع يقول:
عليك ان تدفع لنا في كل سنة مقدار ما تدفعه ﻻبيمالك. و بالمقابل نتركك ترعى منذ الان بسلام. انه عرض مغر، أليس كذلك؟
ان هذا مساومة.
ان كان يعجبك!
ثم قهقه ساخرا:
او ﻻ يعجبك. ما من فرق.
امال يورام راسه نحو يعقوب هامسا:
سيدي يعقوب. انه من بني عناق. وﻻ يمكنك ان تفعل شيئا.
صه. لو كان عيسو يساعدني في رعاية الغنم لما حصل هذا.
سيدي عيسو يحب الصيد. انه يعشق جلب الفرائس.
انه يحب رحلاته التي ﻻ تنتهي. يدعي انه يربح بالصيد عشرة اضعاف ما اتكسبه انا من رعي الغنم.
غادر كانت السماء تنشر فوق السهل قبة تتلألأ فيها الشمس باشعتها الذهبية ، مرسلة ضياءا باهرا على الصخور والعشب بخضاره الزاهي. جلس يعقوب وعبده يورام القرفصاء في ظل احدى الصخور، فتح بؤجته واخرج كسرة خبز و اداما وجلسا ليتقوتا:
قوال يورام بفخر: هذا القطيع كنز فعلا يا سيدي.
نظر يعقوب الى عبده، بامكانه ان يحس الفخر الذي يشعر به من بريق عينيه. اغمض يعقوب عينيه، بامكانه ان يعود بذاكرته سنوات خلت. فمنذ طفولته وقد احب سكنى الخيام، ومنذ ان وعى للدنيا وهو يجد في رعى اﻻغنام رزقه، لكن رعاية الاغنام ليست اسهل شيئا على اﻻطلاق. كان قد تخلص للوقت من احد قاطعي الطرق وقد افتدى قطيعه بكبش. علاوة على ما قد يتعرض له القطيع في مرات كثيرة من هجوم الحيوانات المفترسة، علاوة على ما يجده من مشقة في تقلبات الجو، والترحال لمسافات طويلة. ان الرعي عمل مضن. يحتاج الى طاقة هائلة من الحب لا تتوفر في كل شخص، والا لكان قد وجد من اخيه عيسو عونا له. القى ظهره مستندا الى الصخرة خلفه. ومد بصره متنهدا وقال:
نعم. ولكنه يحتاج الى جهد يفوق قدراتي بعشرة اضعاف.
كان قد انتهيا من تناول الطعام. فسحب العبد البؤجة وضم فيها ما بقى من كسر الخبز واﻻدام، وجعل يحكم ربطها. وراح يقول وقد غلبت عليه مشاعر الاعجاب بسيده:
ولكنك يا سيدي تعرف ان تقوم بعملك جيدا. ان القطيع تضاعف عشرة اضعاف عن العام الماضي.
سحب يعقوب نفسا هادئ ثم قال:
لوﻻ معونة اله ابي، ما كنت تحملت مشقة رعايتها يوما واحدا.
لكن ما من احد يشعر انك غير سعيد.
لست اعتقد ان غاية الحياة ان يكون المرء سعيدا، بل هي ان يخدم. هي ان يكون نافعا.
فقال: بالنسبة الى عبد، ربما كان هذا صحيحا. ثم حوّل نظره الى سيده: لكن الى ابن … فاشك!
قال يعقوب: نعم ابي اسحق موسر وقد باركه الله كثيرا. لكن ، دعني اسالك سؤاﻻ يا يورام!
فقاطعه: ما انا حتى تسالني عن اي شئ؟ الدي حكمة حتى انقلها لك؟ انا مجرد عبد.
رفع نظره فوجد احدهم قادم.
فتابع: انظر سيدي. ربما مشتر قادم نحونا. انك يا سيدي لست فقط ناجحا في رعاية اﻻغنام، بل انت تعرف كيف تجري صفقات.
راقب يعقوب حتى اقترب الرجل وتبادﻻ التحية.
قال الرجل: هل انت يعقوب بن اسحق؟
يعقوب:ماذا تريد؟
اطلق الرجل نظرة حوله ثم قال: كبشا و 3 خراف.
يعقوب:اذا اذهب الى والدي ان كنت تريد شراء شيئا.
مشتر: لقد ذهبت وقالت لي امك. ان اتكلم معك.
يعقوب:ستدفع لي 30 قطعة فضية وقطعة ذهبية.
مشتر: كان والدك ليطلب مني اقل من ذلك.
يعقوب:ان لم يعجبك السعر يا سيدي. فانا متاسف جدا. وداعا.
مشتر: معك حق. ساشتري منك الخراف.

*
اسحق: قمت بصفقة جيدة يا يعقوب. انا مسرر منك اﻻن.
يعقوب:لقد قت بصفقة جيدة بالفعل.
اسحق: انك تجعلني رجلا اغنى مما كنت عليه بني.
يعقوب:لم يكن امام اولئك التجار اي خيار اخر.
*
رفقة: النبيذ يجعلك تشعر بتحسن.
اسحق: ان يعقوب طيب. دائما يجعلني قاد را على شراء جماﻻ وخرافا بالمال الذي يكسب. بصراحة احب يعقوب. لكن عندما ياتي عيسو بالفريسة التي تطبخينها مع اﻻعشاب يبدو لي كالملاك.
رفقة: هذا ﻻنك نهم طماع يا اسحق. ﻻ اصدق انك كعيسو تستمتع بالعيش والطعام، بينما ابنك اﻻخر يعقوب يعمل على الدوام من اجل الجميع.
يعقوب: هيه. لكني احب ان اكل ايضا يا امي.
اسحق: انظري يا عزيزتي! حتى يعقوب نفسه يؤيدني.
يعقوب:ماذا تطبخين يا فتاة.
فتاة: هل انت جائع
يعقوب:هل وضعت توابل في القدر مع العدس اﻻحمر
فتاة: بالطبع ساسكب لك صحنا وسوف اكله.
اسحق: عيسو انت بهجة شيخوختي.
عيسو: لقد عدت يا ابي! اشتريته من تاجر في احدى الواحات خلال سفري
اسحق: انك دائما حنون يا بني
عيسو: انني جائع يا امي
رفقة: اتبع الرائحة ستجد بعض العدس اللذيذ
عيسو: هذا العدس يكاد افقد الوعي
فتاة: اذن عليك ان تاكل حتى ﻻ يغمى عليك. وعليك اﻻنتظار.
يعقوب:كيف تقولين ذلك. انه متعب وفي حاجة الى الطعام
فتاة: انا اسفة يا يعقوب. لكن اما تاكله انت او هو
عيسو: هل انت فعلا جائع يا يعقوب؟
يعقوب:هل تريد صحن العدس خاصتي؟ اذن سوف اعطيك اياه!
عيسو: ماذا تريد في المقابل؟
يعقوب: اريدك ان تتنازل عن حق وﻻدتك لي!
عيسو: ﻻ معنى للبكورية طالما العدس مفقود
يعقوب: هل فعلا ستعطيني حق البكورية مقابل هذا الطبق؟
فتاة: وانا اكون الشاهدة!
عيسو: انت حقا طباخة ماهرة ولكنك لن تكوني شاهدة.
رفقة: هل تثقان بامكما؟
اﻻثنان: هيه!
رفقة: اذن ساكون شاهدة
فتاة: خذ العدس والملعقة ايضا.
عيسو: انتظرت كثيرا للحصول على العدس
يعقوب: واﻻن انا من سارث قطعان ابي
عيسو: بالتاكيد يا اخي. اما انا فدائما احمل ثروتي معي. عضلاتي وسيفي.
يعقوب: اوه، كم جملا لديك.
**
يعقوب: لديك 120 جملا صغيرا وتسعون جملا بالغا
اسحق: يجب ان تخبرني بعدد الخراف
يعقوب: 4000
اسحق: وكم قطعة فضية؟
يعقوب: لديك 3000
اسحق: سعيد انني ساترك عيسو قويا
رفقة: لكنك سوف تترك جزءا من ثروتك ليعقوب ايضا؟
اسحق: بالطبع لكنه ليس في حاجة اليها انه ماهر. ويعرف كيف يبيعقوب: ويشتري. يعرف كيف يصبح غنيا.
رفقة: هذا ليس منصفا ابدا يا يعقوب. لقد عملت طوال حياتك ﻻجلما، ولم تحصل على شئ. لم يعمل عيسو بتاتا ويريد والدك ان يعطيه كل شئ.
يع ان كانت القوانين ليست عادلة فالخطا ليس من ابي.
رفقة: القوانين ليست عادلة ابدا. دعني اهتم انا باﻻمر. انت تعرف ان اﻻهم هو البكورية وحق الوﻻدة سيكون لمن يباركه منكما. واﻻن اذهب واحضري قطعتي من جلد عنزة
يعقوب: ستحل علي لعنة!
رفقة: لا يهم اطعني فحسب.
يعقوب: ساطيعك يا امي فقد عملت لوالدي طوال حياتي.
اسحق: انا اعمى ولكني اشتم جلد العنزة التي يرتديها عيسو! ها هو يقترب! ان اشتاق الينا لطالما احضر الينا افضل فرائسه.
(يدخل يعقوب ويتلو عليه اسحق البركة)

