حوار مع ابي الكاهن

انت الساعة سابعة مساءا، والسكون يخيم على ارجاء المكان، حين بدات وابي الراهب تضرب باقدامنا في رمل الصحراء، نتمشى حينا ونقف حينا، متاملين في موضوعات اسمى من ان يكتبها قلم بشري.
قلت لابي: الهذا السبب قال المسيح في مناجاته مع الاب “وانا قد اعطيتهم المجد الذي اعطيتني”؟
بالحق يا ابني، فان الله خلق الانسان في مجد. ان سألت اي انسان الام تتطلع؟ ستجد اي اجابة من وراءها هذا الرد “اسعى للمجد”. لانه ما من انسان يسعد بان يكون حقيرا. الملوك يسعون نحو المجد، الشهرة يقف من خلفها المجد، وكذلك الغنى ومحبة المناصب والرئاسة.
اذا اليست هذه شهوات تؤدي للهلاك؟
يجب ان نميز بين نوعين من المجد. الاول هو ما ذكره نص الاية السابقة. والثاني، هو ما ذكره الانجيل عن اليهود الاشرار “انهم احبوا مجد الناس اكثر من مجد الله”.
واكملت على ابي: وخير مثال على عاقبة طلب مجد الناس هو ما حدث للملك هيرودس لم يعطي المجد لله “فضربه الملاك وانتن وصار ياكله الدود”.
قال ابي: بعض الخطاة يقول دعني اتبع شهوتي وسأتحمل العواقب. لكنهم متى اتموا شهواتهم يندمون ويتمنون لو امكنهم لو عادوا بالزمن للوراء حتى لا يتلوثوا بمتع الخطية.
هذا عن الاشرار. وماذا عن الابرار؟ هل يتمنون لو عادوا للماضي ام انهم يحترقون شوقا لبلوغ المستقبل اي مجد الدهر الاتي؟
يمكننا القول ان الدهر الاتي يلقي بظله على حياة الجميع هنا. كلا الامرين يبدآن هنا في هذه الحياة، حتى قبل الموت. يبدأ ماضي الانسان الطيب يأخذ البار نحو غفران خطاياه ولا يتذكر الاحزان، ويبدأ ماضي الشرير يتطابق بالفعل مع شروره ليملأه كآبة.
وتنهد وهو يقول: ولهذا السبب سيكون لسان حال الابرار في النعيم “اننا لم نحيا مطلقا الا في الجنة”. وسيقول الضائعون “لقد كنا دائما في الجحيم”. الملكوت والجحيم كلاهما يبدان هنا على الارض.
اليس هذا شديد القسوة؟
لا. يقول العلماء ان الانسان اسير ما يفعله وانه يميل الى مساره. وهذا ما علمنا الوحي ايضا “من هو بار فليتبرر بعد. من هو نجس فليتنجس..”
اذن الجحيم والنعيم ما هما الا حالة ذهنية.
وجدت ابي تغيرت نبرته وقال في حدة: اصمت. انك تجدف. النعيم ليس الا حالة ذهنية؟ كيف ذلك. النعيم هو الجقيقة ذاتها. وكل حقيقة هي سماوية لانها ثابتة.
وتهدج صوته وظهر عليه اسى شديد وهو يقول: اما الجحيم؟
وصمت لحظات حتى زال انفعاله الى حد ما ثم قال: بمرور الوقت تصبح المتعة ولذة الخطية التي عاشها الاشرار اقل فاقل، والشهوة تتوحش وتتوحش. ان الشرير يسعد بملامسة شهوة لا تقاوم على ان تؤخذ منه.
ثم صمت لبرهة:
ستفهم ان هناك اشكالا لا تعد ولا تحصى لهذا الاختيار. كان احدهم يجول البلاد ويؤلف الكتب عن أدلة وجود الله..
ووجدت نفسي اقول: يا للروعة كم أحب الدراسات والابحاث.
فنظر الي باستغراب:
وهل تعتقد ذلك حقا؟
لم لا؟
نظر اليّ مجددا نظرة ثاقبة متفحصة. وحيد، هؤلاء الباحثون اهتموا باثبات وجود الله دون الاهتمام بالله ذاته. وكان الرب العظيم ليس لديه ما يمكن ان يفعله سوى وجوده. لقد كان هناك البعض ممن انشغلوا بنشر المسيحية للدرجة التي لم يفكروا فيها بالمسيح ذاته.
قلت: لقد رأيت البعض فعلا. اعرف اشخاصا يقومون بتنظيم اعمال البر والتبرعات ولكنهم فقدوا حبهم للفقراء بل عاملوهم بازدراء.
مدفوعا برغبة في تغيير الحديث:
دعنا نبعد عن السلبيات للنظر الى الابرار ونتمثل بسيرهم.

