ليليان تراشر

200px-lilliantrasher_2

ليليان تراشر هي من رواد العمل الاصلاحي. ولدت بولاية فلوريدا بامريكا سنة 1887م وجاءت الى مصر في 5 اكتوبر 1910م لتساهم في تنمية المجتمع من خلال العمل في مأوى للاطفال. اسست الجمعية الخيرية بأسيوط والتي تحمل اسمها في 10 فبراير 1911م.

كتبت ليليان تراشر في يناير 1960م تقول: “ها قد مضى الزمن بسرعة – وانا ارجع اليوم بذاكرتي الى الماضي منذ خمسين عاما استعرض فيها عملي مع المصريين – وعمل المصريين معي ثم عمل الله معنا اجمعين.

نعم.. قد قدمتم لي اجل مساعدة ووقفتم معي واشتركتم معي في تشييد هذا الصرح الكبير الذي سيبقى مع الزمن… يؤدي رسالة جليلة.

لقد برهنتم انكم اوليتم من الانسانية ونبل الشعور وحب الخير ما جعلني اؤمن ايمانا قويا بنجاح العمل بصفة مستمرة. فلكم جميعا عظيم شكري. واليكم اهدي هذا الحديث.

-1-

دعوتي للعمل:

“.. اذهب اليوم امل في كرمي(مت21: 28)

كنت ابلغ الثالثة والعشرين من عمري – وكان عملي في ذلك الحين مساعدة سيدة تدعى “ماتي بيري” في ادارة ملجأ في “مارليون في كارولينا بامريكا” وحدث ان ذهبت في احد الليالي لسماع عظة تلقيها احدى المرسلات عقب رجوعها من الهند – وما ان بدأت تسرد في حديثها عن احتياج الانسانية المعذبة الى من يمد يد العون ويقف بجوارها .. حتى شعرت بان جاذبا خاصا يشدني للذهاب الى افريقيا.

ولكن كيف..؟

انه نداء من اعماقي للخدمة والعمل – وزادت حيرتي – لا ادري اي سبيل اسلك، لقد صرفت كل ما املك استعدادا لحفلة زفافي التي لم يبق عليها سوى عشرة ايام ولم يعد معي سوى جنيها واحدا.. وماذا يفيدني هذا المبلغ الزهيد.. وهب انه افاد.. فكيف اسافر..؟ انني محصورة بين امرين – هل افضل الزواج، ام افضل الله واطيع هذا النداء الصريح منه للخدمة في هذه البلاد.

وظننت انه في الامكان ان اوفق في حل وسط.. فعرضت على خطيبي ان يرافقني للعمل في افريقيا.. ولكنه رفض.. وعندها تركته.. واذعنت لامر الله.

واعددت حقيبتي استعدادا للرحيل واخبرت اصدقائي بعزمي على الرحيل فقدم لي بعضهم مبلغ مئتين وستين قرشا واخبروني عن مؤتمر للمرسلات يقام في بتسبرج. فكرت ان اذهب اليه – للالمام بمعلومات عن طبيعة الخدمة في هذا المجال.. وقلت لنفسي “لعلني اصل الى الجهة التي يريدني الله ان اذهب اليها في افريقيا”

اودعت نقودي عند مس “ماتي بيري” صاحبة الملجأ في ماريون، وبدورها حفظته في درج مكتبها.

ولما كانت اختها تجهل ان هذا المبلغ يخصني ، فقد اخذته وسددت بها ديونها ولم اسمع بما حدث الا عند الرحيل.. وحاول اصدقائي مساعدتي ولكن لم يكن لديهم ما يكفي لتغطية المبلغ المطلوب وما قدم لي لم يكن كافيا لوصولي الى بتسبرج..

وبينما كان الجميع قد خرجوا لتوديعي عند رحيلي. لم اشأ ان ابعث الضيق بعدولي عن الرحيل. لذلك قررت ان اقطع المسافة التي تسمح بها النقود التي معي والتي كانت لا تكفي الا لذهابي الى واشنطن. وكانت مس بيري اخبرتني بانها ستعطيني خطاب توصية الى صديقتها هناك لامكث عندها حتى تتمكن من ارسال باقي المبلغ الذي يكفيني للسفر الى بيتسبرج.

وفي الوقت المناسب وصلت الى واشنطن – ووجدت صديقة مس بيري والتي ما ان فضت جواب التوصية حتى قالت لي: “معذرة يا عزيزتي، كان يسعدني ان تنزلي ضيفة علينا لولا انه نزلت في ضيافتنا عائلة مرسلة تعمل بمدينة اسيوط بمصر ولكن تفضلي لتناول طعام الغداء معنا”.

وكان المرسل الذي تكلمت عنه السيدة والذي تعرفت عليه على المائدة هو القس “برلسفورد” وقد قدمتني السيدة اليه كمرسلة للخدمة في افريقيا. عندها سألني :

– اي جهة تقصدين في افريقيا؟

انا؟ .. لست ادري..

– حسنا، ما هي الهيئة التي تتبعينها؟

– لست اتبع اي جهة على الاطلاق.

اذا فعائلتك هي التي ارسلتك.

– كلا.. بل ان عائلتي لم توافق على رحيلي البتة.

– اذا هل معك اجرة السفر؟

معي ريال واحد.

وربما يكون من الافضل الا اسرد عليكم كل ما قاله او فكر فيه القس برلسفورد..

ولكنني لم ارجع الى عائلتي بل ذهبت الى افريقيا.. “امين هو الله الذي دعاكم. الذي سيفعل ايضا”.

لقد اعارتني احدى السيدات غرفتها فمكثت معهم يومين. وقبل مغادرتي طلب مني القس ان اصحبه الى العمل في اسيوط. فاجبته حسنا . لقد كانت هي ارادة الله التي قادتني الى مقابلتك.

حضرت المؤتمر وعند انتهاؤه سمح لي الرب ان اجتاز امتحانا اخر..

-2-

بداية العمل في كرم الرب:

ان الطفولة هي صانعة المستقبل، ومن واجب الاجيال العاملة ان توفر لها ما يمكن لها من تحمل مسئولية العمل بنجاح.

تستطرد ليليان في مذكراتها فتقول:

“سارت الباخرة تعبر المحيطات .. حتى وصلا الى ارض النيل الخالدة، بلاد الفراعنة الامجاد. وعند وصولي توجهت الى اسيوط حيث وصلت هناك في 26 اكتوبر 1910م.

وقصدت جمعية القس برلسفورد ولم يمض وقت طويل حتى شعرت بالحنين الى وطني واسرتي، ولكن سرعان ما تبدلت مشاعري فانني اليوم افضل البقاء في مصر.

وبعد ثلاثة شهور من وصولي، طلب مني ان ازور ارملة فقيرة تشرف على الموت وذهبت لاجدها طريحة الفراش وهي تحتضر في غرفة مظلمة، لا يشاركها فيها سوى طفلتها التي لم تبلغ من العمر سوى شهورا قليلة، وهي تجرع اللبن من اناء من الصفيح متسخ وقد انتن اللبن واخضر لونه، والطفلة لا تزال تحاول ان تشرب منه.

وما برحت الام ان لفظت انفاسها الاخيرة، وسلمت الطفلة الي فحملتها الى البيت.. ان  جسم الطفلة بدى كما لو تستحم منذ ولادتها، وبدت كما لو كانت ملابسها قد حيكت عليها .. لا يمكنكم ان تتخيلوا الروائح الكريهة التي انبعثت من تلك المخلوقة المسكينة.

وعلت صيحات الطفلة وزادت مما اقلق راحة المرسلات ليلا.. فما كان مني الا ان استأجرت منزلا بجنيهين ونصف شهريا، واشتريت بالقليل الباقي من النقود عض الاثاث.

وكان ما حدث في 10 فبراير 1911م هو النواة الصغيرة لمؤسسة ليليان تراشر باسيوط.

-3-

ايامنا الاولى

“اما انا فاغني بقوتك.. وارنم برحمتك لانك كنت ملجأ لي ومناصا في يوم ضيقي(مز59: 16)

كان اول تبرع للمؤسسة سبعة قروش قدمها ساعي تلغراف. انه قدر زهيد وبداية بسيطة ولكننا لا ننسى القول “لانه من ازدرى بيوم الامور الصغيرة”(زك4: 10)

في البداية لم يقبل الناس لتقديم ايتام الى المؤسسة فهم لم يسبق ان رأوا شيئا من هذا القبيل – ان يرغب شخص في ايواء الاطفال والانفاق على غذائهم وكسائهم وتعليمهم ويعتني بهم بلا مقابل.. وبدون اجر!

واعتقدوا انه لابد ان يكون في الامر سرا خفيا. ربما اعتقدوا انني سأخطف الاطفال الى امريكا. لذلك فلم احتضن في العامين الاولين سوى ثمانية اطفال، وكانت تلك فرصة لتعلم اللغة العربية. وذلك اتاح لي فرصة ان اقوم بحسن تهذيب الفوج اول من الاطفال حتى انهم اصبحوا لي فيما بعد خير عون وسند في خدمة المستجدين من الاطفال بعدئذ.

-4-

المؤسسة تجتاز حربين عالميتين

“بخوافيه يظللك وتحت جناحيه تحتمي”(مز91: 4)

نحن الان في اواخر 1939م وقد ارتفع الصوت مدويا بنشوب الحرب العالمية الثانية في اوربا، وتذكرت عندها الحرب العالمية الاولى وكيف جلبت الخراب والدمار والشقاء على الجميع.. وتذكرت كيف انه في عام 1919م طلب مني ان اغادر اسيوط لاكون في مأمن ولكنني رفضت حينها ان اترك ابنائي في هذا الحال المضطرب..

زادت المتاعب عندما انقطع وصول المساعدات الخارجية الينا.. وفي نفس الوقت الذي قلت فيه الموارد كانت الاسعار ترتفع فيه.. نعم.. ماذا تريد يا رب ان افعل؟ لطالما تردد في نفسي هذا السؤال وانا اترقب بين لحظة واخرى الجواب الشافي. وفي وسط هذه الافكار المتزاحمة مر الشهر الرابع منذ بداية الحرب وظن الجميع اننا سنترك رعاية الاطفال كما تفعل المؤسسات الاخرى.

ولكن الشكر لله الذي عالنا.

الم يعل الله شعبه اربعين سنة في البرية؟

او ليس هو هو امس واليوم والى الابد؟

فما ان هل الشهر الخامس حتى وصل بريد من امريكا به المعونة التي عوضتنا عن الاشهر السابقة بل واكثر. لقد حققنا الكثير من المشروعات .. لقد استطعنا ان نشيد عيادة داخلية للعلاج، بمساعدة مالية من اختى الكبرى “جيني بنتون” التي كانت رغم بساطتها جميلة ومستكملة الاجهزة الطبية. وما ان فرغنا من البناء حتى حضر الينا طبيب متطوع من اسيوط يعرض علينا خدماته المجانية.

وبعد ذلك شيدت المدرسة الابتدائية. وتمكنا ايضا من الاستغناء عن الطلمبات التي تسحب الماء من باطن الارض وبدأنا في استخدام ماكينة رفع المياه. وارتفع الصهريج عاليا ووزعت الصنابير على جميع الابنية.

-5-

البيت في شكله الجديد

“كما قصدت يصير .. وكما نويت يثبت”(اش14: 24)

ان الرب قد عظم العمل معنا.. واليوم وبعد انتقال الام لليان هناك:

  • المئات من ابناء هذا البيت قد شقوا طريقهم في الحياة يساهمون في خدمة الوطن.
  • ان المؤسسة تقوم على ارض سعتها اثنا عشر فدانا وتضم اثني عشر مبنى رئيسي- الكنيسة والعيادة والمدرسة والمخزن وصالة طعام وحمام سباحة وغيرها.. عدا الحدائق.
  • ان المؤسسة ليس لها مورد ثابت بل تحيا معجزة اشباع الجموع معتمدة على الله وعلى التبرعات الفردية والاشتراكات لتغطية مصروفاتها.

وفيما يلي ثلاث قصص تكشف لنا عن اعمال الرعاية الالهية.

قصة :

في 19 نوفمبر 1927م كنا مشغولين جدا من الصباح الباكر ونحن نحاول ان نرتب كل شئ حتى تبدو المؤسسة جميلة في نظر السياح الذين كان ينتظر وصولهم بعد الظهر، والذين ربما يتبرعون بمبالغ كثيرة.. وجاء الزوار وكان عددهم كبيرا جدا ورحبنا بهم وقدمنا لهم النشرات الخاصة بالمؤسسة وابدى الزوار انبهارهم بمشروعات المؤسسة.

وبينما كنت مشغولة في مرافقة السياح اثناء تفقدهم منشئات المؤسسة المختلفة رأيت رجلا فلاحا من اهل البلد تبدو عليه علامات الفقر، فوقفت ودعوته ولكنه ما ان لمح الاجانب حتى خجل وتراجع وقال “لا. ليس الان”.. بلغت تبرعات السياح جميعا مائتين وستين قرشا.. وبعد ان غادروا اذ بذلك الرجل البسيط يتقدم ويسلمني حوالة بريدية بعشرة جنيهات وكدت اضحك بصوت عال، فقد علمني الله درسا فقد قضيت اسبوعا كاملا في اعداد الاماكن والاولاد لاستقبال السياح الاغنياء وكل ما تبرعوا به هذا المبلغ لكن هذا الرجل العجوز البسيط المظهر يتبرع بعشرة جنيهات. حقا ان طرق الله ليس كطرقنا وافكاره ليست كافكارنا.

قصة اخرى:

في عام 1930م حدث ان كنا في احد الايام في حاجة الى مبلغ مائة وعشرين جنيها لمرتبات المدرسة والعمال وكنا مديونين ايضا بمبلغ 30 جنيها لصاحب المخبز الذي يورد لنا الخبز والذي اخبرنا انه سيتوقف عن توريد الخبز اليوم التالي لانه يحتاج الى المال.. ماذا افعل؟ ان مئات الارامل والاطفال يحتاجون الى الطعام.

كان الرب قد وضع في قلب احد المحسنين في ولاية كنساس بامريكا ان يرسل تبرعا فذهب الى البنك ووقع شيكا ووضعه في خطاب الا انه اخطأ في كتابة العنوان فكتب “اسيوط – الهند” بدلا من ان يكتب “اسيوط – مصر”. وتعهد الله المحب هذا الخطاب بأن رجل البريد اخطأ ايضا فوضع الخطاب في جملة الخطابات المرسلة الى مصر.. وهكذا لم يتأخر الخطاب يوما واحدا.

وصلنا الخطاب بعد ظهر اليوم الذي اشتدت فيه ضيقتنا وبه مبلغ مائتي جنيه.

قصة ثالثة:

في عام 1947 حدث ان اجتاح وباء الكوليرا مصر ومات بسببه مئات الالوف في ساعات معدودة.. وقررت ليليان الا تقبل اطفالا جددا الى ان ينتهي الوباء فانه لو دخل الوباء الى المؤسسة فمعنى ذلك ابادة للاطفل في المؤسسة. الا انها بعد هذا القرار بايام قليلة قابلها رجل فقير ممزق الثياب ومعه ولدان بدا عليهما الهزال وسوء التغذية وقال لها الرجل العجوز ان ام الولدين توفيت وانهم قد ساروا على اقدامهم عشرة ايام فلم تستطع لليان ان ترفض طلبهم.

وفي صباح اليوم التالي ابلغت الفتاة المشرفة على قسم الاطفال الصغار ان احد الولدين كان يعاني من القئ والاسهال طوال الليل وهما بالذات اعراض الكوليرا فذهبت لليان ورأت بنفسها الولد واستدعت الطبيب الذي امر بعزله حالا وثبت انه اصيب بالكوليرا ومات بعد بضع ساعات..

وتستطيع ان تتصور هلع لليان وانكسار قلبها. فقد كان ذلك الولد نائما في عنبر به خمسون ولدا اخرا وقد تناثر القئ علىى سريره وعلى ارض العنبر ووجدت لليات نفسها وجها لوجه امام الوباء واقامت الشرطة حجرا صحيا على المؤسسة منعا لانتقال الوباء.

والمعجزة هي انه مرت عدة ايام ولم تظهر اعراض المرض على احد وهكذا فك الحجر عن المؤسسة.

قالوا عنها:

جريدة الاهرام في 10 ابريل 1968م

كمال الملاخ

ماتت الغريبة الحلوة القادمة من بعيد ولم يمت اسمها الذي ناداها به اكثر من 15 الف طفل اصبحوا رجالا ويدات خلال 55 سنة الاخيرة.