**
مشهد 3:
اسحق: لماذا احضرت المزيد من الطعام يا ابني؟
عيسو: لكني ابنك البكر . واحرت ما طلبته.
اسحق: اه بفضل بركتي اصبح يملك كل شئ واصبحت انت فقيرا.
عيسو: اذن لقد خدعت يا ابي.
اسحق: كلا …. اوه… كلا…(يصرخ .. باسف ) لقد جعلته سيدك!
عيسو: هل لديك بركة واحدة يا ابي ؟ اﻻ تستطيع
اسحق: ستخدم اخاك وحين تتمرد سترمي فقط نير العبودية المعلق على رقبتك.
عيسو: ستدع يعقوب يخدعك بهذ الشكل؟
*
عيسو: (موجها كلامه الى اثنين من عبيده): اذهبا وابحث عن اخي. لن ادعه يهرب مني ابدا!
رفقة: اهرب الى حاران وابق معه حتى يخمد غضب اخيك. حينئذ سارسل احدا ليحضرك. ﻻ اريد ان احرم من ابنائي.
عانى يعقوب من ارض حاران حيث عبدت اﻻوثان. لكن خلال غربته بقى مخلصا لله اﻻله الواحد القدير الذي اخلص له جده ابراهيم واوﻻده.
*
مشهد 4
صراع الملاك مع يعقوب:

(صوت الراوي): روبين شمعون يهوذا …الخ. انهم اوﻻد يعقوب.
الملاك: ارجوك دعني اعبر هذا النهر اﻻن.
يع: اه.. اه…
الملاك: يجب ان اذهب اﻻن! لقد جعلتك تصارعني بما فيه الكفاية!
يع: كنت تختبرني! لن ادعك. هل تسمعني؟
الملاك: اخبرني ما اسمك؟
يعقوب: يعقوب!
الملاك: من اﻻن تسمى اسرائيل ﻻنك تعاركت مع الرجال وربحت
يعقوب: واﻻن ما هو اسمك ايها الملاك؟
الملاك: لماذا تسالني؟ انت تعرف من اكون. انا اباركك يا اسرائيل.
يعقوب: لقد رايت يهوة وبقيت حيا. من اﻻن فصاعدا ساسمى المكان فنوئيل.
*
مشهد 5
رجوع يعقوب الى كنعان ومقابة عيسو

عيسو: انا لست بحاجة اليها لتكن لك.
يعقوب: ارجوك اقبلها مني. انها اشارة منك. علامة مسامحتك اياي.

(يستكمل)

جوليا #٤

كانت جوليا تطير على خشبة المسرح كفراشة سوداء ببدلة حمراء زاهية. وكم كان صوتها عذبا وهي تردد (صولو) في نهاية الترتيلة التي انشدتها الجوقة: “ياتي الميلاد وﻻ يغهمه احد، وياتي الموت وﻻ يفهمه احد، وبينهما تدرك الكائنات كل شئ”.
استيقظ اتريتيس بصرخة حنجرية عميقة: يا الهي اكان ذلك حلما؟ يا الهي اعني! وهمس الصوت الناعم في اذنيه: احمل صليبك واتبعني!
واغمض اتريتيس عينيه واصاخ السمع. “اكان ذلك نداء حقيقي؟” قال هامسا لنفسه، ثم صلى “اللهم سامحني! ﻻ تتباعد عني!”، وقد اخجله انه كاد يستسلم لعاطفته. وجلس على طرف سريره. كان جسده مبللا بالعرق وقلبه يدق بسرعة. لقد راها في الحلم. راى جوليا محبوبته. وفيما هو يلهث مرر في شعره اصابعه المرتجفة ثم نهض عن فراشه، وتقدم الى النافذة الصغيرة التي تخلل منها اشعة الضوء على استحياء. بعد هنيهة عاد وجلس وتناول الريشة وراح يكتب:
الى اختى العزيزة.
اه يا اختي! فكري في هذا هل يمكن ان يحصل الراس على تغذية بينما يتضور باقي الجسد. هل يمكن ان تكون يدك اليمنى غنية واليسرى فقيرة؟ لم ارى فقط ان يسوع لم يتركني، لكني ايضا عضو في جسده، من لحمه ومن عظامه. ليست الكرمة هي الجذر فقط ولكنها الجذر والساق واﻻوراق والبراعم والثمار. ويسوع ليس هذا فقط بل ايضا التربة والشمس والهواء واﻻمطار. هو اكثر بعشرة اﻻف مرة مما نحلم به او نتمناه او نحتاجه.
امضاء اتريتيس
كتبت اليك من السجن بروما

واجال نظره في الجدران الحجرية للحجرة الرطبة واضاف:
ما العمل؟ كم من المئات قد انتظروا داخل هذه الجدران كي يموتوا؟ ويا ترى، من اجل اي شئ؟ المتعة؟ انها تمضي. قبل ارتكابنا تقدم لنا ما يجذبنا اليها، وبعد ارتكابها تتوقف اللذة ويحل محلها اﻻلم والخجل. وكما ان اللذة في ممارسة الخطية ليست حقيقة ﻻنك تعرف ما يعقبها من خجل وعقوبة، كذلك فان اﻻلم وانت تمارس البر ليس هو الما اذ يتخلله الرجاء في الجعالة. سعادة المسيحي سعادة حقيقية وليست لذة محمومة. انظر حواليك يا اتريتيس. ان فاتحي العالم هم عبيد ﻻهوائهم، وذات يوم ستصرعهم اهوائهم.
***
في ذلك اليوم استدعى القائد اتريتيس بعيد الظهر. ولما خرج من زنزانته، وجد ابن خالته كالب في انتظاره بردهة السجن.
حدق اتريتيس به لبرهة. وقد كان كالب يرتدي حزاما مرصعا يشبه الزي اليوناني. وتوانى لحظة،ثم قال كما لو كان قد افاق للتو:

مرحبا كالب! شكرا انك اتيت للاطمئنان والسلام عليّ..
قاطعه كالب بخشونة: سلام؟.. اي شئ ينتظرك سوى الموت يا اخي؟ هل تعتقد انه يجب ان تواصل ما انت عليه من خبل؟!
مهلا عليّ.، ليكن الله معك.
فقال: لتكن نعمته معنا كلينا.
وتابع كالب وهو يصر من بين اسنانه: اي الله! ماذا تعني بما فعلته؟
اﻻ يمكن ان تصفح؟ ان يصل غضبك الى نهايته، فالنار تشتعل وتنطفئ حين تاكل ما تشعله؟.. الدموع تستنفذ بالبكاء والماء بالشرب. وقوتك البدنية اﻻ تنهك؟ روحك اﻻ تعذبك؟
ثم قال في وهن ونبرة متهدجة: ان روحي اخالها تتلاشى كسحابة من بخار، كلما تفكرت في القصاص الذي ينتظرك! وحق اﻻلهة! ان كاس اﻻلم مترعة وسوف تنسكب، وما سكب ﻻ يمكن جمعه ثانية، فحذاري يا اخي ان تتمادى في غيك.
تساءل اتريتيس: اتدعو الحق غيّا! لقد غشى بصرك ونصيحتي ان تفتش الكتب المقدسة. وستعرف ان من اؤمن به هو مسيا ، عليه رجاؤنا نحن وكل اﻻمم!
تساءل كالب في ارتباك: ايعني ذلك ان الله احبنا، فلماذا اصابت امتنا كل هذه المحن والشدائد؟ الرومان يا لقسوتهم! اليونانيين يا لعجرفتهم التي ﻻ حد لها. اما نحن فليس لنا اﻻ صفير اﻻفواه وصفق اﻻيدي. كل من يسمع بخبرنا تطن اذناه . اين نحن وقد كنا اكثر عددا من كل الشعوب؟ وان كان الله يحبنا فعلا رغم ما ذكرت، فلم احبنا؟
فقال بنبرة واضحة: ان الله احبنا ﻻنه احبنا. ﻻيوجد تفسير لمحبته سوى محبته. انه دوما يعاملنا ﻻ كخطايانا بل ﻻجل اسمه، اي دوما يعاملنا بطريقة تنسجم مع طبيعته التي اعلن عنها اﻻنبياء.
فقال باصرار تمازجه خشونة: اﻻ ان الصورة الى اﻻن من جانب واحد المحبة. لكن ماذا عن غضبه الذي طالما حدثنا عنه انبياؤنا؟
فقال بتردد: ينبغي ان نتفق ان اﻻنبياء ذكروا كثيرا غضب الله ودينونته، ﻻن تاريخنا تميز باﻻرتداد. لذا فان رضا الله مبادرة، تاتي من الله ذاته. ان يهوة له مطالب توافق طبيعته، مطالب ينبغي ان تلبى. وراح يردد كلمات النبي حزقيال “اتم الرب غضبه. سكب حمو غضبه”. وقال معلقا: و عندما ينفق غضب يهوة يتوقف.
هز كالب راسه: ليت مملكة ابينا داود تعود! كم طال انتظارنا!
حتى في عصر داود ملكنا. لم ننل رضى الله كلية. في ذلك الحين حل الدمار بالبلاد، فصرخ بنو اسرائيل من الوباء.
رجاؤنا يجب ان يكون في داود الحقيقي. ثم رفع عينين ضارعتين الى السماء وصلى:
وان كنا ﻻ نستطيع ان نصرخ ونتضرع اليك يا رب لتفعل على اساس من نحن، فاننا نستطيع ان نتضرع على اساس من انت.
لقد بشر اﻻنبياء الكذبة بصورة غير متوازنة. كانت كلماتهم ادعاءا عن رسالة السلام الذي ﻻ تعكر صفوه الدينونة، بينم تنبا ارميا “بالسيف والجوع والوباء” اﻻ انه تطلع ايضا الى ما بعد الدينونة. تطلع فراى الرب يسترد كل شئ. انه يفعل ذلك ﻻن محبته لشعبه عادلة انها محبة تبقى ثابتة.
مشى كالب يذرع الغرفة ذهابا ومجيئا هنيها ثم سال: محبة الله عادلة و ثابتة؟ ما علاقة محبته اذن بالكفارة؟
انها فقط وجوب توفر شرط اساسي في الطريقة التي اختارها ليسامح الخطاة ويصالحهم لنفسه. وهي اﻻ يكون ذلك على حساب طبيعته التي ﻻ تتفق مع خطاياهم. يجب ارضاء عدل الله وشريعته ونظامه اﻻخلاقي – اي يرضي نفسه. هذه الترضية او الكفارة هي ما حدثنا عنه الوحى “رائحة سرور” تشتعل النار ويتصاعد الدخان في الذبيحة كناية عن سخط الله ﻻنه اله غيور. نار اكلة”.
ذهل اتريتيس حيال ما قاله كالب. كانت عيناه تتلالا بالدموع وساءل نفسه عن غاية كلامه. يعرف كل اب وام ما معنى ان تتنازع عواطفهم حتى تكاد تمزق المرء انها ثمن المحبة الباهظ وﻻ سيما عندما تدعو الحاجة الى معاقبة اﻻوﻻد. الم اﻻبوة” اشار اليه هوشع عندما كنى عن اسرائيل “غلامه او ابنه” الذي علمه المشي وهو يضمه بين ذراعيه وقد اطعمه، اﻻ انه اختار اﻻرتداد. فهو يستوجب العقاب. لكن هل يستطيع اب ان يحمل نفسه على معاقبته؟
قال بصوت متهيب: اسمع كالب! هكذا يناجي الهنا يهوة نفسه: “كيف اجعلك يا افرايم؟ .. كيف اجعلك كصوبييم؟ قد انقلب علي قلبي. اضطرمت مراحمي جميعا. “. في النهاية يختم كلامه بانه نادم عن الشر الذي اراد ان يصنعه فيقول “ﻻ اجري حمو غضبي.. القدوس في وسطك فلا اتي بسخط”. صورة تكررت كثير في تاريخ تعاملات الله مع البشر.
يبدو لي سؤال النبي “كيف..؟”، صراعا !
بالفعل، هو صراع بين ما ينبغي ان يفعله يهوة بسبب بره الذي يأبى الشر ، وبين ما ﻻ يستطيع ان يفعله بسبب محبته.
كفاية. توقف! اتعبر عن الله بهذه الثنائية؟ الصراع في داخل الله. اﻻنقسام. كيف ذلك؟ كفى تجديفا يا اخي!
وبدا كالب وكأنه ينتظر اﻻ اجيب.
فقال بثقة وهو يوجه نظرة صريحة: اسمع يا كالب. الكتاب المقدس ملئ بهكذا تعبيرات. يقول النبي “في الغضب يذكر الرحمة”. “مملوءا نعمة وحقا”. “الرحمة والحق التقيا”. “هوذا لطف الله وصرامته”. ﻻ يوجد اي شذوذ في تعليم كهذا. الطبيعة الثنائية لله تمثل السر المركزي في اﻻعلان المسيحي. ﻻ يمكن ان تعلن طبيعة الله اعلانا شاملا مستوفى بكلمة واحدة.. هذه الفكرة اﻻحادية تدمر معرفتنا عن الله وحقيقة اعلانه عن الكفارة. لذلك فصليب يسوع هو المكان الوحيد الذي نلتقي فيه مع اﻻعلان الكامل عن الله.
قطب كالب قائلا بجفاء: هل تستطيع ان تقرا وتكتب وتحسب يا اتريتيس؟
نعم.
واخرون يستطيعون ذلك ايضا.
تجهم وجهه لبرهة ثم تبسم اذ عرف اﻻم يرمي كالب:
بالطبع يا كالب! ربما ﻻ زلت ﻻ تفهم تمام الفهم. وانا مثلك ما زلت لم اصل الى تمام المعرفة.
نظر كالب بتعجب: يعني ذلك اننا متعادلين.
قاطعه : ليس تماما. يعني اننا على نفس الدرب سائرين. هذا ما دعا احدهم ان يقول: ان الله احبنا بطريقة رائعة، حتى حين ابغضنا.
تنهد ثم قال بحماس تخالجه شفقة: ﻻ تمثل الثنائية صراعا كان الله في خلاف مع نفسه. حقا انه من الصعب ان نحتفظ في اذهاننا على الدوام بصورة الله القاضي الذي يقتص من اﻻشرار، مع صورة الله المحب الذي يجب ان يجد طريقة ليسامحهم.
ان قداسة محبة الله هي التي استدعت الكفارة. اي لو لم يكن الله قدوس لما كان هناك حاجة للكفارة.. فلا يجوز ان نتصوره الها متساهلا يقبل ان يعرض قداسته للمساس ﻻنه يابى ان يستخدم عصاه. وﻻ يجب ان نعتبره الها قاسيا ﻻنه يقمع محبته لكي يسحقنا ان اخطأنا.
انقبض كالب حين فتح فمه فخرجت الكلمة هواءا دون ان تسمع: اي خطب حل بنا.
اعاد القول واردف بغضب: العلنا نجيب على السؤال بان نقول: الله ضحى بنفسه ﻻجل نفسه، بغية ارضاء نفسه.
وتمتم: اﻻحرى ان نقول الله، ارضاءا لنفسه، ضحى بنفسه ﻻجلنا.
*
قال كالب بحماس: كيف استطاع الله ان يعبر في ان واحد عن قداسته بالقصاص ومحبته بالعفو؟ عفو وقصاص معا. كيف ذلك؟
وعاد اتريتيس يجيب: استطاع ذلك فقط بتامين البديل اﻻلهي. بحيث يتلقى البديل القصاص، وينال الخاطئ العفو و التبرير.
بادرة بنظرة ذهول وقال باستهانة: كلام غير مقنع ومتناقض!
احنى اتريتيس راسه وصلى: يا الهي اعطني اﻻجابة، ليس بكلام اﻻنسان المقنع بل ببرهان الروح والقوة.
وامتد الصمت لثوان وابتسم وقال:
انت نعجب مثلما يعجب كل يهودي، من ايثار موسى كليم الله، عندما عبّر عن تفضيله ﻻن يمحى اسمه من سفر الحياة في مقابل خلاص شعبه. وكذلك نحن المسيحيون نحترم رغبة مماثلة عند بولس حين يقول في احدى رسائله “كنت اود لو اكون انا محروما من المسيح من اجل اخوتي..”.. ويوجد في كل عصر قصص مؤثرة عن التضحية بالذات مثال ماكسيميليان كوالبي الذي تطوع امام السلطات ان ياخذ مكان محكوم اخر ليعدم. اذن ليس من المدهش ان الله الكلي الحب ان يكون طبق على نفسه مبدا البدلية هذا. من الجلي ان النبي ميخا فهم مبدا البدلية هذا. وان سؤاله الذي ناجى به نفسه عن الوسيلة التي بها ينال الغفران حين قال “هل اتقدم للرب بمحرقات.. انهار من الزيت .. او بكري عن معصيتي، ثمرة جسدي عن خطيتي؟؟؟”(6: 6-8). ان الجواب اﻻخلاقي الذي رد به على سؤاله عوضا عن الجواب الطقسي، وﻻ سيما رفضه للفكرة المرعبة في تقديم ابنه عوضا عن نفسه، هو “اريد رحم ﻻ ذبيحة”. وﻻ يعني بكلماته هذه رفض البدلية الذي بنى عليه نظام الذبائح.
واستطرد: حتى التقدمات .. حتى تقدمة القربان لكونها شاذة – اذ ﻻ تحوي سفك دم- فقد كانت ﻻ تقدم منفردة بل مرافقة لذبيحة ما، وهكذا تختلط تقدمة قربان الدقيق مع دماء الذبائح اﻻخرى على المذبح.
قاطعه: من هو البديل؟
المسيح طبعا. ان الصور التي تصور اﻻب غاضبا ويعاقب ابنه. او التي تصور المسيح كشفيع يقنع اﻻب بالعفو لها مرجعية كتابية واﻻ لما طورها المسيحيون لتفسير خلاص المسيح. التصور اﻻول صحيح “الله دان الخطية في جسده”.. “قدمه كفارة”..
هازئا قال: اب يعاقب ابنه.. صورة اجدها منفرة قاسية!
تردد اتريتيس في اﻻجابة. لم يكن يريد ان يستطرد في مباحثة غبية:
ثم قال بصرامة فاقت جديتها حديثه كله الى اﻻن:
كلانا يعرف قصة ابراهيم وهو يقدم ابنه محرقة. اتجد هذه الصورة منفرة قاسية.. او حتى مشهدا من اب بدى انه يجن؟
واردف: طبعا، ﻻ. ليس صحيحا ان الله ارغم المسيح على فعل ما لم يكن هو راغبا فيه او ان يسوع كان ضحية لعدالة الله القاسية. ينبغي اذن اﻻ نقول ان الله عاقب يسوع، او ان يسوع اقنع الله. ﻻن ذلك بمثابة جعل كلا منهما معارضا للاخر، وكانهما يتصرفان مستقلين او حتى في نزاع. فلا يجوز ان نجعل المسيح هدفا لعقوبة الله، او ان الله الطرف المقصود اقناعه من قبل المسيح. ﻻن الله والمسيح كليهما فاعلين ﻻ مستهدفين اذ اخذا كلاهما زمام المبادرة لتخليصنا نحن الخطاة.
تساءل متنهدا:
فلم يصلي المسيح “الهي الهي لماذا تركتني؟”. ان كان الله الذي اخذ طبيعتنا متروكا من الله. فكم بالحري نحن؟
قال اتريتس: احذر يا كالب ان تخلط بين اﻻب واﻻبن. ان كان اﻻب بذل اﻻبن فاﻻبن بذل ذاته كذلك. وان كان كاس جثسيماني رمز لغضب الله فهو ايضا قد اعطى من قبل اﻻب. ان كان اﻻب ارسل اﻻبن فاﻻبن جاء الى العالم ولسان حاله يقول “هنذا قد جئت ﻻفعل مشيئتك”. اي لم يضع اﻻب محنة على اﻻبن لم يرد حملها، وﻻ اﻻبن انتزع الغفران من اب كاره له.
احدى الترانيم تنشد بالكنيسة تقول:
انتصبت خشبة الصليب عاليا في الهواء
يحيط بها الضوء من كل جانب.
بدت اكثر تالقا من فروع كل اﻻشجار
تالقت بوميض الذهب وابرقت بلمعان الفضة
تالقت حول قاعدتها الجواهر مومضة..
ملك كل البشر اتى على عجل
متحمسا بشجاعة و للصليب ارتقي
القوي الثابت خلع ملابسه،
تسلق الخشبة ثابت العزم
صعد امام الكل ليفدي سائر البشر
ثمة شئ يقف عاجزا عنه العقل
ثمة كنز تقبله الروح فقط باﻻيمان.