عن رواية: الطلاق العظيم، س. لويس

يوميات وحيد #١٦

اقرأ العدد السابق . يوميات وحيد ١٥

امتدت يد خفية .. امسكت بي.. اوقعتني من فوق السلم! ارتطمت باﻻرض.. صدر مني صرخة الم واحدث ارتطامي صوت خبطة مسموعة.. بعد لحظات رفعت راسي ببطء .. اخذت اجاهد ﻻفتح عيني..
هرعت هايا نحوي .. سالتني:
وحيد، هل انت بخير؟
شعرت بحرج شديد..
لماذا ابدو دائما بهذا الغباء؟
لم تكن هناك يد خفية لتدفعني من فوق السلم.. انني ببساطة قد وقعت.. وهذا يحدث لي دائما كلما صعدت فوق سلم..
بعض الناس يتسلقون صعودا وانا اتسلق وقوعا!
والحقيقة انني لم اكن ارغب في ان ابدو مثيرا للسخرية امام صديقتي هايا وخاصة انني تعرفت عليها منذ فترة بسيطة.. وكنت اريد ان اترك لديها فكرة طيبة عني، ان ابدو امامها انيقا وذكيا .. وهذا هو السبب الذي دفعني للاشتراك في لجنة (المسرح).

قالت هايا: هيا نبدا العمل..

ومضت لحظات قبل ان تقول، اريد فرشاة وطلاء لرسم الخلفية..
واستطردت وهي تنظر اليّ:
وحيد، من فضلك احضر الفرشاة والطلاة من حجرة “وسائل اﻻيضاح” في الطابق الرابع..
وهرولت ﻻحضر اﻻغراض المطلوبة.. لا اعلم لماذا فعلت؟ هل ﻻنال اعجابها؟! واندفعت خارجا من الباب.. واصطدمت بكل قوتي بفتاة كانت تقف في البهو…
“هيه!” صاحت الفتاة.. وقد سقطنا سويا على اﻻرض.
ومضت لحظات قبل ان اقف واقول: انني اسف!
ومددت يدي ﻻساعدها على الوقوف، ولكنها اطاحت بيدي بعيدا.. ووقفت دون مساعدة مني!
عندما وقفت اكتشفت انها اطول مني قدما على اﻻقل. طويلة عريضة المنكبين. نظرت الي بوحشية بعينين جامدتين.
نظراتها كانت مخيفة!
تقدمت نحوي بخطوات ثقيلة .. جعلتني اتجمد بجوار الحائط.
قلت متلعثما: ما.. ماذا ستفعلين؟
الصقت ظهري بقوة في الحائط! وكررت سؤالي.
زمجرت بحنق وقالت: ذاهبة الي بيتي..
واشاحت بيدها: اذا سمحت لي طبعا؟
انتظرت حتى اختفت تماما من المبنى.. واكملت صعودي.. حتى الغرفة المقصودة. كانت اللافتة تقول “حجرة وسائل الايضاح”. ادرت مقبض الباب.
ثم توقفت.. سمعت اصواتا داخل الغرفة.
دهشت.. وامسكت بالمقبض واستمعت! سمعت صوت فتى وفتاة يتحدثان في هدوء. كان صوتهما يشبه صوت هايا ومينا!
وتساءلت مندهشا: لماذا تبعاني؟ وكيف تمكنا من الوصول قبلي؟ وماذا يفعلان هنا؟
فتحت الباب وخطوت الى الداخل: صحت: ايها اﻻصدقاء.. هل انتم هنا؟
لم يكن مجيب. ربما كان سقوطي اثر في راسي باكثر مما تصورت. وراحت الخياﻻت تعصف برأسي. في الحقيقة، مضي وقت طويل قبل ان ادرك ان ما نقراه في قصص اﻻطفال الخرافية مجرد خيال وليس حقيقة. ﻻ شئ يسعفني لاعرف الحقيقة من الخيال سوى عقلي. هكذا همست لنفسي.
مضت دقيقة قبل ان انتبه الى صوت احدهم يربت على كتفي: تعال !

