في ذلك اليوم لم يكن في الكنيسة سوى شاب تظهر من ملامحه انه بولندي، وامرأتين عجوزتين، وخدام الكنيسة: الكاهن وشماسين.
اقبل الشماس على طاولة صغيرة قرب الجدار وبدأ قراءة الانجيل، احس الشاب وهو يسمع القراءة بملل وبعجلة شديدة كان الشماس يخلط الكلمات ببعضها بينما الشماس الاخر يكرر المرد: “يا رب”. ان فكره مغلق وكأنه قد ختم عليه. كان يحدق في الشماس لا يسمع ولا يحاول ان يفهم، شاردا في افكاره.
بعد عدة دقائق ، قال في نفسه وهو يشعر باضطراب شديد: “سينتهي كل هذا بشكل او اخر”، واتجه الى المنبر .
عقب انتهاء الخدمة صعد درجات خورس الشمامسة، واستدار الى اليمين، وانحنى على يد الكاهن وقبلها، كان رجلا ذو عينين وادعتين، متعبين: “كان واقفا قرب حامل الانجيل يتصفح الكتاب”. حيّا الاب الشاب تحية ودودة. وبدأ من فوره يقرأ صلاة البركة له، وعندما انتهى التفت الى الشاب وقال وهو يريه الصليب:
– ان المسيح يحضر في كنيسته دائما. اتؤمن بهذا؟ اتثق بالمسيح؟
– انا اثق بنفسي.
– وماذا ستثق عند الموت؟
– لا شئ. فانا سأصير عدما.
– اذا انت تثق في لا شئ. او بالاحرى انت لا تثق في شئ.
اجاب الشاب بصوت صادم:
– شككت وما زلت اشك في كل شئ. حتى اني اشك في وجود الله.
انتظره الاب بضع ثوان ليضيف شيئا، ثم اغمض ينيه يقول واخذ يقول بسرعة:
– كيف يجوز ان تشك في وجود الله؟
وصمت.
تابع الاب:
– كيف يجوز لك ان تشك في الخالق وانت اينما تطلعت رأيت خليقته؟
واضاف وهو يلقي عليه نظرة مستفهمة:
– من زيّن القبة السماوية بالافلاك ؟ من وشي الارض بالجمال؟ من، ان لم يكن الخالق؟
حرك شفتيه ويبدو انه اراد ان يقول شيئا وامتنع. ربما احس ان من غير المجدي الدخول في مناقشة فلسفية معي، واكتفى بجواب متصل مباشرة بالسؤال:
– لا ادري.
قال الاب:
– لا تدري؟ فكيف اذن تشك في ان الله خلق كل شئ؟
قال الشاب وقد علته الحمرة وشعر ان كلماته كانت غبية في مثل هذه المناسبة:
– لست افقه شيئا من ذلك.
ردد الاب:
– صل الى الله ليكون في عونك. الاباء القديسين شكوا وصلوا لكي يثبت ايمانهم. ان عدونا الشيطان قوي، ويجب الا تستسلم له. صل.
سكت بضع لحظات، ثم قال:
– انك ستتزوج في القريب. حقا؟
– نعم.
واستطرد:
– ولعل الله سيمنحك الذرية. فما التربية التي تريد ان تربي اولادك عليها؟ اذا احببت اولادك، فلن تطلب لهم فقط الثروة، بل ستطلب خلاصهم. بماذا تجيب ابنك عندما يسألك : “من خلق ، يا ابي كل ما يسحر في هذا العالم: الارض والمياه والشمس والازهار والعشب؟” لن تجيبه: “لا ادري” لن تستطيع ان تتجاهل ما كشفه لك الرب. وماذا ينتظرني بعد الموت؟” اتتره فريسة لسحر هذا العالم ولحبائل الشيطان؟ ليس هذا حسنا.
قلت هذا وتوقفت.
لم يجب هذه المرة، لا لانه يرفض النقاش، بل لانه بدا عليه ان احدا لم يطرح عليه هذه الاسئلة من قبل.
تابع وهو يربت على كتفه برفق:
– انك تدخل مرحلة من الحياة ينبغي ان يختار المرء فيها طريقه وان يثبت فيه. صل الى الله ليمد لك العون ولينير لك الطريق.
+++
قال الاب كارول وهو يبتسم ويستند على كتف مساعده:
– اوه لقد .. اصابني مرض الشلل الرعاش وانكسر الكوب بعد سقوطه من يدي، ولكن لن تنكسر نفسي. ستانيز لوف! بني.
– نعم، ابتي.
– اهلا بعودتك حرا مجددا يا بني.
– شكرا لك يا صاحب الغبطة.
– انا سعيد لرؤيتك وارغب في معانقتك.. هل تذكر لقائي الاول بك؟
– نعم، اتذكر ويشهد الله ، اني لا اجد في نفسي شيئا من الاسف على فترة سجني..
– لكني اسف ان اراك في هذه الحالة السيئة!
– الاطباء متأكدون وهم يسمونه الشيخوخة المتزامنة. انه احد اشكال مرض الشلل الرعاش.
– وكيف سيؤثر عليك؟
– سيزداد ارتعاشي اكثر فاكثر مع مرور الزمن. وسيصبح بعد ذلك المشي صعبا، ومن ثم مستحيلا، ساصبح اكثر ضعفا وسينحني ظهري، عندما يتحكم المرض بي سيصبح التنفس صعبا، ولن اعود قادرا على الكلام بعد ذلك. قال لي السكرتي انني ربما يجب ان استقيل، لانه اذا خلدت للراحة ربما يتراجع المرض.
– انك قدمت يا صاحب الغبطة من جهدك اكثر مما يمكن ان يقدمه اي انسان وتحملت ما هو فوق طاقة البشر. ولقد فعلت ما يعجز عن عمله الكثيرين. لقد اسقطت النظام الشيوعي الذي كان متوقعا بقاءه الاف السنين.. اجل، بفضلك انت انا هنا اليوم.
وتساءل مرة اخرى، وقد اخذ يسترجع في ذاكرته احاديثه السابقة مع البابا، والاحداث التي مرت بهما معا:
– لكن، لماذا يسمح الله بهذا لك؟
– الله يعرف دائما ماذا يفعل. وكيف يفعل ذلك. من الواضح ان ما يريده الان هو بابا مصاب بمرض الشلل الرعاشي. وهو وحده يعرف لماذا.
ثم نظر الى السكرتير وقال:
– ولكن قريبا سأزور امريكا، وسأقيم اياما للشباب فيها. وانا متيقن انه ستشهد فكرة “ايام الشباب ” نجاحا هناك وفي العالم كله كما لاقت من قبل في بولندا والارجنتين..
سأل السكرتير:
كيف يا صاحب الغبطة؟ بولندا والارجنتين بلاد ذات اغلبية كاثوليكية.اما امريكا فهي بلد مختلف.
هل تدرك كيف هم شباب امريكا يا صاحب الغبطة؟ هم لا يريدون اطلاقا الخضوع لفكرة الحج. ربما من الانسب تنظيم احتفال موسيقي لمجموعات الروك المسيحية.
– افعل ما قلته لك وسترى يد الله تعمل. عليك ان تؤمن وان تصل، صل بايمان.
+++
اطل البابا من شرفته في ساحة سان برنارد التي اقيمت له خصيصا في مدينة نيويورك. كان يحيط بالشرفة جمهور لا يحصى من الشباب، رافعين اعلاما ولافتات ترحب بزيارة البابا لامريكا. والشباب الذين لم يستطيعوا الوقوف في الصفوف الامامية اسفل الشرفة مباشرة ازدحموا في الساحة. كما اصطف على طول الطريق اكثر من عشرين عربة بحراسة الشرطة. ووقف قرب المدخل ضابط شرطة متأنق في بزته لحراسة البابا. وبين لحظة واخرى كانت الحشود تصفق تصفيقا حادا وهم يلوحون بالاعلام.
قال الضابط المتأنق:
– غير معقول لا اصدق ذلك. لم اتصور رؤية حشود كبيرة كهذا.
وقال السكرتير:
– انت تعرف دائما كيف تتصرف، يا غبطة البابا.
بينما راح البابا يحي الشباب المحتشد في الساحة قائلا:
– “ان الامل في المسيح وهو الذي يشع في قلوبكم سيضئ جميع القلوب في العالم. توجد حكمة بولندية تقول:
اذا كنتم تعيشون بين الشباب عندها يجب ان … ان.. ان تصبحوا شبابا ايضا. المثاليات لا معنى لها الا اذا تمكنتم من الدفاع عن حق كل انسان. حق الحياة منذ الولادة. لا تخافوا من الشهادة للمسيح مثلما فعل تلاميذه، ولا تستحوا من الكرازة بالانجيل. الان لم يعد وقت الخجل، بل حان الوقت لنعيش الانجيل ونعلنه بكل قوانا. عم تبحثون؟ وما هو سر السعادة الحقيقية؟ عندما تسعون نحو السعادة فانتم حتما تبحثون عن السيد المسيح. وستجدونه بانتظاركم عندما لا تجدون شخصا اخر يستطيع ان يشبع ارواحكم الجائعة اليه. ان المسيح هو الجمال الذي يبهركم كثيرا، وهو الذي يخلق العطش نحو الحب والخير والجمال داخل قلوبكم. ذلك العطش الذي يبحث عن تغيير جذري للاوضاع السيئة في بلدكم. التغييرالذي لا يقبل مساومات. وهو الذي يعرف رغبة قلوبكم الحقيقية التي يرغب الاخرون في تعطيلها. انه السيد المسيح الذي عزز رغبتكم لتضعوا شيئا حقيقيا يستحق حياتكم.
**
في الاول من ابريل 2005 رقد البابا يوحنا بولس الثاني في الرب.