جريدة وطني في 28 يناير 1979م

امضت الانسة / لليان تراشر نصف قرن من حياتها تبذل الجهد والمال من اجل اليتامى ليعيشوا حياة مسيحية كريمة.

القس باقي صدقة:

جمال المسيحية العاملة يظهر في هذا اللقب الجميل “ماما” الذي اطلقته الاجيال على لليان تراشر.

وحينما سئلت عن التعب الذي تجده في عملها اجابت:

انني افضل حياتي في هذه الخدمة عن ثروة امريكا .. ليس هناك اروع من ان تتمكن من مساعدة الذين يحتاجون اليك وليس لهم سواك.

يوميات وحيد #11

baby

يوقظه دوي هائل وعنيف.. من سباته. يفتح عينيه بصعوبة ، مبهور الانفاس، يتصبب عرقا.. ينتابه الاحساس بالضيق البالغ، الجاثم فوق صدره .. من كل شئ وحتى نفسه!.. يصيبه ضعف شديد . يلف رأسه دوار حاد، يفقده توازنه، وهو لا يزال في فراشه! .. ينظر حوله. وزوجته تغط في نومها.. وبطنها المتكور – والذي لم يبل بعد عقب الولادة الاخيرة- يعلو ويهبط مع تتابع انفاسها العميقة! .. وعلى سرير مجاور ، تتكدس بناته الخمس.. المستغرقات في النعاس ، هن ايضا ..

حدّق في ساعته طويلا .. حتى استطاع معرفة الوقت .. على ضوء القمر الشاحب المتسلل عبر النافذة المفتوحة باستحياء.. فيا للغرابة! انها نفس الساعة التي يهب فيها من النوم كل ليلة .. على هذا الدوي، الذي لا يوقظ احدا في الغرفة الا سواه (!!) ..

ظهرت يد الرضيع من تحت الغطاء، صغيرة ووردية اللون واخذت بين الفينة والاخرى ترتجف عند ملامسة خده. ابتسم وهو يشعر بالراحة تغمره فجأة. وللحظة تناول الطفل ووضعه على ذراعيه وهدهده برقة، وارتاح لهذه الفكرة. فهي فكرة رائعة, اب يهدهد ابنه ، انها لصورة قديمة قدم الحياة، ومتجددة في الوقت نفسه طالما ظلت الحياة، عندها شعر وحيد بالدفء يملأ قلبه وبالعاطفة تجتاحه.

عندئذ استيقظ الطفل واول ما استيقظ منه كان انفه الضئيل ، استنشق الهواء، وزفره بدفعات قصيرة وكأنه يعطس، ثم فرك انفه وفتح عينيه. كان لون عينيه يشبه لون الرخام الابيض وتشعان بنور صاف. سمع الدوي مجددا .. في الحال تبخرت فكرة الحياة الشاعرية حول علاقة الاب بابنه وضاعت معها رائحة الام الطيبة. وشعر بنفسه كمن انتزع من غلالة الافكار الحالمة التي احاط نفسه والطفل  بها في خياله.. وضع الصغير في مهده ونهض بحركة سريعة .. عندئذ بدأ الطفل بالبكاء، فرك عينيه بظهر احدى يديه الصغيرتين، فتح حلقومه الاحمر على اوسع مداه، واطلق عقيرته بالبكاء جعل وحيد يجفل فمد يده وتناول الطفل مهدهدا اياه وصارخا بصوت يعلو على صراخ الطفل: “دادا دادا” محاولا اسكات الطفل. لكن صراخ الطفل ارتفع وازرق وجهه وبدأ كأنه سيتوقف عن التنفس، الامر الذي جعل الدم يتجمد في عروقه.. تستيقظ الام فيناولها الرضيع.. ما ان يشعر بصدر امها ويسمع نبضات قلبها حتى يهدأ .. اما هو فانه يترك المنزل ويجلس وحيدا على كومة حطب ، كانت قد رتبت قطع الخشب فيها كمقعد ، كانت تفوح من طبقة الحطب رائحة كالتي تقع من احتراق بطئ. اما جدار المستودع فكانت تضوع منه في هذا الدفء رائحة الراتينج. جلس مادا ساقيه على كومة الحطب مسندا ظهره الى الجدار وعيناه مغلقتان ودون ادنى حراك، استلقى مثل دمية خشبية مثل بينوكيو.. يظل يفكر ويفكر..