التفت لاري شبحا عجيبا. تابع كلامه: تعال فاريك اختراع القرن الواحد وعشرون.
تناول زجاجة من رف صغير: نقطة واحدة منها تجعل انتاج اي نبات يتضاعف مرات ومرات. هذا هو حل مشكلة الجوع في العالم!
قلت بتلقائية: ليس الجوع في العالم الى الخبز بل الى الحب.

قهقه وقال: اما انك تتكلم بسذاجة او بفلسفة. من قال ذلك؟

قلت : هكذا قالت اﻻم تريزا بعد رحلة حياة عطاء في افقر بلاد العالم. وجدت فيها ان العالم لا تنقصه الثروات والموارد بل الحب.
قال مقهقها: تبدو رومانتيكيا وانت تكرر وراءها هذه الكلمات عن الحب. اين الله من اﻻﻻم التي يعانيها البشر، حروب وامراض ومجاعات..؟
قلت مقاطعا: الامر ليس مجرد اله غاضب بل اله قاض عادل قد اعلن مسبقا عن حيثيات الحكم الذي يصدره بحق الخطاة. ولقد ترك العالم الروح واصبحت المادية سمته الفجة.

رد: ولماذا لا يطلق للبشر الحرية، لماذا اعد جحيما كما تدعون لمن يذنبون؟
اجبته: الامر ليس انه اله دكتاتوري يهوى التحكم في حريات البشر، بل هو -تبارك اسمه- اله صالح لا يمكن ان يرى جزء من خليقته يسئ استخدام حريته ويفسد الارض دون وازع .. فالحرية الصحيحة هي الحرية المحكومة بحدود والا تحولت الى فوضى عارمة.
سال: ولماذا لا يقتص من الاشرار في الحال ، ان كان عادلا كما قلت ؟ لماذا يترك القاتل يقتل والمغتصب والظالم و..

قلت: مهلا يا صاح، الله ليس الها متسرعا في اجراء دينونته، بل قد تمهل على الخطاة سنوات هذا عددها. فالدينونة كانت وستظل فعله “الغريب عن طبيعته” كما يقول النبي اش28: 21. فافكار الله صالحة وبالخير نحو البشر دائما. وعلى ذلك فانه يمكنك أن ترى الاشرار ينعمون بينما الابرار يعانون! لكن في النهاية ينال الكل جزاءه الذي يستحقه. يجب ان تؤمن بان الله موجود وانه يجازي.. (عب١١).

وماذا عن الملحدين؟

اجبت: الإلحاد إما أن يرفض الله لسبب شهواني. أو لسبب اقتصادي. فالذين يرفضونه لسببه شهواني. يرون أن الله يقف ضد شهواتهم بوصاياه التي تمنعهم عن التمتع بخطايا معينة.
أما الإلحاد الرافض لسبب اقتصادي: فهو يدعي أن الله يسكن في برج عاجي. ولا يهتم بشئون الأرض.

ولكن لا تنس ان للالحاد الشيوعي وجهة نظر منطقية وعملية وعلمية. هكذا اراها اقرأ لماركس وسارتر ثم رد علي ان شئت.

بالفعل قرأت لهما. الفكرة ببساطة انه قد تبدأ مجموعة معينة من البشر بقدر واحد من المال لكل فرد منها. ولكن البعض قد يستثمر في ذكاء واجتهاد وأمانة في العمل. فيزداد المال الذي معه ويتضاعف. بينما البعض الآخر يخسر ما معه. أو ينفقه في الفساد. وينتهي الأمر بأن الذين بدأوا معاً بمساواة في المال، اي الاشتراكية كما قال ماركس تنتهي الي اسوأ حال. في المثال الذي ضربته لك بدأوا بقدر متساو من المال وانتهوا علي عكس ذلك تماماً…

ولكن اين الله؟ لم ﻻ يظهر علنا للبشر فيؤمنون؟
من الميسور ان نجد الله من تلقاء ذواتنا لاول وهلة. كما قال موسى النبي: “والكلمة (اي كلمة الايمان) في قلبك. ليست بعيدة منك”(تث30: 4).
اﻻيمان؟ اﻻيمان كلمة تخدرون بها عواطفكم المشبوبة بحب الخلود.
قلت محتجا: اﻻيمان ليس وهما. ان له وجود في الماضي وبالتالي في المستقبل. في كل مرة كان الله يعرف نفسه انه “اله ابراهيم واسحق ويعقوب”. ويذكرهم بتاريخ تعاملاته معهم. لا تحكم عل الله من خلال امر سئ حدث معك، او مع احد احبائك. فتساؤلاتنا عن العناية الالهية نجد إجابتها في شخص الرب، وليس في الاحداث اليومية.

اتكأت على البنش فندت مني صرخة حادة.
“ماذا الم بك؟” قال الشبح.
رايت لطخة حمراء على يدي .. قلت متأوها:
جرح اصبعي بسلاية. يبدو انني مضطر الى المغادرة.
ذهبت راكضا الى صندوق الاسعافات الاوليه المعلق في اول الممر وجلبت اليود وصبغت الجرح…

الحب المحرر -٥

كانت السماء صافية جدا. نجوم في كل مكان وقمر كبير جدا بحيث بدا كعين فضية مفردة تحدق الى اﻻسفل. وقف مايكل امام انجل ومسها برفق وقال “انا احبك.. احبك..”.
بفتور اجابت: “هل تدري كم مرة سمعت هذه الكلمة من قبل؟”.
“لكن يا مارة..”.
قاطعته “ليس اسمي مارة. انه انجل”.
“لا ليس هو ذلك. ثم انني سانايك باي اسم اراه. مارة، تعني من مررتها الحياة..”.
“اسمع يا مايكل، لو علمت نصف ما فعلت، لصرفتني الى براديس باقصى سرعة”.
“هيا تكلمي. جربيني. احكي وانظري ان كان يحدث فرقا”.
صعقت بهذه الفكرة. الذكريات المروعة. استطاع مايكل ان يرى شحوب وجهها في ضوء القمر. لم يدري بم كانت تفكر اﻻ ان علم ان ماضيها يعذبها.
“يا ليتني استطيع فتح ذهنك والغوص معك في اعماقه لكنا قد دحرنا الظلمة معا”.
وانكمش على نفسه “يا الهي كيف انقذها؟”.
باتت انجل على يقين بانها لو وضعت يدها على قلبها لعادت مضرجتين بالدماء. نظرت مدهوشة. بدا لها انها في برية مع هذا الرجل. وهى متلهفة الى معلم يرشدها الطريق. كانت في صراع. هل تخبره .. هل تقول الحقيقة والحقيقة سوف تحررها من ماضيها اﻻسود ومن ضميرها المثقل. وارادت ان تبكي، لكنها وجدت ان الدموع جفت من ماقيها. لقد حيرها هوشع و اربكها ..
“اما زلت تريدين ان تموتي؟”.
“ﻻ. ولكني ﻻ اعرف لماذا اريد العيش؟”. وادارت راسها نحوه وقالت:
“ربما كان لك دخل في اﻻمر. لست اعرف!”.
امسك بيدها فتشنج عضلها لكنه لم يفلتها. بدلا من ذلك مرر اصابعه برفق على راحتها حتى غطت يده يدها وقال “نحن في هذا معا”.
“ﻻ افهم”.
“امهليني”. ادار مايكل خاتم الذهب في اصبعها. لقد كانت زوجته. ان كانت ﻻ تعرف الفرق بين ممارسة الجنس واقامة علاقة الحب فسيكون عليه ان يبين لها ذلك. راقبته يتأمل الخاتم في اصبعها.
“اتريد ان تسترده؟”.
“كﻻ! اﻻمر انني.. ”. وشبك اصابعه في اصابعها.
“مايكل، ان ما اعرفه عن الزواج ليس مشجعا”.
“قد يكون”. وقبل يدها “انما اؤمن بان الزواج عهد”.
وجاءها صوت في داخلها “فكري في مالك الذي تودين استرداده. فكري في براديس. ﻻ تفكري في هذا الرجل. لقد تعودت ان تغلقي ذهنك .. ﻻ تفكري. ﻻ تشعري. ادي دورك فحسب. فهو لن يلاحظ ابدا.
غير ان مايكل لم يكن كباقي الرجال. وقد ﻻحظ ذلك فعلا. لقد اوصلته الى عتبات النعيم وصفقت اﻻبواب بوجهه.
“لماذا تصديني. اريد ان اقترب منك”.
فضحكت “ما مقدار القرب الذي تريده؟”.
فكر، لماذا كان عليه ان يتطفل ويتدخل في افكارها فما برح يشوش مشاعرها.
“اريد ان احبك. ان اصير جزءا منك وانت مني”.
“بهذه الطريقة”.
“بكل طريقة”.
“ﻻ”.
“بل نعم. انه ﻻ يعني ما قد تعلمتيه. هو بركة”.
فكرت، كيف يعقل ان يعتقد ذلك. ﻻ ارى سوى انه قذرا وتافها! عند ذلك تعاظم الصوت القاتم داخلها: اهربي منه. انقذي نفسك، واهربي!

