
لم يبق من الشمس الا الشفق، مر النهار ولم يتبادل الاخوان طواله الا ما تقتضيه ضرورات العمل: هابيل في رعي الاغنام وقايين في فلاحة الارض. وغاب قايين شطرا كبيرا من النهار، فظن هابيل انه رجع للبيت غاضبا بعد ما احتدم بينهما النقاش. ولبث وحده في ظل الصخرة على مقربة من الاغنام التي يرعاها. وفجأة، عاد اخاه فسأله:
– خبرني اين كنت؟
فقال بوجه مكفهر:
– هذا شئ يخصني وحدي.
– ظننتك عدت للبيت!
احتدم الغيظ في قلب قايين، ولاحت علاماته في وجهه كطلائع الظلام فوق الجبل، وقال:
– بقيت لاتحمل نصيبي من العناء الذي خلفه لنا ابوانا. ثم ضحك ضحكة كاسرة وهو يقول: انك تظهر المودة لتغطي حسدك لي.
فهز هابيل رأسه كالمتعجب وقال:
– انك تستحق الرثاء لا الحسد.
واقترب قايين منه واطرافه ترتعش من الحنق وقال بصوت مخنوق من الغضب:
– ما ابغضك حين تتظاهر بالحكمة.
فحدّجه هابيل بنظرة دوان ان ينبس بكلمة، فعاد الاخر يقول:
– يجب ان تخجل الحياة لانتساب امثالك اليها.
فلم يغض هابيل من بصره تحت النظرات المتقدة التي تنصب عليه وقال بثبات:
اعلم انني لا اخافك.
– تقول هذا لأن الله فضلك عني ظلما؟
– ان الغضب يجعلك تتشبه بالوحوش.
ففاجأه قايين بلطمة على وجهه. لم تدهمه اللطمة فدفعه وهو يقول:
– لا تتماد في جنونك.
وانحنى قايين بسرعة فالتقط حجرا وقذف به اخاه بكل ما اوتى من قوة. وبادر هابيل ليتفادى الحجر ولكنه اصاب جبينه، وصدرت عنه اهة وجمد في موقعه واذا بفراغ قاتم يحل فيه فبدت العينان وكأنهما تنظران الى الداخل. وترنح ثم انكفأ على وجهه. كان الغضب يشتعل في عيني قايين حين قذفه بالحجر، واذا بالغضب اختفي منه فجأة كأنه شعلة ردمت بتراب كثيف. وتبدل قايين حالا بحال فزال منه الغضب، وتركه حديدا باردا بعد انصهار، وركبه الخوف. ترقب بلهفة ان ينهض او ان يتحرك ولكنه بقى ساكنا. وانحنى فوقه، ومد اليه يده يهزه في رفق ولكنه لم يستجب. وسواه على ظهره ليخلص انفه وفاه من التراب فاستلقى الاخر محملق العينين ولا حراك به. وركع قايين الى جانبه ، وراح يهزه، ويدلك صدره ويديه، وينظر بفزع الى الدم المتدفق بغزارة من جرحه. وناداه برجاء فلم يجب. وبدا صمته كثيفا عميقا كأنه جزءا لا يتجزء من كيانه. كجموده الذي بدا غريبا عن الحى والجماد معا. لا احساس ولا انفعال. كأنما القى الى الارض من مكان مجهول فلم يمت اليها بصلة. عرف قايين الموت بفطرته فراح يشد شعر رأسه في يأس. ونظر فيما حوله خائفا، ولكن لم يكن هناك من حي الا الاغنام والحشرات. وجميعا انصرفت عنه دون اكتراث. سينتشر الليل ويستحكم الظلام. وقام بعزم، فجاء بعصاه، واتجه الى موضع بين الصخرة الكبيرة وبين الجبل، وراح يحفر الارض ويرفع التراب بيديه، ويواصل العمل بعناد، وهو يتصبب عرقا وترتجف منه الاوصال. وهرع نحو اخيه. هزه وناداه للمرة الاخيرة دون ان يتوقع جوابا. وقبض على اسفل ساقيه وجره حتى اودعه الحفرة. والقى نظرة وهو يتنهد، وتردد مليا، ثم اهال عليه التراب. ووقف يجفف عرق وجهه بظهر يديه. وكلما رأى بقعة دم في الارض غطاها بالتراب. وارتمى على الارض من شدة الاعياء. وشعر بقوته تتخلى عنه، وبرغبة في البكاء، ولكن الدموع استعصت عليه. وقال: “غلبني الموت”. ولو انه انقلب تيسا لغاب في الاغنام. او ذرة من رمال لاختفى في الارض. ما دمت لا استطيع ان ارد الحياة فلا يجوز ان ادّعي القوة ابدا. وهيهات ان تمحى تلك النظرة من رأسي ابدا. ان الذي دفنته لم يكن الا اخي.
