راجعت ما كتبت بسرعة .. نسيت ان اذكر انني احببت تسمية البطل بنفس اسمي، فربما اضمّن القصة جزء من سيرتي الذاتية و خبراتي الشخصية – رحت اكتب:
“.. دلف المهندس “مختار” بسرعة الى قاعة السفر في مطار القاهرة الدولي. حقيبته الشخصية في يد وجواز سفره في اليد الاخرى.. وتقدم بثقة نحو حاجز التفتيش. بمجرد ان رفع بفخر تذكرة الطائرة في وجه الحارس حتى تنحى الرجل جانبا وسمح له بالدخول الى داخل الصالة المزدحمة بخليط عجيب من البشر وحقائب السفر والعربات التي تحملها والحواجز والاوراق واللافتات الضوئية والاصوات المتداخلة المربكة، ولكنه بجدية وتركيز توجه من فوره الى الموظف المسؤول عن وزن الحقائب وتحديد ابواب الخروج”..
لم اكتب اكثر من هذا وظلت بقية الجمل معلقة مبتورة. نظرت الى ساعة يدى. ما زال امامي بعض الوقت. امسكت القلم لكي اكمل. فالافكار كانت حاضرة مشعة بداخل ذهني: ان “مختار” ذاهب الى الولايات المتحدة الامريكية في بعثة علمية لدراسة الهندسة الالكترونية، ونظرا لتدينه – فهو من خدام مدارس الاحد في الكنيسة المجاورة لمنزله – اقنعه اب الاعتراف بانه سوف يكون ذو فائدة كبيرة لتعليم الاولاد في المهجر. الالحان والطقوس القبطية الاصيلة. ولذلك تجده فخورا ومعتزا بمهمته وكذلك فان امريكا تعد من الدول الكبرى ومجرد الذهاب للدراسة بها يعتبر فرصة عظيمة. وهناك احداث يجب ان اجعلها تقع لبطلي “مختار” في داخل الطائرة لكي تسهل له حياته في ارض غربته. وعندما يصل سوف يكون هناك عقد امامه تحتاج الى حل ومشاكل وتجارب صعبة ستصاغ لاختباره. حتى نصل الى نهاية القصة الرائعة بنجاحه الواضح الاكيد في كل التجارب فقد كان مختارا منذ البداية طالبا متفوقا وملتزما ويجب ان يداوم ذلك حتى يتوج بنجاحه في نهاية القصة.
رحت اكمل الكتابة هكذا..
“مد الموظف يده لاخذ جواز السفر. ولكن ما حدث بعد ذلك كان غريبا. فلم يكد الرجل يقرأ سطر منه حتى اعاده في عصبية عجيبة الى مختار قائلا :
– اين بقية الاسم وباقي البانات من عنوان وتاريخ المؤهل؟ ثم امسك التذكرة بيده وسأله بحدة هل انت متاكد من اسم الولاية التي تنتي السفر اليها؟
احتار مختار جدا وتلفت حوله في ذهول ولم يجد جواب .. ضربت مقدمة جبهتي بيدي قائلا:
كم انا غبي! لقد نسيت ان اكمل باقي بيانات جواز سفر مختار واكتفيت بان اعطيه اسمه الاول فقط، كذلك لم ابين له ابدا اي الولايات سوف يسافر اليها، ولذلك وقف المسكين محتارا امام الرجل واسقط في يديه ولم يجد جوابا.
بسرعة كبيرة بدأت في ملء خانات جواز السفر بالمعلومات. حاولت ان اكتب بعجلة حتى لا يلاحظ الموظف ما يحدث. ولكن قبل ان اقول لمختار اسم المنطقة، دق جرس باب الشقة بالحاح. حاولت ان انهض لكي افتحه، ولكن عيني الموظف ذات النظرة الحادة المتسعة الغاضبة جعلت اقدامي تتخشب ويدي تواصل الكتابة . دق جرسالباب مرة اخرى فبسرعة البرق اوضحت لمختار همسا بان يعتذر لهذا الرجل ويلملم اوراقه من امامه ويمضي ليبحث عن المكان الخاص بالسفر الى الولايات المتحدة الامريكية ريثما اقوم بفتح الباب، ومن ثم اعو اليه ثم نهضت بسرعة.
وجدت جامع القمامة الشاب المبتسم دائما – ولعجبي – على هذا في ايامنا الصعبة هذه – وهو يمد يده يطلب صندوق كل صباح. ركضت واعطته اياه وعقلي مستغرق مع مختار خائفا من ان يخطئمرة اخرى، فهو في المطار وهذا مكان متسع شائك وممتلئ برجال الامن واي خطأ اخر قد يوقع ببطلي في مأزق حقيقي ولن استطيع ان اصلحه مرة اخرى.
اعاد الشاب الصندوق بعد ان افرغه وظل مبتسما ايضا – من غيظي منه، سألته:
– علام تبتسم؟ ما هو الشئ المفرح في حياتنا حتى تصاب بهذه السعادة؟
رد الشاب الطيب وهو يقبل يديه ظهرا وبطنا:
– الحمد لله على كل شئ يا دكتور. طالما ربنا موجود، وستر ربنا موجود، فكل شئ سيكون خير ان شاء الله.
تعجبت من بساطته وسذاجته الواضحة.
ما ان ادار ظهره حتى صفعت الباب بسرعة وركضت وارتميت على الاريكة وامسكت القلم باحثا عن مختار . لحسن الحظ كان يقف امام الموظف الصحيح هذه المرة. فحرّكت الاحداث بسرعة. خاصة لأن الوقت قد ازف وحان الذهاب الى المعمل. انهيت المشهد بأن “مد الموظف الاوراق بلطف وحدد لمختار بوابة الخروج رقم “سبعة” وانهى كلامه قائلا له:
– امامك يا فندم ساعة ونصف حتى ميعاد اقلاع الطائرة.”.
حمدت الله كثيرا فهذا وقت كافي لي جدا للذهاب الى الكلية – ابتسم مختار بسعادة حقيقية ومرق بثقة كبيرة الى الصفحة التالية من القصة.
كان شابا والمستقبل امامه كبير. احبب ان اضخ واشحن بعض المشاعر الايمانية في قلبه. ولكن كان وقتي قد انتهى فتركته واقفا وحيدا في قمة الصفحة البيضاء ةوالقيت بالقلم جانبه ونهضت منزعجا ابحث بسرعة عن هاتفي المحمول ومفاتيح السيارة.
قررت في اللحظة الاخيرة ان احمل اوراق القصة معي فالتجربة اليوم تستلزم انتظار تشغيل عدة اجهزة معملية وانتظار ظهور نتيجة التحاليل وقد يسمح هذا الوقت بمتابعة تأليف الاحداث .
من موقعي على باب الشقة لاحت مني التفاتة الى رقعة الشطرنج في الركن الخاص باللعب. كان ملكي الابيض ما زال واقفا وهو يكاد يصرخ من موقفه المحرج الصعب،ولكن ما باليد حيلة، فمحاولة انقاذه الان تتطلب ني وقتا واهتماما وتركيزا وهم من اندر الاشياء في حياتي كلها.
بينما العامل يمسح زجاج سيارتي الامامي في وسط ضجيج الشارع، اخبرني بواب العمارة بحزن ان ابنته الصغيرة مريضة جدا، وبأن الدواء باهظ الثمن، وانا انسحب بهدوء راجعا الى الخلف بالسيارة وضعت في جيبه مبلغا بسيطا، فرفع يداه الى السماء امام المارة داعيا لي بالبركة.فابتسمت لنفسي وانا راض عنها تمام الرضى فربنا اوصانا ان نعطي في الخفاء حتى لمن لا يستحقون مثل هذا البواب عصبي المزاج.
كانت حركة المرور فظيعة. وكانت هناك كوكبة من الافكار تتخبط في عقلي بلا انتظام. تتداخل مع صوت عال لبعض الترانيم التي احب تشغيلها في كاسيت السيارة بينما اقود، ليسمعها الناس من حولي ويستفيدوا حتى لو كنت انا لا انتبه اليها كثيرا.
صرخت بشدة وعنف في قائد احدى السيارات لانه توقف جانبا برغم الزحام الشديد- لانزال ابنه الصغير امام المدرسة المقابلة ووصفته باوصاف معينة صعبة بل وحنقت عليه وتمنيت وجود شرطيا في هذه اللحظة ليقيض عليه.
من الغيظ فقدت التركيز وكذلك المنعطف الذي كنت اريد الدوران منه فوجدت نفسي وقد وقعت في بحر من السيارات التي تسير ببطء شديد في الاتجاه المعاكس لوجهتى. كدت انفجر غيظا من هؤلاء الذين لا يراعون القانون او النظام او حتى قواعد الذوق ومشاعر الاخرين. من اصعب الاشياء ان يكون الطريق هو الذي يقود الانسان وليس العكس. ولكن لم يكن امامي مفر. اضطررت لمتابعة السير مع التيار منطلعا لاية فرصة للهروب.
بالمصادفة السعيدة لمحت على الجانب مطحنة البن.فانحنيت جانبا بسرعة – غير عابئبقواعدالمرور او ظروف الزحام الشديد، فقدكنت متعجلا.
ركنت السيارة وهبطت بسرعة شديدة. اخبرت التاجر انني محتاج لعبوة من “البن المحوج” الخاص طلبت منه سرعة اعداده لأن سيارتي تركن في “الممنوع”. لكنه اخبرني ان سيستغرق ربع ساعة لاعداده.