الحب المحرر -٤

تردد في عقل انجل كلمات قد سمعتها قبلا مرارا “دعيهم يتذوقوا قبلة فيطلبوا الوجبة كاملة”.
قالت بهدوء ممض:
“انظر يا مايكل ﻻ يمكنني ان اقرا افكارك. عليك ان تقول لي ما تريد”.
حاولت ان تبقي مسافة بينها وبينه، اﻻ ان هوشع كان يملأ السرير مثلما كان يملأ الكوخ.. بل مثلما كان قد بدا يملأ حياتها.
واخيرا استسلمت للنوم.
“ انجل!” جاءها الصوت من بعيد، “هل ظننت انك ستهربين مني؟”. فيما مال عليها وضحك ضحكا خفيضا وهو يقول “ظننت ان اربعة اﻻف ميل ستفصلك عني؟”. قاومته اﻻ انه لم يكن مادة بل ظلا، شبحا يخيم عليها ويشدها الى حفرة سوداء عميقة، واحست جسمها يمتصه وهي تهوى الى القعر. اخذ يتغلغل في جميع مسامها حتى بات السواد داخل كيانها. وشرعت تنهش لحمها بيدها “ﻻ .. ﻻ”.
“مارة مارة!”.
استيقظت فجاة، وقد فغر فمها بصرخة صامتة. فقال هوشع بلطف “كان كابوسا”. واردف وهو يمسد كتفها برفق “عم هو؟”.
قالت كاذبة:
“ﻻ ا تذكر.”.
وضع يده على صدرها فانقبض عضلها. فقال مازحا “اذا ازداد خفقان قلبك فسيخرج خارج صدرك”. واردف بنبرة جادة
“قومي سنخرج في نزهة قصيرة!”.
خرجا سويا، كان البرد قارسا والظلام دامسا.. ونظرت انجل النجوم واذا هي جواهر منثورة على مخمل اسود..
انسكب نور الصباح على كل جبل وواد .. واحست شفتيه على شعرها “هذا هو ما انا مقدمه لك. اريد ان املا حياتك دفئا ولونا. اريد ان املاها نورا”.
احست ثقلا يتعاظم في داخلها. كانت لديه كلمات حلوة، لكن الكلمات ليست الحياة. فما كانت الحياة بتلك البساطة..بل كانت مشتبكة ملتوية متعوجة منذ الوﻻدة. لم يتات لها ان تمحو السنين العشر اﻻخيرة من حياتها، وﻻ حتى الثماني السابقة لها..
لقد كانت مذنبة بكونها قد ولدت.
لقد اراد اباها ان تسلخ من رحم امها.. وكان من شان امها ان تفعل لو علمت انها ستفقد اباها جراء تحديها له. ذلك ما قالته ﻻنجل كل تلك السنين الحافلة ببكاء غير منقطع.
ﻻ ﻻ مئة فجر كهذا وﻻ حتى الف يمكن ان تغير ما سبق. فقد كانت الحقيقة تماما كما قال لها دوك في الحلم “ﻻ تستطعين اﻻفﻻت مني”.
ارتسمت على وجهها ابتسامة كئيبة وابتاست في نفسها وتالمت. ربما كان مايكل على ما بدا عليه. لكن اﻻمر لن يتم بلاطريقة التي يريدها. لا يمك ان يتم وكفى. لقد كان حلاما. وسيبزغ عليه الفجر ايضا فيستيقظ.

