
استقل القديس برفيريوس يوما عربة للذهاب الى احد القرى التابعة لايبارشيته. وفي الطريق كانت اعواد القمح الناضج تنتصب. وبدت الاكداس المتجمعة بعيدا تظهر كرجال يفلحون الارض. فيما هو يصعد الى العربة حدج السائق بنظرة حادة. فكر السائق بذلك لفترة في الطّريق واخيرا مدفوعا بتأثير لا يقاوم خاطب الاسقف قائلا: ان الذي يثيرني ليس هو البرق والرعد فهذه قد اعتدتها ولكنها النظرات الغامضة. لم نظرت اليّ هكذا وانت تصعد الى عربتي؟
فاجأ القديس سّائق العربة بقوله: خير لك أن تتوب طالما الفرصة سانحة أمامك، لأنّه ليس أسوأ من أن يموت الإنسان بلا توبة!.
للحال، صرخ السّائق بغضب: مَن أنت حتّى توجّه إليّ كلامًا كهذا وكأنّي مجرم؟!.
ثم أوقف سيّارته بجانب الطّريق، وأخذ يسبّ ويلعن، وهو في هياج ثم أخذ يصيح: اخرج، اخرج، من عربتي!. لأنّي لن أقبل أن آخذك إلى أيّ مكان!.
خرج القديس بهدوء، وهمس في أذن السّائق ببضع كلمات: أَما تعرف هذا المكان؟!. ذهل الرّجل كأنّ صاعقة نزلت به!. إذ ذاك وضع القديس يده عليه واقتاده باتّجاه شجرة في المكان!. هناك، تحت الشّجرة، جلس وإيّاه، وأخذ يحدِّثه لبعض الوقت!. أصغى الرّجل جيِّدًا لما قاله له رجل الله!. ولمّا انتهيا من الكلام، وقفا وتوجّها نحو السّيّارة، وقد بدا كأنّ السّائق قد فارقه الحنق والعنف واستحال حملاً وديعًا، والدّموع في عينيه!.
صعد القديس إلى العربة، من جديد، بهدوء، وكذلك فعل السّائق!. ثمّ انطلقوا حتّى بلغت العربة، بمَن فيها، الموضع الّذي قصد رجل الله التّوجّه إليه!. هناك ترجّل قدّيسنا وانطلق السّائق ليعترف بجريمته امام القاضي.!.
***
ماذا جرى؟ ما الّذي أدّى بالسّائق إلى هذا التّحوّل الكبير!.
كان السّائق قد قتل رجلاً، وطمره عند تلك الشّجرة الّتي يجلسان هو والقديس في ظلها الان. أُجريت التّحقيقات بشأن اختفاء الرّجل القتيل. في اليوم الّذي التقى رجل الله السّائق، كانت المحكمة منعقدة. عندما قال الأب للسّائق: خير لك أن تتوب طالما الفرصة سانحة أمامك، تحرّك ضمير هذا الأخير واهتاج ردًّا للتّهمة عن نفسه!. ولمّا همس في أذنه ببضع كلمات، أشار إلى القتيل الّذي طمره هناك بجانب الشّجرة. وإذ وضع يده عليه، كان السّائق في حال ذهول، وانصاع كأنّه في الدّينونة وداخلُه مكشوف بالكامل لربّه!. ثم حكى للقديس جريمته وذكر أنّ شبح القتيل يَحضره باستمرار في نومه ويعذّبه ويضربه، فيصحو من نومه منزعجا، والمواضع من جسده الّتي ضرب فيها تؤلمه بشدّة!. وختم كلامه قائلا:
– لا اعرف ماذا افعل؟ انا في جحيم يوميّ!. ما العمل؟
– عليك ان تعترف بجرمك وتنال قصاصه.
– لكن جرمي ارتكبته منذ امد بعيد. وقيدت الجريمة ضد مجهول. اذا لم يتأذى احد.
– ليست الجريمة نزهة، ولا إن نسيها مرتكبُها تنساه!. وطالما لم تتب عنها وتعترف بها بقلب موجوع ونفس مستعدّة للتّكفير عمّا اقترفته يداك، فإنّ الخطيئة ستبقى تنخر فيه، من حيث تعي ولا تعي، كما ينخر السّوس في الخشب!.
– وماذا اذا كان حكم القاضي بالاعدام؟ ان اقتلاع ضرس يخيف فما بالك باقتلاع الحياة؟
– مهما كان عقاب القانون صارمًا، إذا ما قضيت نَحبَك ولمّا تتب، بصدق ودموع كثيرة ونخس قلب، فستلقى في الظّلمة الخارجيّة!. مَن لا يشاء أن يعود إلى صوابه ليُصلح نفسه، لأنّه مكتف بصورته الحسنة عن نفسه بين النّاس، ويتذرّع بأنّ الله رحيم، يكون غبيًّا!. ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟ الحياة هنا معطاة لنا لهدف واحد فقط: أن نعدّ أنفسنا للحياة الأبديّة!. و اما عن الموت فسوف تعود الينا الحياة بالقيامة.
صمت القاتل و انهمرت الدموع على خديه ثم اردف:
– لكن الله رحيم كما قلت انت. ارجوك قل شيئا يطمئنني.
– الله رحيم؟!. بكلّ تأكيد!. لكنّه يرحم التّائبين لا غير المبالين بالتّوبة!. يرحم إذ بطول أناته، يعطينا أن نصلح أحوالنا!. أمّا إذا تمادينا باللاّمبالاة، والكذب، والتّبرير الأجوف، والاختباء وراء مظاهر خداعة، فإنّ جرحنا يتكلّس بالأكثر، ولا يعود، بمرور الوقت، قابلاً للشّفاء!. بإمكاننا أن نكذب على النّاس، ولكنْ، أنكذب على الله؟!. طالما لا طاقة لنا على ضمان حياتنا ساعة واحدة ههنا، فماذا ترانا ندّخر لأنفسنا؟!.
– لكني لا استطيع الان.
– التّوبة لا تقبل التّأخير ولا التّبرير!. كلّما أجّلناها صارت أصعب!. وكلّما بالغنا في الهرب من ضميرنا كلّما مات الحسّ فينا!. ان خيط الخطية رفيع هين لكن حاول ان تخرج من الشبكة فلن تجد الا زيادة ضغطها وامساكها بك فلا تستطع الافلات ان لم يخلصك اخر. لذلك “الجأ بنفسك الى الله فتستريح” كما قال الانبا موسى الاسود.
قيّم هذا المحتوى من فضلك: