يوميات جوليا #١

اللون اﻻزرق يناسبك
كانت في البيت وقد بدت اجمل مما سبق ان رآها. قال لها، “اللون اﻻزرق يناسبك”.
فقالت، وقد سرها اطراؤه: “هكذا قيل لي. اني احب اﻻلوان. في الحقيقة اﻻف اﻻلوان. لقد صممت هذا الفستان بنفسي”. ثم دارت لكي يتسنى له ان يعجب به باﻻكثر – الحواشي الزاهية، الحمراء والصفراء.
وقالت بحذر متجنبة عينيه “فستاني متعدد اﻻلوان وليس ازرق فقط.”
فقال بفظاظة: لكني احب هذا اللون عن باقي اﻻلوان”
وقالت بتحد: انتم العرب دائما هكذا تعشقون اللون الواحد، وتنبذون التعددية. تبدأون بالهوية وتنتهون عندها، بل ويمتص الاخر المختلف في اطار الهوية. تنم هذه العقلية عن النرجسية وانغلاق على الذات حيث لا مكان ولا مكانة للاخر.
اجاب وقد انفرج ثغره عن ابتسامة ساخرة: وانت، ماذا تسمين ما تقومين به؟ انفتاح على اﻻخر؟”
فادارت له ظهرها متصلبة من الغضب وقالت: “ﻻ شان لك بما افعله بحياتي. لقد سئمت فرض الناس ارادتهم علي”.
وضاقت عيناها باحتراس وهي تقول: “أين نحن مما حازه الغرب من اخلاق او من التقدم العلمي؟! نحن ما زلنا فى محطة الشقشقة والرطرطة حول موضوعات صارت فى متحف التاريخ، ولكن ماذا اقول! لنا الله!
احس مرقس بتدف حرارة حادا جدا حتى شعر بانه كان يحترق في داخله. وقال بلهجة حاسمة: وهل تسمين ما في الغرب اخلاق؟
وانت هل تسمي جلد فتاة سودانية ﻻنه ارتدت البنطلون شريعة الهية؟
وبدا ان الجميع مندهشون لماذا لم تشنق؟! …
ناهيك عما تسممت به ابداننا من عبارات مثل المرأة دنس وضلعاً أعوج وسبب خروجنا من الجنة، وزانية إذا تعطرت، وشيطاناً إذا أقبلت أو أدبرت، وتستحق الحرق بألف جالون بنزين اذا ارتدت البنطلون!

ثم اشاحت بنظرها من جديد. “يا ليتني ما عدت!”