عاد قايين الى الدار يسوق الاغنام، وجاءه صوت امه من الداخل وهي تتساءل:
– لماذا تأخرتما عن موعدكما؟
فدفع الاغنام الى الممشى المفضي الى حظيرتها وهو يقول:
– غلبني النوم، ألم يرجع للبيت؟
رفعت حواء صوتها ليعلو درجات:
– كلا، ألم يكن معك؟
فازدرد ريقا جافا:
– غادرني منذ الظهر دون ان يخبرني اين هو ذاهب. فظننته رجع.
فتساءل ادم :
– هل تشاجرتما؟
– ابدا.
– اظنك كنت السبب في ذهابه، ولكن اين هو؟
خرجت حواء الى فناء الدار، على حين اغلق قايين باب الحظيرة وراح يغسل وجهه ويديه. لابد من مواجهة الموقف. وانضم الى والديه في الظلام وهو يجفف وجهه. وتساءلت حواء:
– اين ذهب هابيل؟ لم يغب كهذه المرة من قبل.
فوافقها ادم قائلا:
– بلى، ثم التفت الى قايين:
– قل لنا كيف ولماذا ذهب؟
وارتعد قلب قايين لصورة خطرت برأسه، لكنه قال:
– كنت جالسا في ظل الصخرة فلاحت مني التفاتة فرأيته يبتعد صوب البيت، وهممت ان اناديه ولكني لم افعل.
فقالت حواء بحسرة:
– ليتك ناديته ولم تستسلم لزعلك.
ونظر ادم حائرا في الظلام حوله، فرأى من خلال الضو الخافت للنجوم المتلالئة في السماء وجه قايين الشارد فسأل:
– ما بالك تبدو كالمريض؟
فقال قايين بحدة:
– حملت عبء رعي الاغنام وحدي.
فهتف ادم في ضيق المستغيث:
– الحق اقول ان قلبي غير مطمئن.
فقالت حواء بصوت مبحوح:
– سأذهب للبحث عنه.
فهز ادم منكبيه في يأس وقال:
– الظلام يغشي الكون. انتظري الى الصباح، سنبحث عنه انا واخيه.
فنفخت حواء بضيق وقالت:
– ربي، لم يضطرب قلبي هكذا من قبل، افعل شيئا يا ادم!
قتنهد ادم بصوت مسموع في الظلام وقال:
– فلنفتش عنه في كل ناحية.
فقال قايين:
– لعله في الطريق الينا.
فهتفت حواء:
– لا ينبغي ان ننتظر.
ثم مستدركة في جزع وهي تنظر الى السماء:
– ايكون شر قد اصابه؟
واخذت تحرك رأسها باضطراب ينذر بالانفجار، فساقها ادم الى حجرتهما الداخلية حيث صاح بقوة:
– لا تغادري الحجرة، سأعود به، ولكن اياك ان تغادري الحجرة.
وعاد الى الفناء فوجد قايين جالسا على الارض فانحنى فوقه هامسا:
– خبرني ماذا تعرف عن اخيك؟
فرفع رأسه نحوه بشدة ولكن شيئا منعه من الكلام فعاد يسأله:
– خبرني يا قايين ماذا فعلت باخيك؟
فقال بصوت لا يكاد يسمع:
– لا شئ.
تلمس ادم طريقه نحو الداخل ثم رجع بمصباح فاشعله ووضعه على الطاولة فسقط نوره على وجه قايين فتفحصه برهبة وقال:
– وجهك ينذر بالشقاء.
وجاء صوت حواء من الداخل ليقول كلاما لم يميزه احد فصاح ادم:
– انك تقتلين نفسك حزنا ونحن لا نعرف بعد ماذا جرى له .
وعاد الى تفحص ابنه. وبغتة ارتعدت اطرافه. وامسك بكتفه وقال في فزع:
– دم، ما هذا؟ دم اخيك؟!
فحملق قايين ثم انكمش بحركة لا ارادية، وحنى رأسه في يأس. اعترف قايين بحركته اليائسة فجذبه ادم حتى اقامه، ثم دفعه الى خارج البيت. دفعه بقسوة لم يعهدها من قبل، وغشى عينيه ظلام يفوق الظلام المحيط.
