كثيرا ما نحكم على الاخرين بمقاييس خارجية : فنحكم على منظرهم، وعلى نسبهم واصلهم، وليس هكذا ينظر الله للناس ، فنظرة الله غير نظرة البشر: الناس ينظرون الى المظهر الخارجي، اما الله فينظر الى القلب.
ترك سمعان الاجتماع ورأسه مرفوع زهوا وعجبا وخيلاء، فقد قاد جماعة المؤمنين في الصلاة، بل انهم طلبوا منه ان يلقي فيهم خطبة قصيرة.
فكر في نفسه: “سائر الشيوخ يحترمونني – وهكذا يجب ان يكون. على اي حال لا يستطيع احد في المدينة ان يقول: انه اكثر تقوى مني!
وعندما وصل الى بيته ابتسم لزوجته ابتسامة الظافر، ولم تقل شيئا وهي تواصل تجهيز العشاء، لكنها قالت في نفسها: “سيحكي لي الكثير وهو يتناول العشاء. ما اسعدني بهذا الزوج المتدين! كل النساء يحسدنني على زواجي من هذا الرجل الذي يحتل مكانة هامة في بلدنا!”
كان سمعان يأخذ حماما ساخنا حتى يتم تجهيز العشاء. وفي اثناء الطعام كان قلبه مفعما بالبهجة!
كنت اود ان تريني! لقد تركت اثرا كبيرا على الشيوخ وانا احدثهم عن الخطية. وبختهم على خطايا الزنا وعدم دفع العشور وعلى الكذب والسكر، واهمال الصلاة،..
وقاطعته زوجته: “رائع! على الناس ان يتحاشوا هذه المعاصي لينالوا رضى الله، وانت خير قدوة لهم يا زوجي العزيز!
واسترسل سمعان يمدح نفسه مجددا: “وعدما انتهيت من خطبتي كان المجتمعون محدقين فيّ ومصغين تمام الاصغاء.. لقد بدا الناس امامي جامدين في اماكنهم وكأن على رؤوسهم الطير!
لقد حاول سمعان ان يتحاشى الكبائر، فابوه قائد ديني كبير يحترمه الجميع، وكذلك جده. وفكر سمعان في نفسه: “اه لو رآني ابي الان لامتلأت نفسه بالفخر بي”
بعد العشاء ذهب سمعان لغرفته ليقرأ وفي اثناء القراءة تطلع من النافذة فرأى في ركن الشارع فتاة جميلة تبيع الليمون، لم تكن هذه اول مرة يلحظها. واستمر ينظر اليها ويحلم بسعادة اللحظات التي يقربها فيها اليه! ولو ان بعض نفسه قالت له: انه يجب الا يفكر هكذا..! ولكنه عاد يقول لنفسه: “ولكي لم اضر احدا – انني لم اخطئ ولم ارتكب الزنا معها!”
علم سمعان انه لن ينفذ ما فكر فيه – واسعده كثيرا حلمه بالفتاة! وقال لنفسه “كل واحد يفكر مثلي، ولاحظ في هذا. انا افعل الصالح دوما، ولا ضرر في التفكير!” ثم وضع كتابه جانبا وجعل يفكر في بائعة الليمون معه وحده!
وفي الجانب الاخر من المدينة عاش رجل غني كوّن ثروته من الحرام، كان يحصّل الضرائب لمصلحة المستعمر الروماني، فكان يتقاضى اكثر كثيرا من المطلوب لحسابه الخاص.
المطلوب عشر قطع من الفضة.
هذا ظلم ! انت تعلم ان المطلوب هو ست فقط.
قال زكا: “عظيم! تعال الاسبوع القادم، وادفع ستا”
فصرخ الفلاح: “وتطلب من الشرطة ان تلقي القبض عليّ لاني لم ادفع الضرائب. كلكم – يا جامعي الضرائب – سواء.. لصوص!” والقى بالقطع العشر من الفضة ومضى.
وبعد نهاية عمل اليوم رجع زكا الى بيته. كان زكا مثل سمعان رجلا هاما، ولو ان زكا كان مكروها. لم يكن احد يصادقه ا زملاؤه في مهنته اي من العشارين جامعي الضرائب – وما اكثر ما ضايقه هذا، ان يكون مكروها من بني امته!
ولكنه كان يقول لنفسه ملطفا من ثورته الداخلة: “يبدو انه لابد من وجود اعداء للانسان..”
ولكن في اعماقه كان يعلم ان حالته اردأ من ذلك، كان يخدع الناس ويخدع الله”
عندما وصل الى البيت سلم حصانه الى احد الخدم، وما ان اقترب من باب بيته حتى اسرع نحوه احد زملائه من جامعي الضرائب، وحيّاه قائلا:
– “صديقي زكا! جئت ادعوك لحضور حفل عندي، ستحضر نسوة كثيرات وانهار من الخمر!”
– “لا، ش…شكرا ليس الليلة. اشكرك!”
ودخل زكا بيته واغلق الباب وقال زكا في نفسه عن زميله: “ماذا دهاه؟ ما اغرب تصرفاته!”
ومسح زكا عرقه وشرب كوبا من الماء، واكتشف ان يده ترتعش، وقال لنفسه “يبدو لي احيانا ان كل الناس يركضون الى الجحيم!” ثم جلس في كرسيه المفضل.
وتثبتت نظراته على درج كان يقرأ فيه من كتابات الانبياء القدامى، والهبت الكلمات المكتوبة قلب زكا، وجعلته يشعر بعدم الراحة، ولكنه لم يقدر ان يتوقف عن القراءة، كان الكلام عن محبة الله ورغبته في ان يكون للانسان صلة به، كان هذا مثل الماء البارد لنفسى زكا العطشى. لكن التوبة هي شرط الصلة مع الله.. هذا يعني ان يهجر طريقه الضال ويكره خطيته .. وبدا هذا الشرط اصعب من ان يقبله زكا.
وامسك زكا بالدرج وهزه وكأنه يوجه له الاتهام قائلا:
“فيك سر مشاكلي! اتركني لحالي! هل تريد ان تكشف فراغ نفسي؟”
ولم يكن هناك صدى لصرخات زكا، ولكنه كان يعرف الاجابة. لقد كشفت كلمات الدرج حالته كما يراها الله، وعاد يفتح الدرج ليجد مكتوبا فيه: “قال لهم: هذه هي الراحة، اريحوا الرازح.. ولكنهم لم يشاءوا ان يسمعوا”.. هنا بدأ زكا يبكي كطفل وهو يقول: “يا رب، انا الرازح طالب الراحة”.
كان زكا يدرك ما يجب ان يفعله – ان يغير ثيابه. ويذهب للصلاة.
وقال لنفسه وهو يرتدي ثيابه ويستعد للذهاب للهيكل : “ربما احاطي الله برحمةاذا تبت اليه”. ثم اتجه للباب
في الوقت نفسه كان سمعان يستعد للذهاب الى الصلاة، واحصى ما معه من مال ليدفع عشره للفقراء. كان في قمة السعادة والفخر لانه يفعل كل شئ “كاملا” – واتجه الى باب بيته.
واتسع فم سمعان بابتسامة كبيرة وهو يلقي نظرة على بائعة الليمون. كان سعيدا انها تبيع بجوار بيته فتمنحه فرصة التملي من منظرها.
ومر بجماعة تستمع الى واعظ يتحدث عن البر الحقيقي، فوقف وسمع بضع كلمات:
سمعتم انه قيل : لا تزن، واما انا فاقول لكم: ان كل من ينظر الى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه!” وتوقف زكا في الوقت نفسه ، ليستمع للكلمات نفسها : “فان كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها والقها عنك ، لانه خير لك ان يهلك احد اعضاءك ولا يلقى جسدك كله في جهنم!”. وعندما انهى الواعظ كلامه وبدأ سامعوه ينصرفون – جعل سمعان يفكر في نفسه:
“هل الشهوة في القلب توازي الزنا؟ مستحيل!”
ولكنه كان يعلم في اعماق نفسه ان هذا الكلام صحيح. اما زكا فقد اسرع نحو الهيكل بعد ان سمع هذه الكلمات وهو يقول لنفسه: لا اريد ان يلقى جسدي كله في جهنم!”
ودخل زكا وسمعان الهيكل في الوقت نفسه. وحيّا العابدين قائلا: “سلام الله معكم”.
ولكنهم لم يعيروه اهتماما ولم يبادله احد بالتحية. لقد فكروا في انفسهم هكذا “كيف يجرؤ مثل هذا الشرير ان يكلمني؟”
سمعان لم يرد عليه ايضا، فقد سبق ان غش زكا سمعان.
اما زكا فقد وقف من بعيد لا يقدر ان يرفع وجهه لاعلى وقرع بيده على صدره وقال: “اللهم ارحمني انا الخاطئ. اغفر لي ذنوبي. سأعطي المساكين نصف اموالي، وارد لكل من ظلمته اربع اضعاف. انا تائب.. تائب.. فلتشمل برحمتك الواسعة عبدكم الخاطئ.
ورأى الله قلبيهما وهما يصليان، وسمع الله لصلاة واحد منهما فقط. كانت تلك صلاة زكا المنسحقة. فقد قبل الله توبته ونزل الى بيته مبررا مقبولا عند الله.
===
“لان كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع”.