طاطا كالب راسه بينما راح اتريتيس ينشد ترنيمته هذه بصوت عذب. كان وجه اتريتيس يتالق بفرح .. كان يخالجه شعور اشفاق “اه يا الهي اذ فتح كالب قلبخ لك. لو لم يكن قلبى مقسى جدا.
واراد لو لم يكن هو نفسه مؤمنا لكي ينال ابن خالته اﻻيمان.
ساد الصمت وكان الصوت الوحيد هو صوت كالب يدق. بدا كانه يحارب نفسه في قتال عنيف.
كانت كل كلمة قالها اتريتيس له اليوم كانها صفعة على وجهه لا بل منخاسا لقلبه. اترى ماذا يفعل لكي يؤمن؟ بدا له اﻻيمان عميقا جدا كمحيط ليس له قاع. ناظرا في عينيه بين برهة واخرى، شاعرا بخزي دون ان يتمكن من ادراك السبب. العله قصور ادراكه. اذن فليلحق به العار الى اﻻبد. انه لم يشعر بخطر التيه كما اليوم. بدى له وكانه احد افراد بنو اسرائيل تائها في برية سيناء. سأل بهدوء: قل لي، كيف لك هذا اﻻيمان؟ اعني كيف حصلت عليه؟ اقصد، هل يمكنك ان تفسر لي عدم ايماني؟
(يستكمل)

