كان الظلام حالكا في الخارج، والسماء قد تلبدت بالغيوم، واخذت الريح تهب. نزل ايفان الدرج واعان ابنه وهو يمتطي صهوة جواده ، وبعد ان لكزه وقف ينصت. وقفز الى ذهنه كلمات خصمه غبريال في المحاكمة بالامس، كان يقول مههدا اياه: عليك ان تحذر ، ان شيئا مما لك قد يحترق اكثر من احتراق ظهري بالسياط.
اصبح الصوت شيئا فشيئا يدوي في اذنيه. واخذ يقلب الفكر.. ثم قال سأقوم بجولة حول بيتي.. من يدري ربما كان ينوي ان يحرق حظيرة المواشي او الجرن.. وجال ببصره هنا وهناك.. وبدا له ان هناك شبحا يتحرك عند الزاوية الاخرى ، ظهر ثم اختفى. ووقف في هدوء يرهف السمع ، كل شئ كان ساكنا فيما عدا اوراق الصفصاف في حفيفها، وخشخشة اعوا القمح الجافة تحركها هبات الريح. في البدء رمق شرارة وعندما وصل الى ابعد اركان البيت وجد ان الشرارة هذه كانت مشعلا واستطاع ان يرى بوضوح رجلا على رأسه عمة … اه ، انه لا يستطيع ان يهرب وسأمسك به متلبسا.
كان ايفان ما زال على بعد وهو يسرع الخطى بحيث لا يسمع وقع اقدامه. لكن لم تكن الشرارة صغيرة كما كانت. لقد خرج اللهب من القش الى الحنطة وسرعان ما تصاعد اللهب الى السقف وفي ضوء اللهب وقف غبريال خصمه واضح الملامح.
وانقض ايفان على غبريال، كما ينقض الصقر الجارح على البلبل المغرد.
لن يفلت من قبضتي، ولكن غبريال يبدو انه سمع وقع اقدام ايفان، دار وركض وسرعان ما غاب.. ركض ايفان في اعقابه وهو يصيح لن تفلت من قبضتي.
وعندما هم بالامساك به هوت على رأسه ضربة بلوح من خشب البلوط اطاحت به، وكأن حجرا ثقيلا سقط على وجنته وصب في اذنيه ضجيجا كفحح الافعى ، ضجيجا اصم اذنيه.
وعندما عاد الى وعيه كان المنزل قد اصبح وقودا للنار.. ةرفع ايفان يديه وهو يصيح امام من تجمع. ما هذا يا اصحاب كان يجب ان اجذب الشعلة من تحت القش وادوسها بقدمي فينتهي كل شئ.. واخذ يردد هذه الصيحة مرارا وتكرارا.. وضاع صوته.. اراد ان يجري لكن قدميه لم تطيعاه وتحرك ببطء وكان يترنح كالسكران ، وقد تقطعت انفاسه.
وفي بيت ايفان استطاعوا بالجهد ان ينقذوا اباه الشيخ ونجى افراد العائلة بملابسهم فقط. احترقت الحظيرة والدواجن والعربات والمحاريث والاثاث والحبوب في المخزن..
في الصباح حضر احد الصبية يدعو ايفان.. عم ايفان ، ان اباك في النزع الاخير ، لقد ارسلني اليك لكي تأتي وتودعه الوداع الاخير.
عندما وصل ايفان الى ابيه، كان العجوز مستلقيا على مقعد طويلا ممسكا بشمعة كما جرت العادة عند اجراء سر مسحة المرضى. وظل في صوت خافت يقول. هل حدث يا ايفان ما سبق ان اخبرتك به؟ من الذي احرق القرية؟
واجاب ايفان: انه هو يا ابي. لقد امسكته متلبسا.
وعاد العجوز مؤكدا: هانذا اموت .. خطية من ما حصل؟
وحدج ايفان اباه في صمت ولم يستطع ان ينطق بكلمة.
– الان .. امام الله.. قل لي على من تقع تبعة الذي حدث؟
وعندئذ فقط استرد ايفان وعيه وادرك حقيقة ما حدث وسعل وهو يقول: “انا المخطئ يا ابي.”
وسقط على ركبتيه وهو يقول:
اخطأت يا ابتاه اما م الله وقدامك.
– ايفان ماذا ينبغي ان تفعل؟
اجاب ايفان وهو يجهش بالبكاء:
– انني لا اردري كيف سنعيش بعد الان يا ابي؟
اغلق العجوز عيناه وتمتم بشفتيه كمن يستجع قواه ثم قال:
– تستطع ان تدبر ذلك. عندما تتبع مشيئة الله، يمكنك تدبير الامر.
ورانت فترة من الصمت ولاحت على شفتي العجوز ابتسامة وهو يقول:
– احترس يا ايفان لا تقل يئا عمن اشعل الحريق. استر على خطية اخيك.
ثم تنهد ومد اطرافه واسلم الروح..
ولم يقل ايفان كلمة ضد غبريال، ولم يعلم احد سبب الحريق. وانطفأت جذوة العداوة في قلب ايفان. وفي البداية كان الخوف يملأ قلب غبريال ولكنه مع مرور الوقت زاد اطمئنانه. كف الرجال عن مشاجراتهم وهكذا عائلاتهم ايضا. وعندما بدأوا اعادة بناء البيوت التي تهدمت ، اقامت الاسرتان في بت واحد وعندما تم بناء القرية، وكان يمكن ان يسكن احدهما بعيدا عن الاخر، بنى ايفان وغبريال بيت الواحد لصق الاخر فضّلا ان يعيشا متجاورين.
لقد اقاما كما ينبغي للجيران ان يتعايشوا. لم يغب عن ذهن ايفان وصية ابيه ان يطيع وصية الله ويكون من صانعي السلام، واذا اخطأ اليه احد لا ينتقم لنفيه. اذا وجه اليه اح لفظا قاسيا فبدلا من ان يرد الصاع صاعين فانه يحاول ان يعلم الاخر الا يستخدم كلمة بطالة وهكذا لقن هذا الدرس لامراته واطفاله. ونهض ايفان على قدميه مرة اخرى ، وينعم بحياته الان افضل من ذي قبل.
منقولة بتصرف واختصار
تولستوي