دفعه نحو الخلاء قائلا:
– سنذهب الى الحقل واوغلا في الظلام، وقايين يسير كالمترنح تحت قبضة ابيه الناشبة في منكبه. وتساءل ادم وهو يجد في السير بصوت اطلقته الهواجس داخل نفسه:
– خبرني هل ضربته؟ بأي شئ ضربته؟ وعلى اي حال تركته؟
لم يجب قايين. كانت قبضة ابيه شديدة ولكنه لم يكن يشعر بها.
وكان المه شديدا ولكنه لم يفصح عنه. وود لو ان الشمس لا تطلع ابدا.
– ارحمني وتكلم ، ولكنك لا تعرف الرحمة، وقد حكمت على نفسي بالعذاب يوم انجبتك، انا الذي تطاردني اللعنات منذ عشرين عاما، وها انا اطلب الرحمة ممن لا يعرفها.
فانفجر قايين باكيا حتى ارتجف منكبه في قبضة ابيه القاسية، وظل يرتجف حتى سرت عدواه الى ابيه، لكنه قال:
– اهذا جوابك؟ لماذا ؟ كيف هان عليك اخيك؟ اعترف في الظلام قبل ان ترى نفسك في ضوء النهار.
فهتف قايين:
لا طلع النهار!
– نحن اسرة ظلام، لن يطلع علينا نهار! وكنت احسب الشر قد فارقنا، فاذا به في دمنا نحن، اسرة واحدة ونقتل بعضنا البعض، يا الهي فلتدركنا رحمتك.. هل قتلت اخاك؟
– ابدا.
– فأين هو؟
فقال قايين كاذبا:
– ما قصدت قتله!
فصاح ادم:
– لكنه قتل.
واجهش قايين بالبكاء واشتد قبضة الاب . اذن قتل هابيل، زهرة العمل وحبيب الابوين، كأنه لم يكن ، لولا الالم المفترس ما صدقت.
وبلغا الصخرة الكبيرة فسأله ادم بصوت غليظ:
– اين تركته يا مجرم؟
فقال قايين بصوت لا يكاد يسمع:
– هنا دفنته.
فصرخ ادم:
– دفنته؟!
وتناول من الارض صخرتين وقدحما فانطلقت شرارة اشعل بها بعض عيدان القش اليابسة وتفحص الموضع على ضوء السنة النار المنبعثة . ظل يتفحص حتى رأى قطعة من الارض قلقة المستوى كما رأى اثر سحب الجسد الذي انتهى عندها . تأوه ادم من الالم . وراح يزيح التراب بيدين مرتعشتين. وواصل عمله في جو رهيب حتى مست اصابع رأس ابنه المقتول. وغرز يديه الى ما تحت ابطيه وسحب الجسد في رفق. وجثا على ركبتيه الى جانبها واضعا يديه على رأسه، مغمض العينين، مثالا للتعاسة والخيبة. وزفر من اعماقه، ثم غمغم:
– ان حياة اربعين عاما من العمر تبدو سخفا سقيما امام جثتك يا بني.
وقام بغتة ونظر نحو قايين وهو يقف امام الجثمان من الناحية الاخرى، فعانى لحظات كراهية عمياء، وقال بصوت غليظ:
– سيعود هابيل الى الكوخ محمولا على عنقك.
فجفل قايين متراجعا، ولكن ادم سارع اليه دائرا حول الجثة ثم قبض على منكبه وهتف:
– احمل اخاك.
فقال قايين بصوت كالانين:
– لا استطيع .
– انك استطعت قتله.
– لا استطيع يا ابي.
– لا تقل “ابي”، قاتل اخيه لا اب له، لا ام له، لا اخ له.
– لا استطيع.
فشد قبضته عليه وقال:
– على القاتل ان يحمل ضحيته.
حاول قايين ان يفلت من قبضة ابيه ولكن ادم لم يمكنّه ، وانهال في عصبية على وجهه باللكمات فلم يتفاد من لكمة او يتأوه من ألم. ثم كف بعد عدة لكمات و قال:
– لا تضيع الوقت، امك تنتظر.
وارتعد قايين لدى ذكر امه، فقال برجاء:
– دعني اختفي.
فجذبه نحو الجثة وهو يقول:
– هلم نحمله معا.
تحول ادم الى الجثة ووضع يديه تحت ابطي هابيل، وانحنى قايين واضعا يديه تحت الساقين. رفعا الجثة معا، وسارا في بطء . اوغل الاب في مشاعره الاليمة حتى فقداي شعور بالالم او بسواه. ولبث قايين يعاني ألما من خفقان قلبه وارتجاف اطرافه. وامتلأ انفه برائحة ترابية نفاذة على حين سرى مس الجثة من يديه الى اعماقه.