تقولين هذا من وراء قلبك. فكل غريب يلتمس وطنه!
وبدات تسير مجددا على الممشى ثم توقفت وقطفت زهرة.
“اما زلت مواظبا على حضور القداس كل يوم احد؟”
اشكر الله!
اﻻ تخاف؟
ممن؟
من ان يدخل احدهم ويفجر نفسه..
قاطعها:
المفروض أن بيوت الله تحمينا وتحرسنا، وليس المطلوب منا العكس أن نحميها ونحرسها نحن.
قاطعته: “ ولكن الإرهاب الفاشى له رأى آخر، لقد زرع فينا الخوف، جعل الإنسان يدخل بيت الله ويده على عنقه، يخاف أن يذبح، أو أن يأتيه مجنون من رأيه أن الله يعبد بطريقة مختلفة، وعليه أن ينقذه من الضلال بذبحه!”
ﻻ اعرف بماذا اجيبك؟ لكن اﻻمور ليست بهذا السوء. انها حوادث فردية!”
قهقهت عاليا وقالت “ﻻ استطيع ان اتمالك نفسي”. ونظرت اليه بابتسامة ساخرة. “لعلني اعيش في كوكب اخر! هل اذكر لك احتراق كنيسة نانت ام نيس ام نوتردام ام ..
وابتسم مرقس بتهكم “اذلك هو ما تدعيه؟”
ليس هذا ادعاء ولكنه الحقيقة!
اجدك تبالغين حين تذكرين (الحقيقة) وكأنكم تملكون الحقيقة المطلقة!
وهل في كلامي ذكرت لفظة (مطلقة)؟ واضح ان الفكر العربي حذر تجاه العقل، بل ويخشاه: يخشى قدرته على الشك وقوته الناقدة للقناعات المتوارثة على مر الاجيال.
وهل كان السلف يفكر خطأ ونحن من نفكر التفكير الصائب؟
للاسف تخسرون الكثير بعدم الاعتراف بهذا النقص الفادح في ثقافتكم، بل والتوهم ان المجتمعات العربية اليفة العقل ورائدة الفلسفة والثقافة والعلوم.. ان الاعتراف بالنقص فضيلة، بل وبداية الهداية والتقدم، واما الهروب من الواقع لا يجدي نفعا.
نتفت جوليا بتلة من الزهرة وتركتها تتهادى الى اﻻرض. “هل فكرت مرة في حل مشكلة واجهتك في العمل بالدعاء فقط؟”
اكانت تتكلم عن موقف معين اختبرته، ام كان هذا سؤاﻻ ماكرا؟ وراقبها تنتف بتلة بعد اخرى حتى تلفت الزهرة.
وانتم؟ اﻻ تواجهون مشاكل في الغرب؟
تواجهنا المشاكل لكننا نتخطاها جميعا بالعقل.
العقل فقط؟ واين اﻻيمان؟ اﻻنسان قدراته محدودة، واﻻ فلماذا ﻻ يستطيع مواجهة كوارث الطبيعة و اﻻمراض التي بلا علاج..
قاطعته:
لقد توصل الغرب الى نوع من التناغم بين الايمان والعقل من خلال اجتيازه ازمات، ولا خوف من الازمات لانها، بالرغم من خطورتها، قد تفضي الى تطهير الايمان من الشوائب العالقة به.
وهل نحن نحتاج ان نتتبع مسيرة الغرب لنقلدهم
ﻻ نقلدهم بل لنستلهم من تجربتهم، علها تفيد مجتمعكم العربي، قناعة ان في كل خبرة انسانية بالتأكيد فائدة مرجوة.
ايا كان مصدرها- مؤمنة او ملحدة؟
لقد نهض الغرب من سبات القرون الوسطى في عصر النهضة، عندما تحرر من ثوابته وقوالبه الراسخة المتجمدة. اذ استعمل العقل واستخدم النقد وادخل منهج الشك المنهجي.
الشك في المسلمات والبديهيات؟!
انتم تسمونها هكذا، لكني ﻻ اؤمن بوجودها.
نسيت انك علمانية! العلمانية المتطرفة التي لا تميز بين الديني والدنيوي.
انت مخطئ. صعوبة في ان تفصل بين الدين والدنيا. فقط العلمانية قامت بالفصل بينهما. ﻻن الخلط بينهما سبب كم هائل من المأسي عبر التاريخ..
لكني اجد من الصعب الفصل بين الديني والدنيوي، فالانسان وحدة متلاحمة لا تقبل التجزئة. وعلى العلمانية ان تتبنى رؤية شاملة تتناول حقيقة الانسان بكليتها وشموليتها.
هذا لم تتجاهله العلمانية. هل تستطيع ان تذكر مثلا واحدا اخطأ في التعامل مع اي جانب من اﻻثنين؟
صمت برهة ثم قال: العلمانية تريد ان تفقدنا هويتنا العربية وارثنا الحضاري.
انظر! لقد ذكرت قضيتان هما : احترام الاخر، واحترام التاريخ. بخصوص الاخر، العلمانية تنادي باحترام اﻻخر بحيث يصبح الاخر جزءا لا يتجزأ من الانا وهي بهذا تدمج الهوية الغيرية من دون ان تتلاشى او تنصهر في الهوية. وهذه الهوية هوية مجددة لانها اغتنت بالاخر. وبما ان الاخر متعدد ، فالهوية تغتني باستمرار وتكتسب عناصر متعددة. فالهوية في نهاية الامر ليست جامدة متحجرة بل هي حية متجددة تجدد الحياة نفسه!
انت تتفلسفين!
وهل تستطيع ان تقول ان ما قلته خطأ؟
في الحقيقة، ﻻ ، لكنه صعب التحقيق.
ﻻ يوجد شئ صعب اذا امنا به ويكفينا شرف المحاولة، فمشوار الالف ميل اوله خطوة. وعصرنا هو عصر الحوارات ﻻ الصراعات.. عصر “حوار الاديان” و “الحوار المسيحي المسكوني”، “الحوار المجتمعي حول قضايا الحياة”.. ان لغة الحوار هي تحد حقيقي للمجتمعات التي اعتادت في تاريخها الدفاع عن الذات ، فاشتهرت المناظرات بمحاولة كسب الاخر واقناعه ، في حين ان اشكالية الحوار مختلفة اختلافا جوهريا عن الدفاع عن الذات. ذلك ان الحوار يتطلب الخروج من الذات لمعرفة الاخر كما يعبر هو عن نفسه، لا كما اتصوره انا.
ولكن ﻻبد للحوار من هدف – هو اقناع اﻻخر برؤيتي.
ليس بالضرورة. ممكن التلاقي في المنتصف.
الواقع ليس كذلك، لذلك تظل المشاكل. ثم اننا نسعى الى اﻻتحاد، ففي الوحدة قوة.
الحوار يحتم قبول الاخر مختلفا. وليس بالضرورة ان يكون اﻻخر متطابقا معي. ففي التعددية ثراء.
بمناسبة الثراء. هل حزت ما سعيت اليه؟
وكأن السؤال قد صدمها. صمتت لحظات خالها سامي دهرا ثم ارتمت بين ذراعيه وراحت تجهش بالبكاء.
امسك بمرفقها ثم ارتقى معا السلم ممسكا بالدرابزين الحديدي وصوﻻ الى غرفتها بالفندق.
دلفا الى الداخل وامسك كتفها بيده وقال بصرامة “اريد ان اكلمك. لماذا تحاربين مشاعرك؟ انت تحبينني”، ثم احتضن وجهها براحة يديه.
غير ان الدموع فاضت على خديها وراحت تقول:
“لقد كانت لي امال كبيرة يا مرقس. ان الحياة عديمة اﻻنصاف”.
“الحياة ما تبنينه انت”.
نظرت اليه بابتسامة باهتة. “ارى انك على الحق، فحتى اﻻن سمحت للاخرين بتسيير حياتي: ابي، امي، اخوتي واقاربي واصدقائي.. اما بعد اﻻن فسافعل ما هو ضروري ﻻعيش سعيدة”.
وهل تمردك على مجتمعك يجعلك سعيدة؟
مشكلة مجتمعنا اننا نؤله الماضي. وذلك لان لا الحاضر القاتم ولا المستقبل المجهول بمقدورهما ان يمنحا ما يمنحه التقليد المؤله من امان وضمان واستقرار، ومن عزة بالنفس وفخر بالذات امام حاضر يتسم بالهوان. غير اننا جعلنا التقليد مرادفا للتكرار والترديد، فللجمود والتحجر من جهة، وللمحاكاة العمياء للسلف من جهة اخرى، بامانة عمياء وبدون اي ابداع.
**