كانت كل ليلة محنة.. لكن بقى الجواب هو اياه يتردد صداه في قلبه: انتظر!
فان الحب ﻻنجل كان كلمة كريهة من حرفين.
صبرا يا محبوب!
رباه كيف تطلب مني ان اعلمها الحب؟
وسمع صوتا اخر قويا وقديما قدم الزمان.
متى ستتصرف تصرف اﻻقوياء..؟
لقد راق ﻻنجل اﻻقامة في الكوخ. شعرت بالراحة واﻻمان ما عدا هايكل. فهي لم تحب المشاعر التي بدا يثيرها فيها.. بدات تصغي الى القصص التي يقصها كل مساء اﻻ انها لم تصدق اي واحدة منها.
كلما اسرعت باﻻفلات كان افضل.
حسبت ان لديها عملا غير منجز غي براديس. ثم كان عليها ان تحوز بذهبها كوخ كهذا.
وذات مساء سالته على العشاء: هل تظن ان الخضر التي نزرعها كفي لشراء كيس من الذهب في براديس؟
ربما اكثر..
وفكرت. عليها ان ترجع الى براديس .. سياتي اليوم الذ يمكنها فيه ان تنزع خاتم امه وتنسى امره تماما.
كانت تكنس وتكوي الثياب.. وشرد ذهنها. لماذا هذا الثقل في صدري؟
وجاءها صوت داخلي: لن يزول حتى تعودي الى براديس وتاخذي حقك من تلك العجوز المشاكسة.
وفكرت: لن تنجو تلك العجوز بفعلتها.
ذلك اﻻحساس غمرها يوم غادر مايكل في عربته:
انجل، لن تتحرري ان لم ترجعي. ستحصلين على مالك. ستتحررين.
عا مايكل في المساء .. كانت تقوم بكي الملابس فيما عضعضت شفتيها وهي تشتغل.
التفتت وقالت: متى ستعود الى براديس؟
لن اعود.
على اﻻقل حتى تحوز الثمن الذي دفعته في. لقد غششت من قبل العجوز الشمطاء.
لماذا تفعل بي يا رب هذا؟ لماذا اعطيتني تلك المراة العنيدة انها تثير جنوني وتفقدني صوابي؟
ثم ﻻح له فكرة يمكنه ابقاءها من خلالها اسبوعين علها تعود الى رشدها.
اريدك جمع الجوز المتساقط من تلك الشجرة هناك.
عادت بعد ساعتين ونظرت الى يديها:
اريد ان اعرف كيف تزيل هذا؟
انه الصبغة من قشر الجوز؟
اتعني ستبى؟
نحو اسبوعين.
تكورت يداها المصبوغتين في صورة قبضتين. وﻻحت لمايكل الحرارة صاعدة الى وجهها..
عقد الغضب امامها غمامة حمراء. ثم التفتت وخرجت شاتمة اياه همسا بلقب بذئ.
تبعها وادارها نحوه قائلا: “ﻻ تتمتمي بهذا همسا، هيا قليه لي بوجهي”
افلتت منه وزعقت بشتائم وما اكثر ما كانت تعرفه منها. “هيا اضربني. لعل ذلك يجعل منك رجلا”
وقد تخوف من مشاعره الثائرة من دمه الحار الجائش. راح قلبه يخبط كمحرك قطار. ثم زفر “ستكون حربا مفتوحة منذ اﻻن. هذا افضل من ﻻ مباﻻتها”.
طوت انجل يديها “عندي شئ اقوله. لن ابقى هنا معك الى اﻻبد”
فابتسم وهو يلتفت اليها بتلك النظرة الغامضة الفاترة والتي اعتادتها منه مؤخرا.
“انني ﻻ انتمى الى هذا المكان”.
“فيم تظنين تنتمين؟”
“ذلك خياري. تلك حرية شخصية”.
“انك ﻻ تعلمين بوجود خيار بعد. كما لم تعرفى معنى الحرية. انت تحسبين ثمة طريقا واحدا تسلكين . وانا اقول لك انه ينحدر مباشرة الى الجحيم”.

