في هذا اليوم كان وحيد يسير بغير هدى في الطرقات.. وفجأة وجد نفسه يقف عند البيت الذي اصبح فارغا من الحياة متهدما. فارتجف وشعر كأن سياطا لاذعة انهالت عليه ، فاسرع الى اقرب عمارة، وانكمش على نفسه الى جانب درجات المدخل حيث قضى ليلته الاولى في وحشة الظلام، ولم يفق في الصباح الا على ركلات بواب العمارة الذي طارده حتى ناصية الطريق.
بعد فترة عثر على بناية قديمة يسكنها مجموعة من الفتيان المتشردين. كان هؤلاء الفتيان ضحية علاقات اسرية مفككة وازواج بلا مسؤولية، هجروا اولادهم فالتهمتهم الطرقات والازقة وانقاض البيوت. كانوا يتضورون جوعا ويقدمون على اي شئ يوفر لهم الطعام. ومن جملتها مغافلة بائعي الخضروات المتجولين في احياء المدينة، وسرقة بضائعهم، بل كان بعضهم يتباهى بمنجزاته البطولية. ومهارته في الافلات من قبضة العدالة. انها حياة مفعمة بالشقاء والتعاسة. كانوا يحيون في العراء فالشتائم والمشاهد الجنسية التي توحي بها اليهم مخيلاتهم اصبحت احاديث ونكات شيقة يتداولونها ويضحكون لها وان كانت مجردة من الحقيقة.؟
من بين هؤلاء الف وحيد اثنين من رفاق الجوع سامر وعصام. كان وحيد قد احتفظ بالمال الذي اودعته اياه عمته، فراح يصرف منه على نفسه وصديقيه دون ان يحمل هما للايام القادمة، كان يبحث كل منهم عن عمل لايام كثيرة ولكن عبثا كان بحثهم. ظلوا هكذا حتى نفذ ما مع وحيد من مال. واضطر الجوع ثلاثتهم لان يضاعفوا بحثهم عن عمل .
خرج ثلاثتهم للبحث عن عمل. حتى عثر على عمل في مكتبة لبيع الكتب القديمة. حينما وقف بباب المكتبة سأله صاحبها:
– ماذا تريد يا فتي؟
– انني ابحث عن عمل.
– لا عمل لديّ. انت ترى السوق شحيح هذه الايام- قل انتاج الكتب وقل ايضا الاقبال على القراءة من الناس.
– لكني احتاج الى عمل.. احتاج الى نقود.. انني اتضور جوعا
كان منظره يستدر شفقة اي انسان مما دفع صاحب المكتبة ان يقول له:
– لا بأس سأتقاسم معك معيشتي. سأعطيك ثمن وجبة طعام كل يوم. و شيئا اول كل شهر، قرابة 3 جنيهات.
– لكن هذا يغنيني عن جوع.
– حسب كفاءتك في البيع، سأعطيك نسبة اضافية من الربح.
– وهو كذلك!
وجد وحيد تسلية كبيرة في عمله. كان بطبعه يحب القراءة. راح يقرأ كثيرا. كما وجد في احاديثه مع الزبائن ، واغلبهم من المثقفين، فرصة طيبة لتحصيل المعرفة والخبرات المتنوعة في الحياة.. وواتته فكرة ان يؤلف كتبا لتكون مصدر دخلا اضافيا له. بعد عدة كانت الفكرة قد اختمرت في عقله فبدأ في كتابة يومياته.
في هذا اليوم استل ورقة وقلما وراح يكتب:
“انا الان امرق بين صفوف الجموع التي احتشدت للحصول على كيلو لحم او علبة جبن.. كثر في هذه الايام احتيال التجار وغش المنتجين. واتهم الناس الحكومة بالتقاعس عن انصاف المواطنين الغلابة من جشع التجارة. واعلن رئيس الحكومة انه لن يسمح بامتصاص دماء الفقراء، وانه سيفرض رقابة صارمة على مدى الالتزام الاسعار و بجودة المنتجات.
حقا، ليس للفقير في الدنيا والاخرة الا الله. قام الناس في كل العصور بثورات واطاحوا بالحكام الطغاة، فكان الحام الجدد ابشع من اسلافهم. ومنذ بداية التاريخ كان استعباد الانسان للانسان سنة مهما تبدلت التسميات في ايامنا . لم يعرف التاريخ تفاقما للرأسمالية وتحكمها بمصائر الشعوب كتفاقمها اليوم. باسم العمال شنق العمال. وباسم الديمقراطية ذبحت الديمقراطية. وادعوا ان الديمقراطية انواعا وطبقات. الشعب كقطيع الغنم يهيم بلا حول ولا قوة ولا راع. واصبح الجهل ضاربا بجذوره حتى النخاع و استسلم البسطاء للدجالين والمشعوذين وادعياء العلم والدين.
سرى الكذب كالبرق في كل مكان. وتجادل الناس في كل مكان عن الاحداث التي عاشتها البلاد في الايام السابقة فقال البعض انها الثورة- وقال فريق انها انتفاضة. وقال اخرون: كلا، انها لا هذا وذاك انها مؤامرة. وقال المتفلسفين انها شئ لم نجد له اسما مناسبا بعد.
***
و تمضي الايام ..
وحيد و صاحبيه سامر وعصام ، اللذان وفقا هما ايضا بعد فترة في العثور على عمل. كان ثلاثتهم يعيشون معا. يذهبون الى العمل كل صباح ويعودون في حلكة المساء الى البيت للمبيت، ومن حين لاخر تضج الدنيا حولهم بصيحات الابتهاج و الفرح او تنوء اكتافهم بما يحملوه من عبء العمل.
وجد عم اسكندر في وحيد ثقافة واسعة. فكان يحب ان يناقشه في موضوعات الحياة كلما اتي الى المكتبة ليشتري كتبا، وكان يفعل ذلك مرة كل شهر. كان عم اسكندر موظفا في الحكومة وهو الان تقاعد. لذا كان يرى في القراءة شيئا مسليا ونافعا لقضاء وقته.
في هذا اليوم بادر عم اسكندر بالسؤال:
– قل لي يا وحيد. كيف ترى اوضاع البلد الان؟
– الحياة حلوة ومرة، سماء صافية تغطي صفحتها البهجة وان كانت تمرق بها بينن الحين والاخر غمامة من الكآبة، انها معاناة كبيرة يتخللها اوقات منعشة من الراحة.
– لكن الا ترى معي ان كان كل فريق يراها بمنظوره الخاص . خبراء الاقتصاد يرون ان الحياة اضحت كسادا هائلا هو نتاج وضع اقتصادي متردي، وقال السياسيون انها لعبة خاسرة وهي نتاج فساد سياسي.
– نعم، وانتظر الفقراء ان تنزاح الغمامة يوما،دون جدوى. في كل الدنيا غيرة وحسد ومنافسة ومزاحمة.
ومسح جبينه فجأة وهو يسأل عن امر طالما ارّقه التفكير فيه:
– ولكن لماذا لا ننعم بالرخاء والسلام؟
– لأن الشر يملأ الارض.
– لكن النضال ضد الشر ضروري.
– ناضل اخرين قبلك وزرعوا الحنطة فنبت العلقم بدلا منها.
– ولكن يبقى افراد صالحون في كل مكان..أليس كذلك؟
– لا شك ، لأنه لو خلت الارض منهم لاضحت الارض مثل سدوم وعمورة وآلت الى نفس المصير.
– نشكر الله.ولكن كيف جنيت هذه الحكمة؟
– الايام والزواج.
– وهل انت سعيد في زواجك؟
– السعادة الزوجية وهم . هناك ايجابيات وسلبيات. تفنى الزوجة عمرها لارضاء الزوج ويفعل الزوج نفس الامر لاسعادها. وان لم يفعلا ملّ احدهما الاخر، واصبحا تعساء.
– اريد ان ألتقى قريبا لاستوضحك بعض الامور؟
– السبت يناسبني. يشرّفني ان تزورني.
– اذن سأزورك يوم السبت القادم.
– على الرحب والسعة.