يوميات وحيد #١٨


ذات مساء ذهبنا للترفيه بالسير في محاذاة النهر. بادرتني بالسؤال:
“لماذا جاء يسوع؟”
اجبتها اﻻجابة التي طالما رددناها منذ طفولتنا.
“حسنا، ليخلص الخطاة”.
“اذن يسوع يحبك. هو ﻻ يحب ما نقترفه من خطايا لكنه يحبنا نحن، على ما نحن عليه”.
“اسمعي اني على وشك الوقوع في امر يمكن ان أندم عليه ما بقى من العمر. كل ما في الامر اني ارجئ وقوعه”.
كان النهر يتألق بين الحين واﻻخر بألق شهبي يمرق عينى بصفحته الفضية.
سألت : ما هو؟ لذت بالصمت. الحت فقلت متنصلا: ذلك سر! اتخفي عني سرا؟ لا، لكنك ستعرفين حينها. متى ذلك الحين؟ قلت لك، اني انتظر.
انتظار الرب يعني ان ننتظر تحقيق مواعيده. ﻻبد ان تتروي! اﻻنتظار يحسب هنا فضيلة!
لكن الى متى؟
طالما تحدث داود عن اختباره عن انتظار الرب. الإيمان إذا لم ينتظر فهو ليس إيماناً بالمعنى الحقيقي ولا هو اتكالا على الرب.
وماذا لو فشلت في اختبار اﻻنتظار هذا؟
ﻻ شئ. كل ما في اﻻمر اننا نخسر كثيرا، لكن تعويضات الله تحول دائما الخسارة الى ربح.
ﻻ افهم.
كان على ابينا ابراهيم ان ينتظر تحقيق وعد الله بكثرة النسل. وللوهلة الأولى نرى اسماعيل أن يعتز بالأثنى عشر أبنًا، والمدن التي أطلق عليها اسماء أبنائه، فيما نجد اسحق يندب أمه الحبيبة، ويرى نفسه وحيدًا بدون زوجة حتى سن الأربعين.
ولكنه انجب بعد الزواج.
ليس سريعا. فمع أن الزوجة قد أُحضِرَت إليه لكنها ظلت عاقرا طيلة عشرون عاما.
فترة طويلة ﻻ شك!
لقد انتظر ابراهيم ابي اﻻباء فترة اطول، انتظر 25 عاما.
ابتسمت: اذا لقد نجح في امتحان اﻻيمان او اﻻنتظار!
ﻻ. لقد تزوج بهاجر وكان ذلك سببا في مشاكل كثيرة له.
اوه. الى هذه الدرجة!
صلى اسحق إلى الرب لأجل امرأته لأنها كانت عاقرًا فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته.
كم هو جميل أن نجد اسحق ورفقة بعيدين عن الفخ الذي وقعت فيه سارة وإبرام، لإتمام الرغبة في الحصول على الوارث. لم يفعلا شيئا سوى الصلاة.
وراحت نتالي تتمتم بكلمات ترنيمة:
ستبقى لي يا رب راعيا طول الزمان
ستبقى لي حبا يملا كل الكيان.
*+*
ترجلت من السيارة. كنت اجر ساقي جرا وهي في جبيرة الجبس. ورحت امازحها فيما تنادي: الست اعقل من هذا، لم تمر اربعة ايام منذ كسرت ساقك؟
كان الصوت يتقطع. وانا الهث :
انتظري!
بدا صوتي كانه يتقطع، كانما الهواء منهوك القوى ﻻ يقوى على حمله.
وقلت مازحا: ﻻبد لي من الزواج ! هل تعرفت على رجال كثيرين يا نتالي؟ العفة تناقض الطبيعة ﻻنها ضدها.
ﻻ.. انها هي الطبيعة ذاتها.
المغاﻻة ليست فضيلة على اﻻطلاق. كيف ذلك؟!
خطايا الجسد ﻻ تاتي لمن يمارسون الرياضة والعمل والتسلية البريئة لكنها تاتي اوقات الخواء والفتور والكابة.
من المتوقع ان انحرف انسان في جانب من حياته تشوهت الجوانب اﻻخر؛ فالعاطفة والفكر والارادة والجسد متحدة اتحادا وثيقا في كيان اﻻنسان.
الجنس طاقة هائلة تشمل كيان اﻻنسان كله
هذا لا يعطي مبررا لمن تتحرك فيهم الدوافع الغريزية وﻻ يقدرون على كبحها.
ﻻ. صحيح كلما عظمت الطاقة عظمت اﻻستفادة منها. وابتسمت ابتسامة ذات مغزى:
كالطاقة النووية مثلا.
قالت بجدية: ليس معنى للاهدار الا عند الجهلاء. بالفعل، جبال الكحل تفنيها مراود النساء!
*
كنا قد تعبنا من السير بمحاذاة النهر. جذبتها من يدها.
اجلسي !
جلست الى جواري. فتحت حقيبتي واخرجت عدة الصيد. اقترتبت من ضفة النهر والقيت صنارتي. امسكت القصبة باحكام ورحت اراقب وانتظر. لم استطع ان ارى القاع لكن بصري كان ينفذ عميقا..
ثم جاء ثلاثة اوﻻد وجلسوا وهم يرقبون سمكة. استكانت السمكة في الماء ثم ما لبثت ان ابتعدت.
قال اﻻول في حماسة: ليتني استطيع صيدها. كنت ابيعها؟
قال الثاني ساخرا: لن تحصل بها على 5 جنيهات.
لكني سوف اخذ المبلغ الذي تيسر. فانا بالسنارة التي معي استطيع صيد العديد.
راحوا يتحدثون عما سيفعلون وكلهم يتحدثون في ان وحد. باصوات ملحة لجوج. جاعلين من الخيال امكانا، فاحتماﻻ، فحقيقة ﻻ تدحض. شان الناس جميعا عندما تتحول احلامهم الى كلمات. مجرد كلمات.

جوليا #٣

صاح اتريتيس: العزيزة ازميرالدا! كم هو سار مجيئك! وفتح ذراعيه.

وعانقته وقالت: حمدا لله، ان التقيك. اشعر انه تدبير الهي.

توتر اتريتيس بعاطفة لم يكد يستطيع السيطرة عليها ثم قال باهتمام: “اﻻن ستموتين من اجل ذلك يا ازميرالدا؟”.
“ان لم يكن لدينا ما يستحق ان نموت من اجله يا اتريتس، فليس لدينا ما يستحق ان نعيش ﻻجله”.
ساوره حزن مفجع ازاء اصرارها، ظل محدقا اليها في صمت.
قاطعته بقولها: “ان كثيرون اذ احسوا بثقل الخطية الرهيب سعوا الى الخلاص منها بطرق بشرية. واذ اعتقدوا ان السبب يكمن في اﻻغراءات بالعالم انسحبوا منه ليعيشوا في مغائر وكهوف بالجبال او داخل اسوار اﻻديرة. ومارسوا كل انواع الحرمان الجسدي، في سياحات طويلة او باﻻصوام والصلوات المتواصلة واعتقدوا انهم بهذا يرضون الله. لكن على الرغم من مجهوداتهم واخلاصهم فيما فعلوه اﻻ انهم لم يشعروا بالراحة وﻻزالوا يخشون الموت ويطيقون للعودة للعيش بالعالم للتمتع بمسراته. واكتشفوا ان الخلاص بالقوة الذاتية مستحيل”.
“ماذا تقصدين؟”.
انني اقدمت على الموت. ﻻنني اؤمن انني لو تخليت عما ﻻ استطيع ان احتفظ به، فسأنال ما ﻻ يمكن اﻻ اخسره ابدا”.
تتكلمين بالغاز. فسري!
ما اتخلى عنه هو الحياة اﻻرضية وهي ستنتهي يوما. ما من احد يستطيع ان يحتفظ بها. اما الحياة اﻻبدية فلا اتحمل خسارتها. كما انه لا تقدر قوة في الوجود ان تسلبها مني. ارايت؟ صفقة رابحة بلا شك لو امنت كما اؤمن!
ماذا يعني ايمناك؟ شخص مات صلوبا مهانا؟
لقد مات يسوع عوضا عن اﻻشرار. الانجيل يعلن بوضوح المسيح مات ﻻجل خطايانا مقدما خلاصا كاملا وتاما . اعمالنا ﻻ يمكن ان تخلصنا. ليس طقس السوتيا الذي يمارسه البرابرة، وﻻ اي عمل بطولي يقوم به روماني.. كما ﻻ تفيد ممارسات الغنوسية التقشفية.. ما من عمل ينفع من اي نوع. الله ليس هو اﻻله مولوك الذي كان الكنعانيون والفينيقيون اطفالهم الي نيرانه المتقدة كمحرقات للترضية. الهنا صالح محسن ومحب ورحيم. لقد قال يسوع “من يقبل الي ﻻ اخرجه خارجا”.
ورات ازميرالدا صراعه الداخلي: ما الذي جاء بك الى هنا؟
فابتسم ابتسامة صفراء كئيبة وقال: لقد حلمت حلما، وها انا قد حققته.
انت تسعى الى اللاشئ.
كلا. بل يتحقق . لقد بدا ليلة ان جئت اليك في تلال روما العظيمة. وها انت وانا معا.
احست بتهربه. فصلت الى الله ان يعطيها ما تقوله. ان يعطيها كلاما بحسب الحاجة. ثم قالت كلاما وهي واهنة بسبب طول اﻻحتجاز وقلة الطعام ورداءته ﻻيام طويلة: اقعد معي وساخبرك.
اينما يكتب بولس للمؤمنين الذين سعوا باعمالهم للخلاص “ان كنتم قد متم مع المسيح عن اركان العالم، فلماذا كانكم عائشون في العالم تفرض عليكم فرائض: ﻻ تمس وﻻ تذق وﻻ تجس. التي هي جميعها للفناء في اﻻستعمال حسسب تعاليم ووصايا الناس”.
ولماذا يفعل الناس ذلك؟
يخبرنا الرسول عن السبب: “لها حكاية حكمة، بعبادة نافلة وتواضع وقهر الجسد وليس لها اية قيمة باشباع البشرية”. الله ليس هكذا ولم يكن هكذا قط يوما. ما يصوره هقل الناس الواهم و ما يجعلهم يسلكون هذا المسلك الضال. انه يعلن اﻻخبار السارة “الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم”. ان رسالة اﻻنجيل بسيطة. ما يفعله الله الكلي القدرة والصلاح في مقابل ما يمكن ان نفعله نحن بضعفنا ورداءة ارادتنا المنحرفة الساقطة.
انت تقولين “انني يجب ان اؤمن باهمية ما عمله المسيح للخلاص”. حسنا ما اهمية المعمودية التي حدثتني عنها من قبل؟ ﻻ اؤمن بضرورتها الخلاص. واﻻ لما اقول الرسول “المسيح لم يرسلني ﻻعمد بل ﻻبشر”. وهل تعتقد ان بولس يبشر ويترك عمله الرعوي غير كامل لو ان المعمودية كانت ضرورية للخلاص؟ افترض متحوﻻ مات قبل ان يجد من يعمده. ما حاله؟
مست ازميرالدا يده. اكمل. اخبرني بحلمك.
اسند ضهره الى الجدار الحجري في الزنزانة وتابع بتهالك وقد تهدج صوته: كنت ارى في حلمي انني امشي وسط ظلمة ثقيلة جدا. لقد بهرني منحوتات ارطاميس في اﻻكروبول. اﻻ انني شعرت بضيق وثقل رهيب يضغط صدري.
اغمضت ازميرالدا عينيها وطاطات راسها وصلت طالبة من الرب ان يرشدها. ثم رفعت راسها من جديد وقالت:
“دعني اجيب عن اسئلتك. ربما تكتشف ما سر انقباضك وكابتك”.
فقال بكابة: ربما!
تابعت تقول: تذكر، اللص اليمين لم يتعمد. ولو كان هناك استثناءا واحد فهذا يكفي ﻻن المسيح اجابه “اليوم تكون معي في الفردوس. انك تجيب حين تسأل قبل المعمودية “من اعطاك اﻻسم الجديد؟ فترد: “اﻻشبين اعطاني اﻻسم، ﻻني اصبحت عضوا في جسد المسبح ووريث للملكوت السمائي وابنا لله بالمعمودية”. “من امن واعتمد خلص، ومن ﻻ يؤمن يدن. ان المعمودية مهمة و يسبقها اﻻيمان. انها رمز لشيئين: 1- غسل خطايانا 2- الموت مع المسيح والقيامة معه ضروريان جدا للخلاص.
اذا ما هو الضروري؟
ﻻحظ ان الله ﻻ يقل لك كن ولدا طيبا او رجلا صالحا ومطيعا فساخذك للسماء وان فشلت فلا مكان لك عندي. لكنه يقول كن ولدا طيبا او رجلا صالحا ومطيعا على قدر ما تستطيع. وان فشلت فالجأ اليّ. ستجد مكانا حتما لديّ،. فمن يقبل الي ﻻ اخرجه خارجا.
لكن الكثير من العقائد المسيحية صعبة؟
ليس تماما. ﻻحظ ان يسوع يقول “امن”. ولم يقل لك “حاول ان تؤمن”. مما يدل على ان اﻻيمان اسهل من عدمه.
احنى راسه وقال: لست انا من يشكو الشك. الناس!”. واستدرك خطاه فقال “كثير منهم على اﻻقل”.
تنهدت وقالت: انت تشكو من ذلك. واعلم ان الناس قد يقولون مثلا ما معنى تصوير الله غاضب فيتالم المسيح ويموت موتا شنيعا. لماذا يتالم برئ بدﻻ من مذنب ؟ وكيف يحد الله في الجسد؟.. وغيرها الكثير.. المسيحية تدعوك الى التفكير. الله ﻻ يحب الكسالى. اليس كذلك؟
فرفع يده ملوحا بقبضة وقال: نعم. ما من احد يحب الكسل.
سحبت ازميرالدا نفسا على مهل وتابعت: بالفعل الله ﻻ يحب خاملي العقل مثلما ﻻ يحب الخمول البدني. فان تصبح مسيحيا انت تقدم على شئ سياخذ منك تفكيرا كثيرا، سيأخذ عقلك وكل شئ اخر. كيانك كله. لذا فانا احذرك. لكن مع ذلك ولحسن الحذر ان ذلك يعود بالنفع جدا بطريقة او باﻻخرى. مؤكد انك ستلحظ تغيرا للافضل في مجاﻻت اخرى من حياتك. اي شخص يحاول ان يصير مسيحيا بامانة سيلحظ ان طريقة تفكيره تغيرت للافضل، وقد اصبح حاد الذكاء
ضحك ساخرا:. يا لها من منفعة!
استطردت: احد اﻻسباب ان المسيحية ﻻ تحتاج مستوى تعليميا معين انها بذاتها تعليم. وهذا جعل من شخص عامي كيوحنا بنيان يؤلف كتابا اذهل العالم حتى اﻻن “سياحة المسيحي”.
نهض اتريتيس وهو يرتجف وتمتم: “غير الزمني غير المحوي..” عبارة قد سمعها في احد الليتورجيات عندما دعاه صديقه يوما .. غير الزمني.. الله فوق الزمن”.
وراح يذرع الغرفة ذهابا ومجيئا. واذ رات ازميرالدا اضطرابه وقلقه. قالت متحيرة اﻻ تقدم الجواب المناسب:
“هذا هو الشرح لذلك. دعني اقول فكرة. الزمن ياتي الينا لحظة بلحظة. لحظة تلي اﻻخرى. لحظة ﻻ تاتي اﻻ بعد ان تعبر اللحظة التي تسبقها اي تتلاشى. وﻻ مكان اﻻ للحظة واحدة بعينها. اي ﻻ يمكنك ان تنضم لحظتين معا. هذه الفكرة بداها اللاهوتيون فيما بعد اخذها الفلاسفة عنهم. واخيرا العلماء يعتقدون ان الزمن يمضي هكذا. هناك اشياء فوق الزمن. بالطبع الله فوق الزمن.
مفعما بالعزيمة والرغبة الصادقة في الفهم. لكنها كانت عزيمة مختلطة بالياس، قال اتريتيس: هذا كلام صعب.
“اعرف. سوف اشرح اﻻمر هكذا. افترض انك تؤلف قصة او تكتب رواية. لقد قرأت بالفعل رواية مؤلفها اعتمد على تقنية السرد كما ساحكيها.
ما اسم الرواية؟
يوميات مختار. كتبها احد رهبان البرية الشرقية. وقد استعمل اسم مختار كاسم دﻻلي للتدليل علي كل المؤمنين كمختارين من قبل الله.. على اية حال، افترض انني كتبت التالي:
“وضعت ماري القلم وللحال سمعت قرعا على الباب.. “. الزمن يا اتريتيس ﻻ يوجد اﻻ في الرواية. بينما انا ارى كل الزمن. اي ﻻ توجد حدود زمنية فاصلة.
فتصلب ونظر اليها في قنوط: هذا اﻻيضاح ﻻ يفي بالغرض.
“حسنا. الله ﻻ يعدو بالزمن مثلما يفعل الراوي في روايته. لديه اﻻبدية بكاملها لينصت الى صلاة كل واحد من مليارات البشر. لديه زمن ﻻ نهائي ليتعامل مع كل واحد من البشر. هذا ما دفع اغسطين ليقول – وان كنت ﻻ اعرف تماما كيف اختبر هذه الحقيقة!
ماذا قال؟
لقد صلى متأملا: اراك يا الهي تتطلع الي دائما وكاني وحدي موضوع حبك. تسهر علي وكانك نسيت الخليقة كلها.
“وما علاقة “فوق الزمن” بحديثك عن خلاص المسيح لنا بالصليب؟”.
“اﻻمر يسير هكذا. حينما مات المسيح، فعل ذلك وكانك الملوق الوحيد. وهذا دفع اغسطين ليقول ايضا: لو لم يكن في الكون سواي لكان المسيح قد جاء وافتداني ايضا”.
فامسك بذراعها وقال: انك تضيعين وقتك. ما الزمن اﻻ ساعة رملية. يوما ستنتهي حبات الرمل من مخروطها.
“لكن ﻻ تنس انك تقلبها على مخروطها المقابل. وهكذا يبدا يوم جديد بعد انتهاء سابقه”.
واطلقت ضحكة متبسمة، فقد وجدتها فرصة ان تحدثه عن يوم اﻻبدية الذي ﻻ ينتهي. فتقدمت اليه ومست يده برفق وقالت:
“لو اعتبرت ان الزمن يقطر كما تقطر ذرات الرمل في ساعة رملية. او لو تخيلت خطا مستقيما مرسوم على صفحة ونحن نسافر عبرها فلكي تنتقل من النقطة ا الى ب يجب ان تترك ا اوﻻ، ولا يمكنك ان تنتقل الى نقطة ج ان لم تترك ب وهكذا. اما الله فهو خارج الورقة ليرى الخط المستقيم المرسوم كله. لديه سنة 200 مثل سنة 250م مثل وقتنا اﻻن 289م. فهو الحياة ذاتها”.
اطلق اتريتيس ضكة مفعمة بالسخرية: و هل هذا ينطبق على حياة يسوع على اﻻرض؟ وما فعله هل من جانب ﻻهوته ام انسانيته؟
ونظر اليها في غل: انت تريدين ان تصلي الى اللا محدودية؟ هذا عبث!
“قلت لك يا اتريتيس. حياة يسوع على اﻻرض كانت مجرد فترة في حياته ووجوده السرمدي. فهو له وجود قبلها وكذلك بعدها. ﻻن الله خارج اطار الزمن كما راينا. واذا نظرنا اليها كالخط المستقيم المرسوم على الورقة يكون قد اختبر خلالها الضعف والنوم وحتى النمو الجسدي واﻻدراكي. هذه فترة محددة من تاريخ حياته لكننا نتخيل انها فترة في وجود الله اي في تاريخ حياته. لكن الله ليس له تاريخ يبقى فوق التاريخ”.
فامسك بذراعها وقال: وهل كان يعرف انك تاتين اليوم الى زنزانتي؟”.
افلتت ذراعها وقالت برقة: “الله له سبق المعرفة. وهذا جعل الكثيرون يسالون ان كان الله يعرف ما سافعله، فكيف يكون لدي حرية ارادة؟”. وتابعت بتصميم “قلت لك. الله ليس لديه امس واليوم، لديه فقط “اﻻن”. امس هو عندك، في مجال نظرتك انت فقط. امس يختلف عن اليوم في نظرنا. لكن عند الله ليس كذلك. لذلك نجد ان ازمنة النبوات تختلف فيها اﻻفعال ، فوجدنا الفعل الماضي يستخدم على الحاضر والمستقبل وبالتباديل والتوافيق. اي العكس بالعكس.
“ان كان اﻻمر هكذا. فما دورنا نحن في الخلاص؟”.
“بالطبع كما اخبرتك. ان كان الخلاص باﻻعمال فليس اﻻيمان بعد شيئا. فالمسيح اذن مات بلا سبب”.
“لكن لماذا يقول الرسول: ايمان بدون اعمال ميت؟”.
“بالفعل انه كالشجرة. شجرة ميتة ﻻ تثمر وايمان بدون اعمال هو ايمان ميت. لكن المسيحيون ﻻ يعملون لكي يخلصوا، ولكنهم يعملون لانهم خلصوا، نالوا الخلاص بعمل المسيح الذي اكمله على الصليب اذ قال “قد اكمل”. “بقربان واحد اكمل الى اﻻبد المقدسين”.
ارتجفت يده وقال وهو يرقب رد فعلها بحذر: ليرحمني الله! لقد كرهت حياتي. كرهت الناس. حتى انني اكرهك وها انا اشعر بمرارة ذلك بفمي. سأمت سفسطة ولغو ﻻ نهاية له.
“اعذرني. دعني اطرح الفكرة بطريقة ثانية حتى اكون منصفة”.
“ﻻ طريقة ثانية وﻻ ثالثة. قلت، ﻻ اهمية للاعمال. ودللت ببطلان كل الممارسات التي يحاول الناس الوصول بها لله بدون المسيح واﻻيمان به. وانا اؤمن بهذا، ﻻن يسوع قال مرة “ﻻ احد ياتي الى اﻻب الا بي”. لكني مع ذلك ارى الكتاب المقدس ملئ بالشواهد التي تحض على العمل والعمل والعمل. وابسطها “الله سيجازي كل واحد حسب عمله”.
“وماذا لو كان احدهم عاجزا عن اﻻعمال؟ وماذا لو تقدم بك العمر ووجدت نفسك واهنا وغير قادر على انجاز اي شئ؟”.
“ساتخذ لي شفيعا وسيطا من الملائكة.. انهم حلقات وصل بنا واﻻلوهة”.
“هذا ما تعلمه الغنوسية. لقد تركت الخلاص باﻻعمال اتجهت الى الخلاص بالمعرفة. تفكير اثيني بحت”.
لمست ازميرالدا في كلماتها السابقة مخرجا وﻻحظت انه بدا يقتنع ببايمانها فتابعت بحماسة زائدة:
“حسنا بالتامل تعرف ان ما ينشره السفسطائيين هو بدع “عبادة الملائكة” يقول عنها الرسول “ﻻ يخسركم احد الجعالة راغبا في التواضع وعبادة الملائكة..”. يربط الرسول بين التواضع لعبادة الملائكة. فهؤﻻء فاسدي الذهن اعتبروا انفسهم غير مستحقين ان يتجهوا الى الله عن طريق وحيد اخبرنا به يسوع اﻻ وهو شخصه المبارك وراحوا يلجاون الى وسطاء من الملائكة. ولكن هذا التواضع هو عين الكبرياء لذلك تجد الكلمات التالية للرسول جاءت باسى بالغ عن الغنوسي “منتفخا باطلا من قبل ذهنه الجسدي”. ارايت كيف يقود شئ الى نقيضه؟”.
“اذا فاﻻعمال الوارد ذكرها في الكتاب باطلة اذ لم تقوم على اساس اﻻيمان؟”.
“تماما. هذه نقطة. اﻻيمان هو اﻻساس ، ولا قيام لاي بناء دون اساس. اذن تتفق معي في هذه النقطة على اﻻقل. عن اهمية اﻻعمال ؟”.
صمت للحظات. ثم قال في اعتراف: “ارى انك بدات تقنعيني”.
تابعت: يقول الرسول “فلينظر كل واحد كيف سيكون عمله. ان احترق عمل احد فسيخسر..”.
ابتسم.
“ماذا؟ اﻻ تدل على اهمية الاعمال قوله “سيخسر..”؟”
“ولكنه يقول بعدها مباشرة “اما هو فسيخلص”.
ابتسمت ازميرالدا ايضا. فقد مست ذهنا متقدا وقالت في تهرب: “فلننح جانبا هذا القول ونعود اليه ﻻحقا. كنت اقول ان اﻻعمال التي يقصدها الرسول حين قاوم اﻻعتقاد بالخلاص نتيجة اﻻعمال، انها بدون اساس اﻻيمان بما اكمله يسوع عنا. واضيف نقطة اخرى وحاسمة ، الاعمال التي هي مجرد ممارسات شكلية، اي اعمال الناموس التي كانت رمزا لحياتنا الجديدة في المسيح. ﻻحظ معي ان الشريعة قديما. كانت ناموسا ادبيا وناموسا طقسيا. اثنين متباينين على اﻻقل وليس ناموسا واحدا. الناموس الطبيعي ﻻ يمكن ان يختلف عليه اثنان. وحتى الشعوب الذين ليس لهم ناموس حفر الله على قلوبهم ناموسه”.
(يستكمل)