الحب المحرر -٣

+*+
توقعت انجل ان تشعر باﻻرتياح لغياب مايكل، غير ان ذلك لم يحصل. بل عم فراغ داخلي جعلها تشعر بانها تنجرف في فضاء خاو.
وقف مايكل يراقبها. لم تشعر بوجوده. رجعت بعد حين الى الكوخ متثاقلة. ما لو كان غير مرئي. لقد كانت مكتنفة بشقائها وافكارها السوداء اعمتها عن رؤية كل شئ اخر.. وﻻ سيما هو.
حين عادت وجدته يشعل نارا. اقتربت منه وقالت بشغف:
“علمني”
ماذا؟”
“اريد ان اتعلم كيف اقدح نارا”.
بعد عدة محاوﻻت منها اخفقت. وضعت قبضتيها على عينيها شاتمة جهرا.
مسّ مايكل شعرها بيده فاحس اجفالها. لقد سئمت هدوءه كما كرهت كفاءته. وارادت تدمير كليهما، وليس بيدها اﻻ سلاح واحد تحسن استخدامه.
قالت وهي تقعد: “اعتقد انن في كتفي وجع. هلا تمسجهما لي؟”
فعل مايكل ما طلبت فبدد تشنج عضلها، فيما ضاعف تشنج عضله. وقالت بلهجة مثيرة:
“ما احسن ذلك اﻻحساس”.
راح يفكر باكتئاب “هكذ اذا. تصورت! انها لم تستطع اشعال النار في الموقد، فلذلك ابتغت ان تضرم اخرى في داخلي”. فانكفأ متراجعا.
عندما ادار وجهه، كانت انجل مستعدة، فهي تعرف كيف تقوم بدورها، وتعلم كل الكلمات. كلمات رقيقة فاترة.. كلمات محسوبة لتمزق قلبه.. لتشعره ان رفضه اذاها. لتبعث فيه الشعور بالذنب مع دمه الحران.
راقبته يغادر.
مضى اكثر من ساعة ومايكل لم يرجع.
لما انفتح الباب وراءها اخيرا. كان شعره اﻻسود مبللا. فافترضت انه استحم في الجدول البارد جدا. واحست وخزة شعور بالذنب وشك. وبينما جال في انحاء الكوخ متململا، ظلت تسرح شعرها باصابعها منتبهة الى كل حركة من حركاته.
“اعتقد انني تذوقت ما كانت عليه حياتك”.
رمقته بنظرة مفاجئة: “ماذا تعني؟”
كان هوشع نبي طلب اليه الله ان يتزوج بمومس”.
“هل طلب الله منك ان تتزوج بي؟”
“نعم قال لي”.
ازداد هزؤها “ايكلمك شخصيا؟”
انه يكلم كل انسان شخصيا. انما معظم الناس ﻻ يكلفون انفسهم اﻻصغاء اليه”.
اسفة لمقاطعتك. كنت تحكي لي قصة نبي. ماذا جرى تاليا؟ هل تزوج النبي بالمومس؟
نعم”.
وتابع:
“اتصور انه كان لديه سبب وجيه”.
فكرت انجل، لعله السبب الذي دفعه هو بالزواج بها. فسالت:
“ولكن هل تمكن هوشع هذا من استئصال الخطية من زوجته؟ اعتقد انها انحنت على قدميه وقبلتهما ﻻنه انقذ روحها”.
“ﻻ. بل رجعت الى البعاء”
وكان ينبغي له ان يصغي الى الرب ويرجع اليها. كان ينبغي ان يسحبها خارجا من هناك مهما رفست وزعقت.
“اذا ﻻزمت النبي بعد ذلك؟”
ﻻ بل غادرته حتى” انه ولدت اوﻻدا من سواه”.
احست انجل ثقلا على صدرها وتهكمت “واخيرا رجمها بالحجارة وارسلها الى حيث تنتمي؟”
لم يجبها.
“ما مقصدك؟”
“انجل، سيكون عليك ذات يوم ان تتخذي قرارك”.