الاباء الروحيون هم اطباء نفوس حقيقيون. انهم لا ينطقون ابدا بأقوال عاطفية باطلة لا طائل منها، انما هم يعطون العلاج الذي قد يكون في اغلب الاحيان مرا علقما، ولكنه دواء ذو فاعلية ناجعة. ما من احد يخرج من لدن اي اب روحي وهو في حالة يأس او اي نوع من الاسى، بل يغادر المرء المكان عادة وهو منتعش الروح، متجدد القوى، متألق الوجه بالفرح.
الاباء الروحيون بصفة عامة ليست فقط حكمتهم العالية هي التي تعمل وحدها، بل ايضا فاعلية صلواتهم وقوة محبتهم الابوية الواضحة – التي يقدر ان يدركها في الحال كل من يتعامل معهم – فالاب الروحي هو صورة منعكسة لحب الله نحو البشر. بعد مقابلته ولو مرة واحدة ، يستحيل على الانسان ان يحيا كما كان من قبل، بل من هذه اللحظة فصاعدا ستتجدد قيمة كل الحياة بعد التلامس مع هذا البهاء الذي لنور النعمة. ملايين من الناس يعيشون في كنف ابائهم الروحيين، عاملين بمشوراتهم التي يعطونهم اياها.
قال البعض لابيهم الروحي: “لقد عرفنا المسيح يوم عرفناك”.
وقال اخرون “ان كان ابونا (فلان) هكذا، فكم يكون المسيح!”
كان فوج من الناس يلاحق ابونا ابراهيم وهو خارج من القداس، يشع وجهه بنور النعمة. كان الناس يشعرون بقوة النعمة الحالة فيه والمنبعثة منه. لذا فقد كان الكثيرون يقبلون عليه، يلثمون يده، ويلمسون ثوبه، واثقين ان قوة روحية كانت تسري منه.
اما ابونا ابراهيم الذي كان مثالا حقيقيا للتواضع. كان يقول دائما: انني حصيرة تحت ارجل الناس.
اذكر مرة ما حدث معه بعد انتهاء خدمة القداس، كنا مجموعة من الشباب في انتظاره في صف طويل داخل الكنيسة، لنأخذ بركة منه، ونقبل يده، واذا بشخص – اعرفه جيدا – يدخل الكنيسة، وكان قد وصل لتوه. كنت اعرف ظروفه الصعبة. وكانت حتى ملامح وجهه تظهر معاناته، وشتان بين وجهه وبين الوجوه الاخرى التي كانت عليها مسحة من الهدوء والسلام بعد الاشتراك في صلاة القداس.
وقف مترددا، وهو يتخذ مكانه اخر الصف الطويل ليطلب البركة كالاخرين، وعندما اقترب منه سأله الاب مستفسرا عن المكان الذي اتى منه، .. ثم احتضنه وهمس في اذنه ببضع كلمات.. كلما اتذكر هذا المشهد اجد نفسي غاية في التأثر..
انه ليس باطلا ان يسمى الروح القدس “الروح المعزي”. في احد المرات كنت اعترف وبدأ ابونا ابراهيم يكلمني مباشرة عن خطاياي. ولكنني خرجت من عنده في غاية العزاء كما لو انني كنت في الفردوس .. ابونا ابراهيم لم يكن يعرف الردود العامة. فكانت اجابته لكل واحد غير الاخر، وقد كانت اجابات نافعة وحاسمة . وكان يقول “ان لكل انسان طريقه الله الى الله”.
اذكر انني رأيته عندما كان يتحدث مع زوجة خالي، وكانت حزينة جدا بسبب عدم الانجاب. قال لها اثناء توزيع الاولوجيا (البركة) عبارة قصيرة اعتقد انها كانت عن ان الله يعلم ما هو صالح للانسان دائما، فمن الممكن ان تنجب ابنا يتعبها.. ولكن هذه العبارة التي يمكن ان يقولها اخرين دون تأثير يذكر، كانت بلسما شافيا لقلبها المتألم. وبعد سنوات طويلة عندما كانت في زيارة لوالدتي ذكّرتها بهذا الموقف، وبالسلام والراحة التي لا توصف التي شعرت بها حينذاك واستمرت معها الى هذا اليوم..
اذكر انني رأيته عندما كان يتحدث مع بعض الانسات اللائي كن يطلبن بركته للتوفيق بالزواج. ومسألة الزواج باتت يعتريها مشاكل وعقبات كثيرة. لهذا السبب كان الاباء يعظون كثيرا على وجوب التدقيق في اختيار شريك الحياة. وعلى تربية الابناء وانها مسؤولية كبيرة.
عندما طلبت الانسة .. ان يصلي لاجلها لتجد شريك حياة. القى عليها هذا السؤال:
اتقدرين ان تنجبي قديسا؟ اذا قدرت على هذا تزوجي.
وقال لاخرى:
انت انسانة مجتهدة علميا، والشهادة العلمية عندك امر اساسي، بينما الزواج يتطلب كثيرا من التضحيات. فهل انت مستعدة ان تضحي بانشغالاتك العلمية لتكرسي الجانب الاكبر من وقتك من اجل امور تبعث لك السأم مثل: التدبير المنزلي، والمعاناة من اجل ضروريات الحياة وتربية الاطفال، والغسيل والتنظيف؟ فاذا كان سيكون لك اطفال فلابد بالضرورة ان تقومي بهذه التضحية”. وهكذا كان يكلم كل من يأتي اليه بطريقة مغايرة، الواحد عن يختلف عن الاخر بحسب حاله.