يوميات وحيد -١٧

الم بي اليوم احساس قابض، نوع من ذلك العجز الصبياني المتهيب واﻻمانة المناقضة لنفسها، مزيج منهما يتجاوز العقل ويسلبه على مهل ويراوغ المسؤولية والواجب، يرافق ذلك كله تسامح كلف، كتسامح جد مع اطفال مزعجين.
وصلت الى المحطة في الموعد . واذ جعل القطار يشق طريقه وراحت عجلاته تصدر شخللة رتيبة يرافقها مشهد الجبال اﻻزلى تتلاشى في الفضاء الكثيف، رحت افكر..
مار فرنسيس يحدث عن الموت ويدعوه للمجئ بقوله “هلمي يا اختي المنية”. ذكرني بذلك الراهب الذي كرها في النوم كان يستحضره كل مساء بقوله “هلم يا عبد السوء”. ﻻ يمض وقت طويل حتى يدرك المرء انه ليس بحاجة الى شئ. اه لو كانت اﻻمور تنهي نفسها بنفسها.. اه لو يستطيع المرء ان يتنصل من كل شئ. ولسوف انظر يوما وارى عظامي وقد استحالت الى رماد. لن يستطيع الناس ان يتبينوا حتى العظام على الرمال البكر الموحشة حتى يقول الله يوم القيامة “قوموا”. لن يطفو على السطح اﻻ من اسعفته اعماله .. كلا، فاعمالنا كفيلة ان تدفع بنا الى موارد التهلكة، وان تهوى بنا الى قاع جهنم. واهم من اﻻعمال الاقوال. فالقول ينتج فعلا. وما اجمل ان تكون الكلمات قوية و رقيقة في ان واحد.


لم يزعج نفسه بالحظ؟ لن يؤذيه الحظ في قليل او كثير.. اذن لماذا غيروا اسمه ان لم يكونوا يحاولون اسعاف حظه؟

لقد حاولت معه والدته ان تثنيه عن عزمه، لكنه ركب رأسه هذه المرة بعناد، ونزل بثياب كالحة ظهرت بلون احمر في ضوء الشفق. وخطى بقدميه نحو المجهول، سار مسافات طويلة، وتسلق كثبان من الاكثاب الرملية حسبها جبالا شاهقة الارتفاع . وفي النهاية حين هدأ الى نفسه بعد ان دخل الى مغارة منحوتة جزئيا في تجويف جبلي متوسط الانحدار ، همس “ثمة فجوة بيني وبين رغباتي لم يعمل اي شئ ﻻجل ردمها. اﻻبواب جميعها كانت موصدة في وجهي .. كن رجلا بمعنى غنيا ولبقا وسريعة البديهة، ذكيا مهندما… الخ من المتطلبات التي فوجئ انها لن تجتمع اﻻ في سوبرمان.
وعلى مدى اسابيع وشهور وسنين كان يصلي. لقد تعلم ان كل مفهوم للبطولة يتصدع امام الواقع وامام رغبات متنازعة. كان ذلك مفقودا في مكان ما في الظلمة خارج دائرة النور وحان اﻻن وقت الصراحة. ففي الصراحة راحة.
همس لذاته مشفقا: اﻻ توافقين معي على انني لن اكون يوما ما تحلمين به؟ لن احقق ما وعدتك به، فما العمل؟ فهل لم اكن يوما رجلا؟ .. لست اتخيل انني اقرر لوحدي.. مضى وقت طويل قبل ان اتعلم انه ما عاد لي الحق ان اختر لوحدي او اقرر شيئا بمفردي.. لابد لي من مشير! وابتسم، لابد لي من معين نظير!
اني اكره كلام الشفقة على الذات. هذا يدفعني الى الاشمئزاز يصل الى حد التقيؤ. كنا انني لا ارغب في جلد الذات. كنت صارما مع ذاتي لسنوات، فلم لا ارق لها الان؟
لقد ارتايت ان اخرج من هذا الوضع باقل خسارة وباي ثمن حتى لو ادى ذلك الى ان اشطب على كل ما قلته بجرة قلم، وان امحو كل ما انتويته بممحاة.
مضت ايام اتخيل نفسي اسير في نفق مظلم من كثرة تقارب الافكار المتناقضة وتماهيها الى حد التعقد ..
عشت مراحل الصبا والشباب والرجولة اعمل واعمل. اما المتعة بحد ذاتها لم يكن لها ويجب اﻻ يكون لها مكانا في حياتي.
قلت سوف امنح لذاتي فرصة ثانية ، فهل فشلت؟ وان كان فباي رجاء ارغب في ان امنحها فرصة ثالثة؟
امامي رتل طويل من متطلبات الحياة واﻻعداد.. اخال انه لن ينتهي ابدا.
اصبح اترابي في اعلى الهرم وانا اسفله وان كنت لم اهوى بعد الى القاع. نعم نعم.. كم هو جميل ان يخال المرء نفسه صاعدا الهرم، في قمته .. لكنه يعمى عن رؤية اخرون نازلون. هذه سنة الحياة، لن يتبوأ احد القمة ان لم ينزل عنها الاخرون.
ثمة غمامة كثيفة تتدلى فوق حياتي وتعمي عيني وتغشي بصيرتي.. جعلتني حائرا.. اي قرار اتخذ واي طريق اسير.
قلت يوما لنفسي: لتراجع نفسك.
قد ابدو ابلها وان الفظ تلك الكلمات او اخال نفسي ندا لنفسي.. اعتبرها خصما في معركة، ﻻ رفيقا محبوبا.. !