وكان الظلام غليظا بينما نضح الافق بانوار باهتة من نجوم ترصع صفحة السماء. وشعر قايين باليأس يكتم اخر انفاسه فتوقف قائلا لابيه:
– سأحمل الجثة وحدي.
ووضع ذراعا تحت الظهر واخرى تحت الفخذين، وسار يتبعه ادم.
وعندما اقتربا من الكوخ جاءهما صوت حواء في الظلام متسائلا في جزع:
– هل وجدتماه؟
فصاح ادم بصوت آمر:
– اسبقيني الى الداخل.
وسبق قايين الى الكوخ ليتأكد من اختفائها. ووقف قايين عند مدخل الكوخ لا يريد ان يتحرك. واشار له ابوه بالدخول فامتنع قائلا في صوت هامس:
– لا استطيع ان القاها.
فهمس الاب حانقا:
– استطعت ما هو افظع.
فتشبث قايين بموقفه وهو يقول:
– كلا، هذا افظع.
ودفعه ادم امامه بحزم فاضطر الى التحرك حتى بلغ الحجرة الخارجية. وانقض على حواء بسرعة فكتم براحته الصرخة التي اوشكت على الافلات من فيها، وقال بقسوة:
– لا تصرخي، فلنتحمل الالم صابرين، الشر من بطنك ومن صلبي خرج، واللعنة حقت علينا جميعا.
وسد فاها بقوة. وحاولت التخلص من يده عبثا. اضطربت انفاسها وخارت قواها فسقط مغشيا عليها. ولبث قايين واقفا يحمل الجثة في صمت وخزي مركزا بصره على المصباح ليتجنب النظر اليها. واتجه ادم نحوه، فساعده على وضع الجثة على الفراش. ثم سجاها برفق. ونظر قايين الى جثة اخاه المسجاة على الفراش الذي اقتسماه طوال العمر فشعر بأنه لم يعد له مكانا في الدار. وحركت حواء رأسها، ثم فتحت عينيها فبادر ادم اليها وهو يقول في حزم:
اياك ان تصرخي.
وارادت ان تنهض فساعدها على النهوض وهو يحذرها من احداث صوت . وهمت بالارتماء على الفراش فحال دون ذلك، فوقفت مغلوبة على امرها واندفعت تنفس عن كربها بشد شعرها بقسوة فانتزعت خصلات. وكانت تقول بأنين مكتوم:
– ابني!.. ابني!..
فقال ادم في ذهول:
– هذه جثته، وهذا هو قاتله، اقتليه ان شئت.
ولطمت خديها وقالت لقايين:
– ان احط الوحوش تتبرأ من فعلتك.
فحنى قايين رأسه في صمت على حين قال الاب:
– هل تذهب هذه الروح هدرا؟ لا ينبغي ان تحيا، هذه هي العدالة.
فهتفت حواء:
– كان الامس املا مشرقا، واليوم جثة هامدة. كيف هان عليك يا صخر القلب! لست ابني ولست امك!
لم ينبس قايين بكلمة لكنه قال لنفسه: “قتلته مرة وهو يقتلني مرة كل لحظة، لست حيا. من قال اني حي؟!”. وسأله ادم بحدة:
– ماذا افعل بك؟
فقال قايين بهدوء:
– قلت انه لا ينبغي ان احيا.
فهتفت حواء:
– كيف سوّلت لك نفسك قتله؟!
فقال قايين في يأس:
– لا جدوى من النواح، القتل اهون مما اعاني.
فقال الاب بحنق:
– ولكنك جعلت حياتنا ايضا افظع من الموت.
وهبت الام هاتفة وهي تلطم خديها:
– لا احب هذه الحياة، ادفنوني مع ابني، لماذا لا تدعني اصوّت؟
فقال ادم بمرارة:
– شفقة على حنجرتك وخشية ان يشمت بنا ابليس للمرة الثانية.
صوتت حواء دون اكتراث وكانت تقول: اتركوني ابكي على القاتل والمقتول. يا ويلي! لماذا افقدكما انتما الاثنان في يوم واحد؟
فقال قايين باستهانة:
– اني مستعد للعقاب، ولست اكترث للحياة.
ثم وهو يتراجع نحو باب الكوخ صاح:
– لا مكان لي بينكما بعد الان.
وانطلق في الظلام راكضا.
قيّم هذا المحتوى من فضلك: